ارتفاء الانسان

تأليف: ج . بعرو نو فسكعى ترجمة: ه. موفق شخاشير و مراجعة: زهير الكرمي

اا مكونر سلسلة كتب ثقافية شهرية يبدرها المبلس الوطف؟ للثقافة والفنون والأداب الكوية صدرت السلسلة في يناير 1978 بإشراف أحمد مشاري العدواني ١990 ١1923‏

39 ارتقاء الانسان

ترجمة: د. موفق شخاشير و مراجعة: زهير الكرمي

! ©

المضوع

الفصل الأول: حصاد الفصول

الفصل الثاني: نسيج الحجر

ال

ل

الفصل الرايع: موسيقا الاجرام

العصيال |القاامينة رسول الى النجوم

الفصل السادس: الكون كساعة مهيبة الانتظام

الفصل السابع: الانطلاق نحو القوة

الفصل الثامن: سلم الخليقة

الفصل التاسع: عالم ضمن عالم

39

67

593

2

|47

]/3

]/3

213

تنويه

يود المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب شين الى ادي الشااض الذي اقتضته مراجعة هذا الكتاب. ذلك لأن مؤلف الكتاب عالم وأديب ومؤرخ واسع الثقافة؛ وقد جاء كتابه شاملا لهذه الميادين كلها. بكل ما تتضمنه من مصطلحات خاصة وتعبيرات فنية دقيقة.

ولقد كان من الطبيعي أن تكون ترجمة كتاب كهذا عملا يفوق قدرة أي باحث واحد . ومن ثم فإن المجلس-إدراكا منه لهذه الحقيقة-قد كلف الأستاذ زهير الكرمي بمراجعة الترجمة التي بذل فيها الدكتور موفق شخاشيرو أقصى ما يملك من جهد, وقد اضطلع الأستاذ الكرمي بهذه المهمة بكفاءة واقتدارء وكان الجهد الذي بذله فيها يفوق بكثير جهد المراجع بالمعنى المألوف. بل انه لم يكن يقل عن جهد المترجم الأصلي.

ويعرب المجلس عن تقديره لروح التعاون وإنكار الذات التي أبداها كل من أسهم في إخراج هذا الكتاب في صورته النهائية.

أحمد مشاري العدواني

الأمين العام

مقدمه

وضعت خطة هذا الكتاب الأولى في الشهر السابع من عام 1969. وتم تصوير آخر جزء من فيلم السلسلة التلفزيونية التي عملت تحت عنوان هذا الكتاب في الشهر الأخير من عام 1972 . ومهمة بهذه الضخامة لا يتنكبها المرء بخفة. رغم ما تثيره فيه من إحساس مدهش بالحيوية والحبور. ذلك أنها تتطلب جهداً وعزماً لا يلين؛ وفاعلية فكرية لا تنضب. وبالتالي تستلزم انغماساً كلياً في موضوع كان علي أن أتأكد من قدرتي على الاستمرار فيه برغبة وسرور. فثملاً الب ذلك متي تأجيل عضن الأبحاث التي كنت قد بدأتها قبلاً. وأشعر بأن علي أن أبين السبب الذي دفعني لذلك.

في المقرين مانا الأخيره حدث تغير في أولويات ما يُعني به العلم؛ فبعد أن كان الاهتمام مركزاً حول العلوم الطبيعية؛ انتقل هذا التركيز نحو علوم الحياة. ونتيجة لذلك اتجه العلم اكثر واكثر نحو الفردية أو دراسة الفرد . ولا يكاد المراقب يعي ما يقوم به العلم في هذا العصر في مجال إحداث أثر بعيد المدى في تغيير صورة مفهوم الإنسان. وكمختص في الرياضيات وتطبيقاتها الفيزيائية كان يمكن أن أبقى-أنا أيضاً-جاهلاً بهذه التطورات لولا سلسلة من المصادفات السعيدة التي دفعتني نحو علوم الحياة وأنا في منتصف العمر. وإني لمدين للحظ السعيد الذي أدخلني رحاب علمين رئيسيين في مدى عمر واحد . وبالرغم من أني لا

ارتقاء الانسان

أعرف من أدين له بهذا الفضلء إلا أنني أعتبر كتابي هذا سداداً لهذا الدين وعرقاناً بهذا الجميل.

وكانت هيئة الإذاعة البريطانية قد دعتني إلى أن أقدم موضوع تطور العلوم في سلسلة برامج تلفزيونية تماثل تلك التي قام بها اللورد كلارك حول موضوع الحضارة. والتلفزيون وسيط ممتاز لعرض الأفكار من عدة وجوه: فهو ذو أثر قوي وسريع على العين؛ وقادر على نقل المشاهد حسياً إلى الأماكن والحوادث التي يجري وصفهاء وهو-بعد-ذو طابع تحادثي إلى الحد الذي كل المشاهد يحس بأن ما يراه ليس مجرد أحداث بل أفعال أناس. وهذه الميزة الآخيرة هي-في رأيي-أكثرها إقناعا. وهي التي دفعتني إلى قبول هذه المهمة التي تتضمن حسب أفكاري ومعتقداتي العلمية في سلسلة برامج تلفزيونية. وبمعنى آخرء أعتقد أن المعرفة بشكل عام؛ والعلم بشكل خاصء ليسا عبارة عن أفكار مجردة: بل هما أفكار من صنع البشر, وقد كان ذلك منن بداية المعرفة وحتى آخر النماذج العلمية الخاصة. ولذلك فإنه يجب أن يُبين بوضوح لا لبس فيه أن المفاهيم والأفكار الأساسية التي جلت أسرار الطبيعة قد انبثقت-منذ القديم وفي أبسط الثقافات-من قدرات الإنسان الذاتية والخاصة. وأن تطور العلم بالتالي؛ الذي يصل بينها في روابط متزايدة التعقيدء إنما هو بالمثل عمل إنساني. بمعنى أن جميع الاكتشافات العلمية هي من منجزات البشر. وليست مجرد نتاج عقلي. ولذا فهي منجزات حية؛ وتحمل سمة الأفراد الذين حققوها. ولا خير في التلفزيون إذا لم نستطع بوساطته تجسيد هذه الأفكار.

إن توضيح الأفكار ونشرها-على أية حال-جهد فردي خاص وحميم. وهذا الأمر صفة مشتركة بين التلفزيون والكتاب المطبوع. فالتلفزيون-بعكس المحاضرة والفيلم السينمائي-ليس موجهاً في الأصل نحو جمهور كبير. بل يتوجه نحو شخصين أو ثلاثة موجودين في غرفة وبذا يتخذ شكل محادثة وجهاً لوجه ذات اتجاه واحد على الأغلب. والتلفزيون بذلك يشبه الكتاب, إلا أنه أكثر قرباً و بساطة وأشبه بأسلوب سقراط من الكتاب. وكشخص مهتم ومنشغل الآن بالتيارات الفلسفية الكامنة وراء أصول المعرفة؛ أرى أن هذه الصفة هي أهم خاصة مميزة للتلفزيون؛ وهي التي ستجعل منه قوة فكرية مؤثرة ومقنعة كالكتاب. ولكن للكتاب ميزة تعطيه حرية إضافية: فهو

مقدمه

غير مرتبط بزمن محدد بدءاً وانتهاء. كما هو الحال بالنسبة للحديث المقول (في التلفزيون).. فقارئ الكتاب يستطيع أن يفعل ما لا يستطيعه المشاهد كأن يتوقف عن القراءة» ويفكر فيما قرأ. ويعود إلى صفحات سابقة؛ ويعيد قراءة نقاش ماء ثم يقارن حقيقة أو واقعة معينة بأخرى, وبشكل عام بوسعه تفهم تفاصيل الأدلة دون أن يضيع عليه ذلك متابعة الفكرة. وقد استفدت من هذه الخاصة حيثما أمكنني عند وضع هذا الكتاب بأن أضفت على الورق إيضاحات لما قيل في سلسلة البرامج التلفزيونية. وقد تطلب ما قيل في تلك البرامج مقداراً كبيراً من البحث والتمحيص, الأمر الذي قاد بدوره إلى كشف كثير من الترابطات والأمور الغريبة غير المتوقعة. ومن حسن الحظ أنه أمكن تضمين هذا الكتاب قدراً كبيراً من ثراء تلك الأبحاث ونتائجها . وكان بودي لو أمكنني أن أفعل اكثر من ذلك؛ وأن أضمنه صفحات واقتباسات تفصيلية من نصوص المصادر التي استند إليهاء ولكن ذلك كان سيجعل منه كتاباً أكاديميا موجهاً للطلاب وليس للقارئٌ العام.

و ينبغي التنويه هنا إلى أنني عندما نقلت النصوص التلفزيونية إلى هذا الكتاب: حاولت تقل الكلمات والعبارات كنا قيلت في تلك النصوصء وذلك لسببين: الأول أنني أردت أن أحفظ تلقائية الفكر وعفويته التي تتجلى في الكلام المقول؛ وهو الآمر الذي حرصت عليه بشدة حيثما ذهبت (ولنفس السبب اخترت الذهاب إلى كثير من الأماكن التي كانت جديدة بالنسبة لي كجدتها بالنسبة للمشاهد). والسبب الثاني. وهو اكثر أهمية:؛ أنني أردت أن أضمن كلقاكة وغقوية النافضق ذلك أن اإتافكة العلامية المفرية غير مصطنعة وليست ذات قالب رسمي ولذا تدفع المشاهد للبحث والتقصي. كما تتميز بأنها تصل إلى لب الموضوع وتظهر أهميته وإثارته وجدته. وكذلك تشير إلى طريق الحل واتجاهه؛ لأنك تلمح على الرغم من بساطتها أن المنطق المستخدم فيها سليم ومستقيم. وبالنسبة لي يكون هذا القالب الفلسفي للمناقشة أساس العلمء ولا يجوز أن يحجب النور عنه أي شيء.

إن محتوى هذه المقالات أو الأحاديث أوسع في الحقيقة من حقل العلم الرحبء وكان علي أن أجد لها عنواناً آخر غير ارتقاء الإنسان لولا أن في ذهني خطوات أخرى في تطور البشرية الفكري. وطموحي في هذا المجال

ارتقاء الانسان

كما هو الأمر في كتبي الأخرى العلمية منها والأدبية: هو خلق فلسفة للقرن العشرين تكون وحدة متكاملة. فهذه السلسلة؛ كما هو الحال فى الكتب الأخرى. تقدم فلسفة لا تاريخاً. وعلى القفييق فلسفنة الطبيعة لا قاسفة العلم. إن موضوعها يشمل المفهوم المعاصر لما كان يسمى سابقاً بالفلسفة الطبيعية.... وفي اعتقادي أننا الآن في مرحلة ذهنية مناسبة تؤهلنا لوضع هذه الفلسفة اكثر من أي وقت مضى خلال القرون الثلاثة الماضية. و يعود ذلك إلى أن الاكتشافات الحديثة في بيولوجيا الإنسان قد وجهت التفكير العلمي وجهة جديدة بحيث تحول الفكر العلمي من دراسة الخصائص العامة إلى الخصائص الفردية؛ وذلك لأول مرة منذ أن فتح عصر النهضة باب المعرفة المطل على العالم الطبيعي. ولا يمكن أن توجد فلسفة, كما لا يمكن أن يوجد علم يستحق أن يسمى كذلك: بدون الإنسانية. وكل ما أرجوه أن يكون هذا المفهوم واضحاً في هذا الكتاب. وفي رأيي أن فهم الطبيعة لابد أن يتخن له هدفاً وهو فهم الطبيعة الإنسانية وفهم الوضع الإنساني ضمن إطار الطبيعة. إن تقديم وجهة نظر في الطبيعة في إطار هذه السلسلة من البرامج التلفزيونية يمثل تجربة بقدر ما هو مغامرة. وأنا شاكر لكل من جعل التجربة والمغامرة أمرين ممكنين.. وأنا مدين أولاً وقبل كل شيء لمعهد سالك للدراسات البيولوجية الذي دعم منذ أمد طويل أبحاثي في موضوع الخاصية الإنسانية؛ كما منحني إجازة أكاديمية مدتها عام لتصوير برامج السلسلة التلفزيونية.. كما أني مدين ديناً كبيراً لهيئة الإذاعة البريطانية والهيثئات المتعاونة معها وبشكل خاص مميز للسيد أوبرى سنجر الذي كان أول من فكر في موضوع هذه السلسلة وظل يلح علي بقبول هذه المهمة عامين كاملين حتى اقتنعت بالفكرة وقبلت. إن قائمة الذين ساعدوني في إنجاز هذه المهمة طويلة وتحتاج إلى صفحات كثيرة فلهم جميعاً شكري الخالص. ج. برونوفسكي لايولا - كاليفورنيا

أغسطس 1973

حصاد الخصولي

إن تاريخ الأنسان مقسم يشكل ون متكاطة: فقد عاش الإنسان ما لا يقل عن مليون عام وهو يهيم على وجهه في مجموعات أسرية يجمع غذاءه من ثمار النبات البري ويصيد أحيانا بعض الحيوان إلى معيشة الحيوان. ثم هناك التاريخ الثقافي العى تفصلتا عن عضن القباكل البدائية الي لاخزال تعيش معتمدة على الصيد فى أفريقياء أو القبائل التي تعيش بجمع الغذاء من البيئة في استراليا. السنين فقطء ويمكن القول أنه بدأ منذ فترة تتراوح بين عشرة آلاف وعشرين ألف عامء وبتحديد اكثر منذ ما يقرب من اثني عشر ألف عام.

وستكون فترة الاتني عشر ألف عام الأخيرة هذه محور حديثي واهتمامي:ء إذ أنها تتضمن تقريبا جميع مراحل تقدم الإنسان وارتقائه: والبون شاسع في المقياس الزمني بين فترة معيشة الإنسان الأول شبه الحيوانية وفترة التقدم الثقافي. فبينما الفترة الأولى تمتد إلى مليون أو مليوني عام تمتد الفترة

ارتقاء الانسان

الثانية إلى أقل بكثير من عشرين ألف عام. وفيها تمكن الإنسان من التقدم المذهل من إنسان يعيش معيشة بهيمية بدائية إلى إنسان متحضر لديه حصيلة ثقافية هائلة وخبرات وأهداف طموحه.

إن النقطة المهمة بالنسبة للتطور الحضاري هي مرحلة البداية والانطلاق. والسؤال المطروح في هذا المجال هو: لماذا بدأ التطور الحضاريء الذي جعل الإنسان سيدا على الأرضء منن فترة قريبة نسبيا ولم يبدأ قبل ذلك؟ فقبل عشرين ألف عام تقريبا كان الإنسان في كل بقاع الأرض التي وصل إليها يهيم ويأكل ما تنبته الأرض أو يصطاد قوته. وكانت أحدث أساليبه أن يظل على مقربة من قطيع متنقل تماما كما لا تزال تفعل قبائل اللاب 5ممه1 السويدية؛ ثم تغير ذلك قبل عشرة آلاف سنة إذ أخذ الإنسان يدجن بعض الحيوانات و يزرع بعض النباتات. وكان هذا هو التغير الذي انطلقت منه المدنية. ولعله شيء يفوق المعتاد أن ينطلق التحول الحضاري قبل اثني عشر ألف عام فقط. ولابد أن تفجرا غير عادي قد جرى قبل ميلاد المسيح بعشرة آلاف عام. ولكنه كان تفجرا من النوع الهادئ: فقد كان نهاية العصر الجليدي.

ومازال بوسعنا أن نقتنص نظرة كي نلمس التغير في المناطق الجليدية. ففي كل ربيع في أيسلندا يعاد تمثيل ما حدث. غير أن ما حدث كان في كل أوروبا وآسيا عندما تراجع الجليد وكان الإنسان الذي عانى من مصاعب ومشاق لا تعقل وهام على وجهه من أغريقيا خلال مليون العام الماضية ليصارع مصاعب العصر الجليدي قد وجد فجأة-بعد انتهاء هذا العصر- الأرض تزهر والحيوانات تحوم من حوله ويدخل في نوع مختلف من الحياة. وهذا ما يدعي عادة «بالثورة الزراعية». لكنني أعتقد بأن ذلك التحول أعمق وأوسع من ذلك بكثير. إنها ثورة بيولوجية تداخل فيها نمو الزراعة مع تدجين الحيوان ضمن قفزات متتالية. وتحت هذا كان يجري الوعي الحاسم بأن الإنسان يسيطر على بيئته في أهم مظاهرها-ولم يكن ذلك على المستوى الطبيعي بل على مستوى الأحياء-النباتات والحيوانات. ومع كل ذلك جاءت ثورة اجتماعية لا تقل قوة وعنفا. إذ أصبح بمقدور الإنسان أن يستقرء أو بالآحرى أصبح ذلك الاستقرار ضرورة ماسة. وكان على هذا المخلوق-الذي جاب الأرض وهام على وجهه مليونا من السنين-أن يتخذ

حصاد الفصول

قراره الحاسم: هل يتوقف عن حياة البداوة المترحلة ويصبح قرويا ؟ وواضح من الكتب المقدسة أن امساح كي سي لحن بصي الكو قبل أن يتخذ قراره في هذا الشأن. وأعتقد بأن المدنية تعتمد على هذا القرار. أما بالنسبة للأناس الذين لم يتخذوا ذلك القرار الحاسم فلم يبق منهم إلا قلة على قيد الحياة. فثمة قبائل بدو رحل لا تزال تعيش ردة إنسانية هائلة تجوب الأرض من بقعة لأخرى سعيا وراء الكلآ والماء كقبيلة البختياري في إيران وما عليك إلا أن ترافق تلك القبيلة في ترحالها لتدرك بأن المدنية لا يمكن أن تنمو مع الترحال.

إن كل شيء في حياة البدو الربدل مصدو اي لقيو تبات البختياري في إيران ترحل دائما وحدها دون أن تُلحظ. ومثل غيرهم من البدو الرحل يعتبرون أنفسهم عائلة واحدة, وكأنهم أولاد لآب هو مؤسس القبيلة (وبذات هذه الطريقة كان اليهود يسمون أنفسهم بني إسرائيل أو يعقوب). واسم قبيلة البختياري يعود إلى رجل أسطوري يدعى بختيار كان راعيا أيام المغول. وتبدأ أسطورة أصلهم التي يتناقلونها عن بختيار كما يلي: «وجاء أبو شعبنا-رجل الجبال بختيار-من معافل الجبال الجنوبية في العصور القديمة وصارت سلالته عديدة بعدد صخور تلك الجبال. كما أصبح شعبه ثريا». ونجد في قصة في الإنجيل صدى مطابقا-يتكرر مرات ومرات-لهذه القصة, إذ أن يعقوب شيخ القبيلة تزوج امرأتين وعمل راعيا سبع سنوات عند كل منهما. وكذلك بختيار فققد كانت له زوجتان رزق من الأولى بسبعة أولاد ومن الثانية بأربعة أولاد. وتكاثرت القبيلة من التزاوج فيما بين أفرادها خشية تفرق الخيام والقطعان. وهكذا كانت هذه القطعان محور الاهتمام الرئيسي عند هذه القبائل» وعند مدبري الزيجات.

وقبل عشرة آلآاف.سنة من ميلاد المسيح كانت القباكل الرحل تتبع مسيرها هجرة القطعان البرية الظبيعية: لكنه ليين لقتطعان الماغز والقنم هجرة طبيعية. لذا استطاع الإنسان تدجينها منذ عشرة آلاف سنة:؛ ولم يسبق هذه الحيوانات في التدجين سوى الكلب الذي كان يتبع مخيمات البدو الرحل. وعندما دجن الإنسان تلك الحيوانات بدأ يأخذ مسئولية الطبيعة على عاتقه؛ وهكذا كان عليه أن يقود قطعان هذه الحيوانات العاجزة غديعة الحول:

ارتقاء الانسان

أما دور المرأة في القبائل الرحل فحدد بشكل ضيق. وقبل كل شيء كانت وظيفة المرأة إنجاب الأطفال الذكورء أما قدوم العديد من الإناث فلم يكن سوى مصيبة مباشرة لأنهن على المدى الطويل يهددن بحدوث كارثة. وفيما عدا ذلكء؛ كانت واجبات المرأة تشمل تحضير الغذاء واللباس. فالمرأة البختيارية مثلا تعجن وتخبز الخبز بالطريقة التي جاءت في الإنجيل أي أقراص من عجين لم يخمر توضع على حجارة ساخنة. ثم تنتظر النساء والفتيات الرجال حتى ينتهوا من طعامهم كي يأكلن. وترتكز حياة النساء كما هو الحال عند الرجال على القطيع. فهن يحلبن إناثه. ويصنعن الزيد واللبن المخيض من الحليب بخضه في قربة من جلد الماعز معلقة على إطار خشبي بدائي ولم يكن لديهن سوى تقنية بسيطة مما كان يمكن حملها معهن في الترحال اليومي من مكان إلى آخر. وهذه البساطة ليست من الرومانسية في شيء, إنها قضية الحفاظ على البقاء. إذ ينبغي أن يكون كل شيء خفيف الوزن كي يسهل حمله. ولكي يجهز بسرعة للاستعمال كل مساء ومن ثم يحزم ثانية كل صباح. فعندما تغزل النساء الصوف بالوسائل البسيطة القديمة: فما ذلك إلا للاستعمال الفوري: كالقيام بيبعض الإصلاحات الضرورية للملابس أثناء الترحال: وليس اكثر من ذلك.

وهكذا نجد أنه من المستحيل على الفرد الذي يعيش مع القبائل الرحل المتنقلة أن يقوم بصناعة بعض الأشياء التي لن يحتاج أليها ألا بعد عدة أسابيع. لآنها أشياء يصعب حملها. وفي الواقع فان قبيلة البختياري لا تعرف كيف تتم صناعة مثل تلك الأشياء. فإذا احتاجوا إلى قدور معدنية اشتروها بالمقايضة من السكان المستوطنين أو من الفجر المختصين بصناعتها . فمثلا المسمار والركاب واللعبة وجرس الطفل أشياء تشترى من خارج القبيلة. إن حياة قبائل البختياري ضيقة جدا لدرجة أنها لا توفر لا الوقت ولا المهارة للتخص ص . وليس للابتكار مكان لديهم وذلك لعدم توفر الوقت؛ فهم منهمكون في الترحال المستديم بين الصباح والمساءء ذهابا وإيابا طوال حياتهم. فكيف يمكن والحالة هذه أن يتمكنوا من تطوير جهاز جديد أو فكرة مبدعة؛. أو حتى نغم جديد. فالعادات الوحيدة التي تبقى معهم هي تلك القديمة عينهاء وطموح الابن الوحيد هو أن يصبح كآبيه.

إنها حياة بلا ملامح. فكل ليلة هي نهاية يوم مثل سابقه؛. وكل صباح

1“

حصاد الفصول

بداية رحلة كالأسد. وعندما ينقضي اليوم فثمة سؤال واحد في تفكير كل فرد: هل يمكن امرار القطيع عبر الممر العالي التالي ؟ ولابد في يوم من أيام الترحال أن يعبر القطيع أعلى ممرء ألا وهو ممر زاديكو. الذي يرتفع افني عشر آل قدي قوق جبال زاغروس. وهنا يتركب على القطيع يشكل أو بآخر أن يشق طريقه عبر قمم تلك الجبال أو أن يلف حولها. وعلى الرعاة في بقعة معينة لا يكفي لرعي القطيع لأكثر من يوم واحد في تلك البقاع الشاهقة.

وفي كل عام تعبر قبائل البختياري ست سلاسل من الجبال ذهابا (وتعود تعبرها مرة أخرى في الإياب). ويسيرون عبر الثلوج ومياه فيضان الربيع. وخلال عشرة آلاف عام لم تتغير حياة هذه القبائل إلا في مجال واحد, إذ أنهم كانوا آنذاك ينتقلون مشيا على الأقدام وهم يحملون أمتعتهم على ظهورهم: أما الآن فانهم يحملونها على الخيول والحمير والبغال وقد دجنت خلال مدة عشرة آلاف العام الماضية. وليس ثمة شيء آخر جديد في حياتهم مطلقاء كما وليس هناك ما يستحق التذكر. وليس لدى قبائل البدو الرحل أية نصب تذكارية: ولا حتى لقبور الموتى (أين بختيارء وأين دفن يعقوب5). إن أكوام الحجارة الوحيدة التي يضعونها إنما هي شارات تدل خطر ومليء بائرالق ولكن الحيراتات ستطيع فيرره سهولة اكثر من الممر العالى.

وتعتبر رحلة الربيع لقبائل البختياري مغامرة بطولية. ومع ذلك فرجال هذه القبائل ليسوا أبطالا بقدر ما هم رجال يتحملون الصعوبات بصبر جميل وهم مستسلمون بيأس لأن المغامرة لا تؤدي إلي أية نتيجة. فالمراعي لق جهد يزب العاكلة سبع ستو كسيظها فعل يعقوب-ليكون قطيعا مؤلفا من خمسين شاة ومعزى. ويتوقع أن يخسر منها عشرة رؤوس أثناء الترحال إذا سارت الأمور على ما يرام. أما إذا ساءت فيمكن أن يفقد عشرين من أصل الخمسين. تلك هى الاحتمالات الممكنة فى حياة القبائل الرحلء. سنة بعد أخرى. وبعد ذلك عند انتهاء الرحلة لن يكون هناك سوى استسلام يائنس

ارتقاء الانسان

ارتفاء الانسان

اللوحة رقم )١(‏

تأليف: ج . سر و خضو قسكى ترجمة: ه . مو فى تخاشير و مراجعة: زهير الكرمى

سلسلة كت ثقافية شورية برها المبلس الوت؟ للثقافة والفنون والآراب_ اللوية

لا تزال القبائل الرحل تنتقل سعياً وراء الكل عبر المسالك الوعرة. وليس لدى هذه القبائل من التقنية سوى تلك التقنية البسيطة التي تستطيع تحملها في تنقلها اليومي من مكان لآخر.

* قطعان الماعز والغنم تنطلق في رحلة هجرة الربيع؛ وامرأة بختيارية تغزل الصوف.

حصاد الفصول

هائل كما لو كان تقليدا متوارثا. وفي كل عام هناك تساؤل عما إذا كان الطاعنون في السن بعد عبورهم الممرات سيكونون قادرين على مجابهة الاختبار الأخير ونعني به اجتياز نهر بازوفت ؛ ذلك أن ذوبان الثلوج طيلة أشهر ثلاثة قد جعل النهر زاخرا بالمياه. أما رجال القبيلة ونساؤها ففي حالة من الإعياء الشديد وكذلك دوابهم المحملة بالأثقال وقطعانهم الكبيرة | وتستغرق عملية اجتياز النهر يوما بأكمله؛ ولكن هذا اليوم هو يوم الامتحان الذي يصبح فيه الفتيان رجالاء لآن بقاء القطيع على قيد الحياة وحياة عائلاتهم يعتمدان على قوة سواعدهم. فعبور نهر البازوفت كعبور نهر الأردن تعميد للرجولة. إنها لحظة تتفتح فيها حيوية الحياة عند الشابا الصغيرء أما بالنسبة للعجوز الهرم فهي لحظة تؤذن بمغيب الحياة ! وقد يتساءل متسائل عم يحدث للشيوخ العجز عندما لا يتمكنون من عبور النهر الآخير؟ لا شيء البتة ! فهم يبقون حيث هم.ء بانتظار الموت. وكلب الداكلة بعد افا بدا الحيرة معز ها يرق تساك يتشلفه وزراء الركية أما الإنسان الهرم فيتقبل عادات البدو الرحل ويعرف أنه قد وصل إلى نهاية الرحلة. وليس له مكان في النهاية. إن اكب خطرة كن ارتقاء الإنسان ماك اتثقاله من مرطلة البدادة؛ إلى الريظلة الزراضيةه وكاسيين القرية. ولكنما الذي حمل ولك سوقةا 5 انه بالتآكيد عمل إرادة وعزيمة أكيدتين من الإنسان. ولكن-مع ذلك-كان هنالكا تصرف غريب خفي من جانب الطبيعة. فمع ازدهار الخضرة والنباتات فجأة في نهاية العصر الجليديء ظهر قمح هجين معط 117610 فضي أماكن عدة من منطقة الشرق الأوسطء وإحدى هذه الأماكن النموذجية كانت الواحة القديمة في أريحا. وقد وجدت أريحا قبل البدء بمرحلة الزراعة. وأول أناس أتوا إلى هذه المنطقة واستوطنوا فيها بجوار النبع. هم من الذين كانوا يقتاتون القمح البري دون أن يعرفوا كيف يزرعونه. ودليل ذلك أنهم صنعوا آدوات لحصاد هذا القمح البري. وهذا بعد نظر يفوق المعتاد. فقد صنعوا مناجل من الصوان بقيت حتى الآن؛ وقد وجدها جون غار ستانغ عندما قام بعمليات التنقيب والحفر في هذه المنطقة خلال العقد الرابع من هذا القرن. وكان طرف المنجل القديم هذا يثبت في قطعة من قرن غزال أو عظم.

ارتقاء الانسان

بعد ذلك لم يعد ينمو على تلال أريحا وسفوحها ذلك القمح البري الذي كان السكان الأوائل يحصدونه؛ ولكن الأعشاب التي ظلت تنمو بعد القمح هناك كانت دون شك تشبه إلى حد بعيد القمح الذي وجدوه أولاء والذي كانوا يمسكونه بقبضة اليد ثم يقطعونه بالمنجل بنفس الحركة الحصادية التي استعملها الحصادون منذ ذلك التاريخ مدة عشرة آلاف عام. وهذا ما دعي بالحضارة النتوفية سدت/هه2 التي سبقت مرحلة الزراعة. وبالطبع لم تدم تلك الحضارة. لأنها كانت قاب قوسين أو أدنى من أن تصبح حضارة زراعية. وكان ذلك هو الحدث التالي الذي كانت تلال أريحا مسرحا له.

إن نقطة التحول الهامة التي تسببت في انتشار الزراعة في العالم القديم: كانت في ظهور نوعين من القمح لهما سنبلة ضخمة ممتلئّة بحبوب القمح. ولم يكن القمح قبل عام 8000 قبل الميلاد النبات الغزير كما نعرفه الآن. فلقد كان مجرد واحد من أنواع الأعشاب البرية العديدة التي كانتا تنتشر في بقاع الشرق الأوسط. وعن طريق الصدقة الورائية حصل تهجين لهذا القمح البري مع كلأ الماعز الطبيعي؛ وتشكل نتيجة لذلك نبات هجين كثير النتاج. ولابد أن تلك الصدفة قد حدثت عدة مراتء خلال فورة نمو الأعشاب الخضراء اثر انتهاء العصر الجليدي. فما حدث في هذه الصدفة حسب الآلية الوراثية التي توجه عملية النموء هو أن الصبغياتا (الكروموسومات) الأربع عشرة للقمح البري اندمجت مع صبغيات كلا الماعز الأربع عشرة. وتشكل القمح الآسيوي الأوروبي ##صم8 ذو الصبغياتا الثماني والعشرين. وهذا الدمج هو ما جعل هذا النبات الهجين أكثر امتلاء ؛ وقد انتشرهذا القمح الهجين بشكل طبيعيء؛ لأن حبوب هذا القمح ملتصقة بقشورها داخل السنابل بشكل يمكن الرياح من حمل هذه الحبوب ونشرها ؛ إن كون الهجين شديد الخصوبة أمر نادر ولكنه ليس فريدا في نوعه بين النباتات. غير أن قصة ازدهار النبات: في الحقبة التي تلت العمر الجليدي, أصبحت أغربء ذلك أن صدقة وراثية ثانية طرأت على القمح الهجين عند زراعته تكرارا. فقد أدى تزاوج هذا القمح الهجين مع كلأ الماعز الطبيعي؛ مرة ثانية» إلى إنتاج قمح هجين جديد أكبر من الهجين الأول ويحوي اثنين وأربعين صبغيا (كروموسوم)01707205065 وهذا القمح هو الذي يعرف حاليا بقمح الخبز 75626 81620 . وقد كانت تلك الصدفة حادثة غير متوقعة بحد

حصاد الفصول

اللوحة رقم (2)

رأس ناضج من القمع؛ وإزالة القشور عن الحب .

إن نقطة التحول الهامة التي تسببت في انتشار الزراعة في العالم القديم كانت بالتأكيد-ظهور نوعين هجينين من القمح

القمح الآسيوي الأوروبي وحبيبات من قمح الخبز العادي .

10

ارتقاء الانسان

ذاتهاء ذلك أنه من المسلم به الآن أن قمح الخبز ما كان يمكن أن يكون قادرا على التكاثر لولا حدوث عملية طفرة وراثية في إحدى تلك الصبغيات.

لكن هناك ما هو أكثر غرابة من ذلك. إذ أصبح لدينا الآن سنبلة قمح جميلة رائعة ولكنها لا تستطيع نثر حبوبها بوساطة الريح. وذلك لتماسكا حباتها نتيجة كثرة الحبوب فيها وازدحامها. وإذا ما فرطت هذه السنيلة فان قشورها الجافة تطيرء وتقع كل حبة إلى الأسفل في المكان الذي نمتا افيه. وأود هنا أن أذكر أن هذا مختلف تماما عن القمح البري الأول؛ أو الهجين البدائي (القمح الآسيوي الأوروبي). ففي هذين النوعين من القمح البدائي تكون السنبلة اكثر انفتاحا ولو كسرت السنبلة فانك تحصل على نتيجة مختلفة تماماء أي أنك تحصل على حبوب تطير مع الرياح. أما قمح الخبز فقد فَمَّدَ تلك المقدرة. وبذا وفجأة, التقى الإنسان (الراغب في البقاء في مكانه) بالنبات (الذي لا يتطاير بالرياح). فلقد أصبح لدى هذا الإنسان حنطة يقتات بها وأصبحت الحنطة معتمدة على الإنسان لأنه السبيل الوحيد التي يمكن بواسطته أن تتكاثر. ذلك أن قمح الخبز لا يمكنا أن يتكاثر إلا بمساعدة الإنسان؛ إذ يترتب على الإنسان أن يحصد السنابل وينثر حبها. إذن فقد أضحت حياة كل منهما تعتمد على الآخر. وما أشبه هذا الأمر بقصة خرافية من قصص الوراثة؛ كما لو أن مولد الحضارة قد بورك مسبقا بروح القس جريجور مندل.

إن هذا التوافق السعيد بين الطبيعة والإنسان هو الذي أدى إلى نشوء الزراعة. وفي العالم القديم حدث هذا منذ حوالي عشرة آلاف سنة؛ وكان ذلك في منطقة الهلال الخصيب من الشرق الأوسط. ولكن ذلك حدث-دون اشك-اكثر من مرة. ولعله من المؤكد أن الزراعة ابتدعت مرة أخرى وبشكل مستقل في العالم الجديد-أو هكذا نعتقد حسب الأدلة التي لدينا الآن-ذلكا أن زراعة الذرة تحتاج إلى الإنسان ''". تماما كما هو الحال في القمحا وبالنسبة للشرق الأوسط انتشرت الزراعة فيه هنا وهناك على منحدرات التلال الممتدة غرب أريحا. والاحتمال الأقوى هو أن الزراعة قد بدأت في مناطق متعددة في منطقة الهلال أطيب. وقد تكون بعض تلك البدايات في مناطق أخرى غير أريحا. ومع ذلك نجد أن لأريحا عدة ملامح تجعلها تاريخيا فريدة في نوعهاء

حصاد الفصول

وتضفي عليها سمة رمزية خاص بها . فعلى نقيض الكثير من القرى المنسية في أماكن أخرىء تنتصب أريحا ثابتة كالطودء أقدم من الإنجيل. إنها طبقة فوق طبقة من التاريخ. إنها مدينة !. وكانت هذه المدينة القديمة المعروفة بمياهها العذبة واحة على تخوم الصحراءء تفجر فيها نبعها مند ما قبل التاريخ وحتى يومنا هذا . وفى هذه البقعة اجتمعت المياه والقمح معاء ومن هذا المنطلق بدأ الإنسان الحضارة هناك والى هذا المكان أيضا قدم البدوا الرحل بوجوههم السمراء المغيرة. آتين من الصحراء. متطلعين بغيرة وحسد إلى طريقة الحياة الجديدة. ولهذا السبب أيضا عرج يوسع مع قبائله-بعد ذلك بكثير-على هذه الواحة الخصيبة:؛ لأن الماء والحنطة يخلقان الحضارة» ويجعلان الأرض تجري بالحليب والعسل. وهكذا نجد الماء والحنطة قد فى تلك الحقبة من الزمن طرأ تحول فجائى على مدينة أريحا. فحالما أهلها إلى تحصينهاء وحولوها إلى مدينة مسورة وشيدوا لها برجا ضحماً وكان ذلك قبل تسعة آلاف عام. ويبلغ قطر قاعدة ذلك البرج ثلاثين قدماء وهذا يعنى أن عمق هذه القاعدة كان ثلاثين قدما أخرى تقريبيا. وعند تسلق هذا البرج جانبياء تكشف الحفريات الأثرية طبقة فوق طبقة تمثل كل منها حضارة غايرة: حضارة ما قبل استعمال الفخار الأولى وحضارة ما قبل استعمال الفخار التالية؛ ثم مجىء حضارة استعمال الفخار قبل سبعة آلاف عام: والعصر النحاسي الأول. والعصر البرونزي الأول ثم العصرا البرونزي المتوسط. فقد جاءت كل من هذه المارات إلى أريحاء وهزمها ثم دفنتها وشيدت لنفسها مدينة فوقها. وهكذا فان هذا البرج لا يقع تحتا الحضارات الغابرة. إن مدينة أريحا كيان مصغر للتاريخ: والاحتمال كبير في أن تكتشف في السنوات القادمة أماكن أثرية أخرى (كما اكتشفت فعلاً بعض الأماكنا الهامة) قد تغير من الصورة القائمة لدينا عن البدايات الأولى للحضارة؛ إلا أن أريحا تبقى مدينة فريدة. فمجرد الوقوف فى هذه المدينة التاريخية واسترجاع ماضي الإنسانء له أثر عميق في الفكر والعاطفة على السواء؛

ارتقاء الانسان

وعندما كنت شابا في مقتبل العمرء كنا جميعا نعتقد أن السيادة تأتى من] سيطرة الإنسان على بيئته الطبيعية. أما الآن فقد أدركنا أن السيادة الحقيقية إنما تعود إلى فهم الإنسان للعالم الحي الذي يعيش فيه؛ والى قدرته على تشكيل هذا العالم بالشكل الذي يريد . وهكذا بدأ الإنسان مسيرة الحضارة في منطقة الهلال الخصيب. عندما وضع يده على النبات والحيوان: وبتعلمة كيف يعيش معها غير العالم تبعا لحاجاته ومتطلباته. وعندما أعادت كاثلين كنيون اكتشاف برج مدينة أريحا في الخمسينات من هذا القرن. وجدت أن هذا البرج أجوف. وأنا أنظر إلى السلم في تجويف هذا البرج كما لو كان نوعا من الجذر الرئيسي أو كوة صغيرة يرى المرء من خلالها أساس الحضارة وقاعدتها الأولى. وأسامن قاعدة الحضارة هو الكاكن الحى وليسن العالما الطبيس. ا

غفي حوالي الألف السادس قبل الميلاد كانت أريحا مستوطنة زراعية كبيرة. وتقدر كاثلين كينيون أن عدد سكانها كان حوالي ثلاثة آلاف, وتبلغ مساحتها داخل السور من ثمانية إلى عشرة أفدنة. وكانت النساء يطحن القمح فيها برحي ثقيل» ووجود أدوات ثقيلة من مميزات المجتمع المستقر (مقارنا بمجتمع البدو الرحل). أما الرجال فكانوا يجبلون الطين بالماء ويشكلون منه لبنات للبناء. وهذه هي أقدم لبنات معروفة في التاريخ. ولا تزال آثار أصابع صانعي اللبنات موجودة عليها حتى الآن. وبذا أصبحا الإنسان مرتبطا بموضع ومكانء فمثله في ذلك كمثل قمح الخبز. وفوق ذلك فقد أدى هذا الاستقرار وارتباط الإنسان بالمكان إلى تولد علاقة خاصة مع الأموات. فقد كان أهالي أريحا يحفظون بعض الجماجم ويغطونها يزينات متقنة ودقيقة. ولا أحد يعرف سبب ذلك: اللهم إلا إذا كان الأمر مرا ياب التبجيل والتوقير.

ولا أعتقد أن هنالك أحدا من الذين تربوا مثلي على تراث الكتب السماوية؛ يستطيع أن يغادر مدينة أريحا دون أن يطرح سؤالين اثنين: هل دمريوشع هذه المدينة؟ وهل انهارت أسوارها حقا ؟ إن هذين السؤالين هما وراء قدوم الناس إلى رؤية هذا الموقع؛ وتحويله بالتالي إلى أسطورة حية. وثمة جواب سهل للسؤال الأول: نعم فلقد كانت قبائل يوشع تحارب من أجل دخول الهلال الخصيب الذي يمتد شمالا مع ساحل البحر الأبيض المتوسط,

اللوحة رقم 3 برج أريحا. وهو مبني من الحجارة المرصوفة منذ قبل 7000 عام قبل الميلاد وقد وضعت شبكة

وبعد ذلك شرقا بمحاذاة جبال الأناضول ثم جنوبا نحو نهري دجلة والفرات؛ وهنا في أريحا كان المفتاح الذي أغلق في وجوههم الطريق إلى جبال السامرة ومن ثم إلى أراضي البحر المتوسط الخصيبة. وهذه هي البقاع التي كان عليهم أن يغزوهاء وكان ذلك حوالي عام ١400‏ ق. م-أي منذ حوالي ثلاثة آلاف وثلاثمائة إلى ثلاثة آلاف وأربع مائة سنة خلت. أما قصة الكتاب المقدس فربما لم تدون إلا حتى عام 700 ق. م؛ وبذا يعود تاريخ أول سجل مدون عن هذه المدينة إلى حوالي ألفين وستمائة سنة مضت. ولكن هل انهارت الأسوار حقا؟ لسنا ندري. إذ ليس هناك أي دليل أثري في هذا الموقع يشير إلى أن تلك الأسوار المنتصبة انهارت واستوت مع الأرض غير أن عدة أسوار انهارت في أوقات مختلفة. غفي فترة من العصر البرونزي تم إعادة بناء مجموعة من الأسوار ست عشرة مرة على الأقل لأن هذه البقاع كانت عرضة للزلازل وللهزات الأرضية آنذاك. ولازالت بعضا الهزات الأرضية الخفيفة تحدث هنا كل يوم: كما حدثت أربع هزات أرضية كبيرة خلال قرن واحد . ولم يعرف سر تلك الهزات الأرضية التي كانتا تحدث في وادي الأردن إلا خلال السنوات القليلة الماضية. فالبحر الأحمر والبحر الميت يقعان على امتداد الأخدود الكبير في شرق أفريقيا. خففي

ارتقاء الانسان

هذه المنطقة تتواجد-جنيا إلى جنب-الصفيحتان اللتان تحملان القارات وهي تطفو فوق طبقة غلالة الأرض الباطنية وهي أكثف من قشرة الأرض) التي تكون القارات. وعندما تنزلق بقوة إحدى الصفيحتين متجاوزة الأخرىا على طول ذلك الأخدودء فإن أصداء الهزات والصدمات المنبعثة من الباطن تظهر على سطح الأرض على هيئة زلازل. ونتيجة لذلك. حدثت الزلازل دوما على طول المحور الذي يقع عليه البحر الميت. وذاك. حسب ما اعتقد, السبب في كثرة ورود ذكر المعجزات الطبيعية في الإنجيل. مثل الطوفان القديم: وجفاف البحر الأحمر وظهر الأردن؛ وانهيار أسرار أريحا.

إن الإنجيل تاريخ غريب؛ جزء منه حكايات شعبية؛ والجزء الآخر سجل تاريخي.

غالزراعة وإكثار الحيوان عمليتان تبدوان بسيطتين: ولكن الأمر في حقيقته يدل على أن العمليتين لا تقفان جامدتين دون حراك أو تطور. ذلكا أن كل مرحلة من مراحل تدجين الحيوان والنبات تتطلب سلسلة من الاختراعات التي تبدأ بابتكار أجهزة ووسائل فنية تقنية ومن هذه تتدفق لماكت العلمية, إن الوسائل والأجهزة الأساسية التي ابتدعها عقل الإنسان وأصابعه الماهرة موجودة-دون أن يلحظها أحد-في أية قرية على وجه الآأرض؛ فالغديد من الأدوات التصغيرة والوساكل الصتاعية البسيطة التي ابتدعا الإنسان قديما تعادل في براعة صنعها وأهميتها لارتقاء الإنسان أي جهان من أجهزة الفيزياء النووية. مثال ذلك: الإبرة والخرز والقدر وجهاز اللحام والرفش والمسمار والمسمار اللولبي (البرغي) والكور والوتر والعقدة وآلة النسيج والسرج واللجام (والكلابة) والزر والحذاء؛ وما إلى هنالك من مئاتا الأشياء الأخرى التى يمكن للمرء تعدادها. والثراء يأتى من تفاعلا الاخخراطات فيما نيديا والقفافة تصاضت الأشكار والأراق بحيت إن كلا ابتكار يسارع و يضخم قوة بقية الابتكارات.

إن الزراعة المستقرة تخلق تقنية تنبثق منها جميع العلوم. ويمكننا أن نلمس ذلك من خلال تطور المنجل البدائي إلى المنجل الذي تلاه. فللوهلة الآولى يبدو المنجلان متشابهين جدا : منجل الإنسان جامع العشب البريا قبل عشرة آلاف عام؛ والمنجل الذي عمره تسعة آلاف سنة عندما بدئ بزراعة القمح والعناية به. ولكننا إذا ألقينا نظرة مدققة نجد أن المنجلا

24

لات امير كم فكي تكد اقرين الى لي ا ا 1 لكا 97١ 00‏ زول كسم )0١‏ ارم | كس اكير لمعه - كاه نيد ا مير الم الى سيلو اح ككل لو د لت ل لزي لل ل لا د 66م

إعيهم | في ميسج ب بهد 2 د 0 سد | دبي فكي رمضم مم | كسم جم لكو ومو يم اج تق جومم وقد حم بسكم 6 وجو ص كجع | م عمد

اللوحة رقم (4)

ارتقاء الانسان

القالى الذي كان يسيتممل هماد القمح المزروع كان ذا بحن مسان: (بيتما له يكح امتجل البداكى مساق السه)ء طاو يحصد اليم باكفيل البدائى الاطظرا الاتمان إلى ووب فباقات لسع يسحده وعنةا رفك النضيارمن السقيلة إلى الأرضء أما إذا حصدناه قطعا بوساطة منجل مسنن الحد فإن الحنطة تبني هي السنابل مويك ذلك الحين لم يظرا قطوو يلاكر هاي النجل لمان حتى المرب الدالينة ,كفي ظافولت أيام السريه العالية الأرني كان لجل ذو الهد المسان ماؤال قيد الاستعمال. وهتاك العدين. من التفتيات والغرفة الفيوياقية الشوية بتعدية الشجل لمق انك إلينا من كل خابحية من قواحن الحياة الزراعية تلقائياء لدرجة أثنا نشعر وكأن الأفكار تكتشف الإنسارا ولس النكس كنا يظن كرد

إن أقرى الختراع شي الزراغة قلوا اهو بالط الحرات. ويعلو لان نظن أن المحراث مجرد وتد يشق التربة. ومع أن هذا الوتد بحد ذاته الختراع فيعانيكى هاء قديم إلا آن اكرات اوسادشئء أساسى اككرمن الك بكثير: إنه حبار طن راشعة (فظة) عرق الثرية وهو ول تطبيق خطلى بدا الراهمة وصتدماً كسس كينس للأفريقبين يعد ذلك برقع طويل

اللوغة رقم 1 العجلة والمحور هما الجذران الأساسيان اللذان انبثقت منهما الاختراعات .-موزاييك لعرية ذاتا

260

حصاد الفصول

نظرية العتلة الرافعة, قال: إنه بواسطة التحكم بنقطة الارتكاز في الرافعة يمكنه أن ينقل الأرض. لكن حراثي الشرق الأوسط كانوا يقولون قبل ذلكا بآلاف السنين: «اعطني رافعة وسأطعم الأرض».

لقد ذكرت آنفا أن الزراعة قد اخترعت مرة أخرى-على الأقل-في أمريكاء إنما في وقت متأخر عن الشرق الأوسط بكثير. لكن المحراث والعجلة لم يخترعا فى أمريكاء لأن المحراث والعجلة يعتمدان على حيوانات الجر؛ والخطوة التي تلت الزراعة البسيطة في الشرق الأوسط كانت تدجين حيوانات الجر هذه (بينما لم يحدث ذلك في أمريكا). ولعل الفشل في تحقيق تلك الخطوة البيولوجية في العالم الجديد. كان السبب في بقاء الزراعة هناك بدائية (عمل حفر بالعصي ووضع البذور فيها).. وحتى أن حضارة أمريكا تلك لم تعرف الدولاب المستعمل في صنع أواني الفخار.

ونجد العجلة (الدولاب) تظهر لأول مرة؛ فيما يعرف الآن بجنوب روسياء قبل عام 3000 ق. م. وتدل آثار هذه المكتشفات أن العجلات كانت عبارة عن دواليب من الخشب غير المفرغ مربوطة بزحافة وكانت تستخدم لجر الأثقال؛ ثم حورت هذه إلى عربة.

ومنن ذلك الحين صارت العجلة والمحور الجذرين الأساسيين اللذين نبثقت منهما الاختراعات. فمثلا نرى أن العجلة حولت إلى أداة لطحن القمح: وذلك بالاستعانة بقوى الطبيعة: قوة الحيوان أولاء ثم قوة الرياح والمياه. وأصبحت العجلة نموذجا لكل الحركات الدورانية؛ وطرازا للتفسير ورمزا سماويا لما هو أعظم من القدرة الإنسانية في العلم والفن على حد سواء. فقد صورت الشمس على أنها مركية ذات عجلات؛ والسماء نفسها على أنها عجل دوار منذ أن رسم البابليون والإغريق فلك السموات الدوارة المرصعة بالنجوم. وفي العلوم الحديثة ينظر إلى الحركة الطبيعية (أي التي لا تصادف أية قوة تؤثر في حركتها) بأنها تسير في خط مستقيم: أما بالنسبة للعلوم الإغريقية فقد كان ينظر للحركة التي تبدو طبيعية (أي الحركة التي هي من صلب الطبيعة) والتي هي في الحقيقة كاملة بأنها حركة في دائرة. وفي الوقت الذي اجتاح فيه يوشع مدينة أريحاء ولنقل عام 400اق. م؛ كان المهندسون الميكانيكيون السومريون والآشوريون قد حولوا العجلة إلى

27

ارتقاء الانسان

بكرة لرفع الماء. وفي نفس الوقت صمموا نظما للري على نطاق واسع. ولا تزال المداخل العمودية التي كانت تستعمل لصيانة هذه النظم منتشرة في بلاد فارسء. كما تنتشر علامات التنقيط في صفحة كتاب. وتغور هذه المداخل 300 قدم في الأرض حتى تصل إلى القنوات التي تشكل نظام الريا على هذا العمق-حتى تكون المياه الطبيعية في مستوى يحفظها من التبخر ؛ واليوم بعد مضي ثلاثة آللاف سنة على إقامتهاء لا تزال نساء القرية في خوزستان يسحبن الماء من هذه الآبار والأقنية للقيام بالأعمال اليومية في هذه المجتمعات غير المتطورة. والقنوات عبارة عن إنشاءات متأخرة في حضارة المدينة. إذ أنها تعني ضمنا وجود قوانين في ذلك الوقت تتحكم بحقوق المياه وملكية الأراضي والعلاقات الاجتماعية الأخرى. ففي المجتمع الزراعي (كمجتمع الزراعة على نطاق واسع عند السومريين مثلا) نجد أن القانون يختلف في خصائصه عن قانون قبائل البدو الرحل الذي يحكم في سرقة عنزة أو شاة مثلا. أما يعد إقامة هذه القنوات فقد أصبح البنيان الاجتماعي مرتبطا بانتظام الأمور التي تؤثر على المجتمع ككل: مثل حق المرور إلى الأرض؛ وحفظا حقوق الماء ومراقبتهاء وحق استعمال الإنشاءات الثمينة التي يعتمد عليها حصاد الفصول وكذلك تحويلها وإعادة تحويلها.

وعند ذلك اكتسب حرفي القرية لقب المخترع بحق وجدارة. فقد طبق المبادئ الميكانيكية الأساسية في ابتكار أدوات مطورة هي في الحقيقة الآلات الأولى: وقد أصبحت من ثقافة الشرق الأوسط التقليدية: مثال ذلك المخرطة البدائية التي تعتمد على القوس. وهي تمثل إحدى الطرق التقليدية لتحويل الحركة المستقيمة إلى حركة دائرية. وتعتمد هذه الآلة البديعة على لف الوتر على محور خشبي على شكل اسطوانة: بينما تكون نهايتاه مربوطتين بنهايتي القوس الذي يشبه لحد ما قوس الربابة. وتثبت قطعة الخشب التي يراد خرطها على المحور الخشبيء ويدار هذا المحور بتحريك القوس إلى الأمام والى الخلف. وبذا يدير المحور القطعة الخشبية على إزميل ثابت وبذا يتم تشكيلها. ومع أن عمر هذه التركيبة الميكانيكية يزيد على عدة آلاف من السنين, إلا أنني رأيتها في إنكلترا عام 1945 عندما كان بعض الغجر يصنعون أرجل كراسي خشبية.

حصاد الفصول

إن الآلة وسيلة لاستثمار القوى في الطبيعة-وهذا صحيحمن المغزل البسيط الذي تحمله المرأة البختيارية إلى أول مفاعل نووي مع كل تطوراته العديدة العاملة. غير أنه مع استغلال الآلة لمصادر القوى الكبرى أصبحت بشكل متزايد تفوق استعمالها الطبيعي. وإلا فكيف يمكن أن تبدو لنا الآلة في شكلها الحديث مصدر تهديد؟

إن المسألة كما تواجهنا ترتبط بمدى القوة التي يمكن للآلة إنتاجها ويمكن أن يطرح هذا السؤال على شكل بدائل: هل تقع هذه القوة ضمن مجال العمل الذي ابتكرت الآلة من أجله5 أم أنها غير متناسبة لدرجة أنها تسيطر على مستغلها أو تشوه الاستعمال؟ لذا فان المسألة تتطلب منا عودة إلى الماضي البعيدء وقد ابتدأت عندما سيطر الإنسان على قوة اكبر من قوته؛ أي قوى الحيوان. وفي الواقع فان كل آلة هي نوع من أنواع دواب الجر والنقلء حتى المفاعل النووي هو كذلك. ذلك أنها تزيد الفائض الذي ربحه الإنسان من الطبيعة منذ بداية الزراعة. ولذا غان كل آلة تعيد وضع الإنسان في نفس المأزق الأصلي: هل تعطي تلك الآلة الطاقة وفق متطلباتا استعمالاتها المحددة؛ أم أنها مصدر طاقة مستقلة تفوق حدود الاستعمالات البناءةة وهكذا فان هذا التضارب في مدى القوى قديم و يعود إلى بداية تاريخ الإنسان.

والزراعة جزء واحد من الثورة البيولوجية: أما تدجين الحيوانات فيا القرية وتسخيرها في العمل فهو الجزء الثاني من هذه الثورة. وقد تم هذا التدجين بترتيب منظم. فأولا أتى الكلب (ريما قبل 000 1١0‏ سنة ق. م) وتبعت ذلك الحيوانات التي يأكل لحمها الإنسان بدءا بالماعز والخراف. ثم أتى دور حيوانات الجر والنقل مثل الحمير البرية. وجميع هذه الحيواناتا تقدم للانسان فائضا اكبر مما تستهلك. ولكن ذلك صحيح فقط طللما بقيت الحيوانات في مستواها اللائق بها أي كخادمات للزراعة. ولذا فإنه من غير المتوقع أن يتحول الحيوان المدجن بحيث يصبح يحوى في داخله تهديدا لفائض الحبوب الذي يعيش به المجتمع المستقر. وهذا غير متوقع البتة لأن هذه الحيوانات نفسها كالثور والحمار كحيوانات جرا قد ساعدت في خلق هذا الفائتض. (وتحث التوراة-بالمناسبة-على معاملة هذه الحيوانات برفق؛ وتمنع المزارع من فرن الثور والحمار معا على محراث

20

ارتقاء الانسان

اللوحة رقم (6)

غيرت الجحافل المتحركة نظام المعركة. - فرسان غزاة من المغول؛ من كتاب ((جامع التواريخ)): وهو كتاب يبحث في تاريخ قاهر العالم: أتمه عام 1306 رشيد الدين الوزيرء المؤرخ لدى السلطان أولجايتو خان.

- قوات من الفرسان تعبر نهرا أثناء الغزو المغولي للهند.

اسنة خلت ظهر حيوان جر جديد هو الحصان. وهو حيوان يفوق كل ما سبقه من جميع النواحي. فهو أسرع وأقوى. واكثر سيطرة منها جميعاء.

حصاد الفصول

وأصبح الحصان من ذلك الوقت مصدر الخطر بالنسبة لفائض القرية من الحبوت:

بدأ الحصان بجر العربات ذوات العجلات: مثله مثل الثور؛ ولكن علىا مستوى أعظم, فقد استعمل لجر العريات في مواكب الملوك. ثم حوالي عام 0 ق. مء تعلم الإنسان كيفية امتطائه. ولابد أن ابتكار هذه الفكرة قد أذهل الجميع في ذلك الوقت مثلما أذهل الملأ اختراع الطائرة في عصرنا ‏ فتحقيق تلك الفكرة احتاج في البدء إلى حصان اكبر وأقوىء إذ أن الحصان في الأصل كان حيوانا صغيرا شبيها بحيوان اللاما في أمريكا الجنوبية؛ ولم يكن بمقدوره أن يحمل إنسانا لفترة طويلة. ولابد أن ركوب الخيل لاستعمالات جدية قد بدأ عند قبائل البدو الرحل التى عنيت بتريية الخيول | وكان هؤّلاء رجالا من أواسط آسيا وبلاد الفرس وأفغانستان وما وراءهاء وكانوا يرتحلون ضمن منطقة تشمل جنوب شرق أوروبا وأواسط آسيا ويعنون بتربية الخيول.. وقد نشأ من هذه العناية الحصان الحديث وكان يطلق وهو اسم يدل على مخلوق جديد مخيف أو ظاهرة طبيعية خارقة تلكم هي الفارس على ظهر حصانه. فالفارس يبدو وكأنه أكثر من إنسان: إذ أن رأسه يرتفع فوق باقي الرؤوسء و يتحرك بقوة مذهلة؛ حتى انه يبدو وكأآنه يخطو فوق العالم الحي. فعندما روضت حيوانات القرية ونباتاتها وسخرت لاستعمال الإنسان, كان امتطاء الجواد بالمقارنة اكثر من ظاهرة بشرية: إذ أنه كان بمثابة دليل رمزي يشير إلى السيطرة على كل الخليقة. إننا نعلم أن الأمر كان كذلك من الخوف والرعب الذي خلقه الحصان لدى الناس خلال العصور التاريخية, مثلما حصل عام 1532 عندما اجتاح الخيالة الأسبان جيوش بيرو (الذين لم يروا حصانا في حياتهم). وكذلك قبل هذا بوقت طويل كان فرسان آسيا الوسطى الأوائل يشكلون ذعرا اجتاح البلاد التي لم تكن تعرف فن ركوبا الخيل. وعندما شاهد الإغريق هؤلاء الفرسان لأول مرة ظنوا أن الجواد والفارس مخلوق واحد. ومن هنا ايتكروا أسطورة القنطور تهامع0 (وهوا كائن خرافي نصفه رجل ونصفه حصان). وفي الحقيقة أن الأسطورة الأخرى التي ابتدعها الإغريق عن أمثال هذه المخلوقات الخيالية والمسماة :زئه5 كان

ارتقاء الانسان

نصفها الحصان أيضا في الأصلء وليس العنزة. كل ذلك كان دليلاً على الذعر والقلق اللذين أثارهما لدى الإغريق هذا المخلوق المداهم الآتي ما بلاد الشرق.

ولا يمكننا أن نأمل بأن نستعيد اليوم مدى الذعر الذي زرعه الفارس) على جواده في منطقتي الشرق الأوسط وشرق أوروباء عندما ظهر لأول مرة. ذلك أنه كان هنالك فرق بالمستوى والمدى. لا يمكننى مقارنته إلا بدخول الدبابات الألمانية بولندا عام 1939: مجتاحة كل 8 أمامها. وأعتقد أن أهمية الحصان في التاريخ الأوروبي لم تحظ أبدا بما تستحقه من عناية. وبمعنى آخر يمكن القول بأن الحصان خلق الحروب كنشاطا لآولئتك البدو الرحل. فذلك ما جاءت به قبائل الهون الجرمان والتتار وأخيرا المغول وهو ما وصل إلى الأوج تحت قيادة جنكيز خان بعد ذلك بكثير؛ وبشكل خاص تمكنت جحافل الفرسان المتحركة من تحويل نظام المعركة. إفقد فكروا في استراتيجية مختلفة للحرب-استراتيجية تشبه لعبة الحرب؛ وكم يُحب صناع الحروب لعب مثل هذه الألعاب! تعتمد استراتيجية الجحفل المتحرك على المناورة. وعلى المواصلات السريعة والتحركات التكتيكية المتقنة التي يمكن ترتيبها معا لتنتج سلاسل مختلفة من المفاجآت. ولا تزال بقايا هذه الاستراتيجية تمارس في ألعابا الحروب التي مازالت تلعب والتي جاءت من آسيا مثل لعبة الشطرنج والبولو. وتعتبر استراتيجية الحرب عند المنتصرين فيها نوعا من أنواع اللعب. وبالمناسبة لا تزال هنالك حتى الآن لعبة تمارس في أفغانستان. وهي لعبة تدعى بوزكاشي 125501 812 انحدرت من ذلك ومين التنافس في القروسية الذي دأب المغول على ممارسته. إن الرجال الذين يمارسون لعبة بوزكاشي محترفون-أي أناس موظفون في خدمة أصحاب الجاه الذين يقدمون لهم أسباب العيش والتدريب؛ لهم ولخيلهم لمجرد مجد الفوز. وفي مناسبة كبرى يتجمع ثلاثمائة فارس من قبائل مختلفة ليتباروا في فنون الفروسية وقد توقفت هذه المباريات مند عشرين أو ثلاثين عاماء حتى استطعنا تنظيمها مرة أخرى (كي نسجلها تلفزيونيا) .

ولا يشكل لاعبو البوزكاشي فرقاً في المباريات (ولو كانوا من قبيلة

حصاد الفصول

واحدة). إذ أن الهدف من المباراة ليس إثبات أن مجموعة ما هي أفضل من غيرهاء بل هو إيجاد البطل الفائز. وقد كان هناك أبطال في الماضي. لا يزال الناس يذكرونهم. والرجل الذي ترأس العاب البوزكاشي التي نظمناها كان بطلا سابقا اعتزل اللعب. ويعطى الرئيس ايعازاته عن طريق مناد قد يكون هو ذاته أحد الذين شاركوا في هذه الألعاب واعتزل اللعب ولكنه لا يكون قد وصل إلى مكانة الرئيس. وبدلا من أن نشاهد كرة نرى عجلا بلا رأس. (وتدل أداة اللعب المرعبة هذه على اللعبة لكأنما يلعب اللاعبونا بغذاء الفلاحين). وتزن هذه الجيفة زهاء خمسة وعشرين كيلو غراما. والهدف من اللعب هو أن يمسك بها الفارس ويحملها بيده مانعا أيا من المتبارين من انتزاعها منه ثم ينقلها عبر مرحلتين. المرحلة الأولى هي حملا جثة العجل ونقلها بأسرع ما يستطيع سوق جواده حتى العلم المرفوع على الحد وعليه أن يدور حوله. وبعد ذلك تأتي المرحلة الثانية الحاسمة ألا وهي العودة. فبعد أن يدور حامل العجل حول العلم؛ يبدأ في العودة وكل فارس من المتبارين يحاول بكل وسيلة انتزاع جثة العجل منه والفائز هو الذي يصل إلى دائرة محددة في وسط المضمار حاملا العجل ومازال على ظهر حضائه, ا

وتنتهي اللعبة بتحقيق هذا الهدف الوحيد. وليست هذه المباراة حدثا رياضياء وليس في قواعدها ما يشير إلى اللعب (النظيف) العادل. وأساليبا الفرسان فيها مغولية بحتة؛ أي نظام الصدمة والمباغتة. والشيء المدهش في المباراة هو الأمر الذي هزم الجيوش التي واجهت المغول: أي أن ما يبدو على شكل مناوشة وحشية ليس سوى مناورة كاملة تنتهي فجأة عندما يبلغ الفارس الفائز الهدف. ويتكون لدى المرء إحساس بأن الجمهور مستثار ومنفعل عاطفيا بهذم اللعبة أكثر من اللاعبين. ويبدو اللاعبون بالمقارنة ملتزمين ولكن ببرودة القسوة. فهم يكرون في المضمار بتركيز ممتاز ووحشي ولكنهم ليسوا منغمسين في اللعب, لأنهم منغمسون في الكسب والفور. وبعد انتهاء المباراة يحس الفائز نفسه بالإثارة فقط. وكان عليه أن يطلب من الرئيس إقرار حصوله على الهدف. أما إذا غفل في غمرة الضجيج ذاك عن القيام بهذه الخطوة التي تملها قواعد الأصول فانه يخاطر بهدفه الذي حققه. ومن

ارتقاء الانسان

المفيد أن يعرف بأن الهدف قد أقر.

إن لعبة البوزكاشي لعبة حربية؛ والآمر الذي يجعلها مثيرة جدا هو أخلاق رعاة البقر:, أي ركوب الخيل كعمل حربيء إذ يعبر عن ثقافة الغزو التي يمكن أن توصف بالجنون الفردي. والتي يتخذ فيها المفترس صفة البطل لأنه يطارد بجواده وكأنه زوبعة. ولكن الزوبعة فارغة. وسواء أكانت المطية حصانا أم دبابة وسواء كان القائد جنكيز خان أو هتلر أو ستالين فان اللعبة لا تتغذى إلا على جهود الآخرين ونصبهم. إن البدوي المترحل فيا آخر دور تاريخي له كصانع حرب. مازال ظاهرة ومفارقة في غير زمانها . والأسوأ من ذلك أن هذه الظاهرة لا تزال موجودة في عالم اكتشف خلال الاثني عشر ألف سنة المنصرمة أن الحضارة لا يصنعها إلا البشر المستقرون|

خلال كل هذه المقالة يجري هناك صراع بين طريقة حياة الإنسان المترحل المتنقل. وطريقة حياة الإنسان المستقر. ولذا فانه من المناسب كنوع من المرثاة أن نذهب إلى تلك الهضبة العالية الجرداء التي تعصف بها الرياح في منطقة السلطانية في بلاد فارس. فهناك انتهت آخر محاولة لآسرة جنكيز خان المغولية لجعل طريقة حياة القبائل الرحل هي الطريقة السائدة في الحياة. والنقطة الهامة هنا هي أن اختراع الؤراضة قبل اثنيا عشر آلف مشة لم يستطم بحد-ذاكه ان يرسي قواعد الحياة المستقرة: بلا على النقيض من ذلكء أدى تدجين الحيوان الذي رافق الزراعة إلى إعطاء قوة ونشاط جديدين لاقتصاد الإنسان المتنقل: كتدجين الماعز والغنم على سبيل المثال؛ ثم تدجين الحصان الذي يفوق في أهميته كل ذلك. ذلك أن الحصان هو الذي منح قبائل جنكيز خان الرحل القوة والتنظيم اللذين مكنا تلك القبائل من غزو الصين والدول الإسلامية والوقوف على أبواب أواسطا أوروبا. وقد كان جنكيز خان بدويا مترحلا ومخترع آلة حرب قوية؛ وهذا الارتباطا يبين شيئًا بالغ الأهمية عن أصول الحروب ونشأتها في تاريخ الإنسان. وبالطبع. هناك ما يغري المرء بأن يغمض عينيه عن التاريخ: وأن يتكهن عوضا عن ذلك بأن الحروب تهعود في جذورها إلى الغريزة الحيوانية: كما لو أننا مازلنا مضطرين-مثل النمر-لأن نقتل لنعيش أو كطائر الحناء أحمر الصدر الذي يدافع عن منطقة عشه. ولكن الحرب-والحرب المنظمة على

5“

اللوحة رقم (7) المنافسة في الفروسية التي كان المغول يمارسوتها.

وجه الخصوص-ليست غريزة إنسانية: إنها شكل من أشكال السرقة أو اللصوصية يتصف بالتعاون ودقة التخطيط. وقد بدأ هذا الشكل من اللصوصية منذ عشرة آلاف عام عندما تراكم عند حصادي القمح فائض من الحنطة؛ فانطلقت مجموعات البدو الرحل من الصحراء لتسلبهم القمح الذي لم يستطع أولئك الرحل توفيره لأنفسهم. والدليل على هذا ما شاهدناه في مدينة أريحا المسورة وبرجها وقد شيدا فيها قبل التاريخ. تلك هي بداية الحرب.

جلب جنكيز خان وأسرته المغولية طريقة السلب في الحياة عن طريق الحرب إلى عصرنا نحن (الألف الميلادي الثاني). قي الفترة ما بين عامي

ارتقاء الانسان

اللوحة رقم (8) الهضبة الجرداء التي تعصف بها الرياح بمنطقة السلطانية في بلاد فارس؛ حيث انتهت أخر محاولة لأسرة جنكيز خان المغولي لجعل طريقة حياة القبائل الرحل الطريقة السائدة. قبة ضريح أولجايتو خان؛ الخامس من سلالة جنكيز خان؛ والذي حكم بلاد فارس منذ عام 4 م حتى 1316 م؛ كجزء من الإمبراطورية المغولية.

0 بعد الميلاد قامت هذه السلالة ريما بآخر محاولة لتوطيد سيادة طريقة قاطع الطريق الذي لا ينتج شيئًا والذي-بأسلوبه القاسي غير المسئول- يأخن من الفلاح (الذي ليس بوسعه أن يهرب إلى أي مكان) الفائتض الذي يجمعة من الزراغة.

56

حصاد الفصول

بيد أن تلك المحاولة باءت بالفشل» وقد فشلت لأنه لم يعد أمام المغول ما يفعلونه-بعد أن حققوا هدفهم وهزموا الشعوب التي غزوها-سوى أن يتبنوا طريقة حياة هده الشعوب. فعندما غزوا الأراضى الإسلامية أصبحوا مسلمينء واستقروا وأصبحوا مستوطنين لأن الحرب والسلب لا يمكن أن تكونا الأساس لحياة دائمة يمكن الحفاظ عليها. ومع أن جنكيز خان لم يدفن وبقيت عظامه تحملها جيوش ال مغول في المعارك كذكرى وحافزء غير أن حفيده قبلاي خان في فترة قصيرة أصبح بناء وملكا مستقرا في الصين؛

وخاسي ورييك لستكير يكاق هو السلطان ا وليجايق الذى قم إلى كلاف الهضبة القفر في بلاد الفرس ليشيد عاصمة عظيمة جديدة: السلطانية؛ وكل ما بقي الآن من هذه المدينة هو ضريح السلطان أوليجايتو الذي أصبح نموذجا لكثير من هندسة العمارة الإسلامية. وكان أوليجايتو ملكا متحررا (بعراانا] دو احص إلى نماعةه جالات من عفيع الساء الحالي وكاق يديت بالسيحية كه أمبيع فى رك فك ردين باالبرنية وا غير بالالساخميوت حاول فعلا جعل بلاطه بلاطا عالميا. لقد كان هذا الشيء الوحيد الذي كان بوسع البدوي المترحل أن يسهم به في الحضارة: لقد جمع الثقافات من ولغله مروكترية القدو اق كون نباية مسارنة كبائل القرل الريل الوصوق إلى القرة والسيستر هنا أن يطاق على أو ايسا كر عقوا ماك الننم أوليجايتو البناء. والحقيقة الواضحة التى نخلص إليها هى أن الزراعة وحياة الاستقرار أصبحتا الآن خطوتين ثابتتين في عملية ارتقاء الإنسان؛ كما فرضتا مستوى جديداً لشكل من أشكال التناغم والتفاهم البشريين, الذي أثمر في المستقيل البعيد ثمرة هي : تنظيم المدينة.

537

ارتقاء الانسان

الهو امش

(!) زراعة الذرة نشأت لأول مرة في العالم الجديد وفي أمريكا الشمالية بالتحديد. (ز. ك)

فسيحج الحي

خلق الله الأرض منذن أكثر من أربعة آلاف مليون عام. وخلال هذه المدة كلها تشكلت الأرض وتغيرت باستمرار بوساطة نوعين من التفاعل؛ أولهما قيام القوى الكامنة في باطن الأرض بثني طبقات الصخور وتجعيدها ورفع الكتل اليابسة (أو ما يعرف بكتل القارات) وتحريكها. وثانيهما فعل التعرية والنحت الذي قامت به عوامل التعرية المختلفة ومنها الثلوج والأمطار والعواصف والنهيرات والمحيطات والشمس والرياح؛ وقد أدى فعل هذه العوامل إلى نحت سطح الأرض وإعطائه هندسة عمارته الطبيعية:

وقد أصبح الإنسان عاملا في هندسة بيئته. ولكنه لا يملك قوى تقارب ما لدى الطبيعة منها. وقد كان أسلوبه في ذلك ومازال انتقائيا واختيارياء وهو منحى ثقافي يعتمد فيه العمل على الفهم,؛ وقد أتيح لي أن أتتبع تاريخ ذلك المنحى في ثقافات العالم الجديدء التي هي أحدث زمانا من ثقافات أوروبا وآسيا . ولقد ركزت في مقال لي على أفريقيا الاستوائية, لآن بدء خلق الله للانسان كان هناك «كما يظن». أما مقالي السابق فقد تركز حول الشرق

ارتقاء الانسان

الأوسطء. لأن بدء خلق الإنسان للحضارة كان هناك. ولقد حان الوقت الآن كي نتذكر أن الإنسان قد وكل إلى قارات أخرى أيضا خلال تجواله الطويل فوق الأرض.

إن وادي دوتشيللي في أريزوناء واد سرّي يأخذ بالآلباب. وقد تعاقبت على سكناه القبائل الهندية الواحدة تلو الأخرى دون توقفت تقريباء على مدى ألفي عام منذ ميلاد المسيح. وهذه أطول فترة عاش فيها الهنود الحمر بصورة مستمرة في أي مكان في أمريكا الشمالية. ولدى السير توماس براون عبارة رائعة يقول فيها: «لقد استيقظ الصيادون في أمريكا بعد أن تجاوز أقرانهم في بلاد فارس نومهم الأول». فعند ميلاد المسيح كان الصيادون فد بدءوا يستقرون زراعيا في وادي دوتشيلليء: وبدءوا يسيرون على نفس خطوات الارتقاء التى كانت قد تمت فى منطقة الهلال الخصيب الشترق: الا وهل ا ا

ا أما لماذا ابتدأت الحضارة متأخرة جدا في العالم الجديد بالمقارنة مع العالم القديم؟ فمن الواضح أن السبب يرجع إلى أن الإنسان قد جاء إلى العالم الجديد في وقت متأخر. وقد أتى قبل اختراع القوارب: وهذا يعني ضمنا أنه وصل العالم الجديد سيرا على الأقدام عبر ممر بهرنج الذي كان متجمدا خلال العصر الجليدي الأخير. وتشير الدلائل الجليدية إلى أن هنالك زمنين محتملين يمكن أن يكون الإنسان القديم قد عبر فيهما من نتوءات أطراف العالم القديم في أقصى الشرق-فيما بعد سيبيريا-إلى مجاهل الاسكا الغربية الصخرية القاحلة في العالم الجديد . وتنحصر الفترة الأولى بين سنة 000 28 ق. م و 000 23 قبع وحصي الكائية بين نظ ذه 14 وسنة 0‏ ق.م. إذ أنه بعد ذلك رفع الفيضان الذي حدث من انصهار الثلوج, في نهاية العصر الجليدي الآخيرء مستوى مياه البحر مرة أخرى عدة مئات من الأقدام موصدا بذلك الباب على سكان العالم الجديدء (وقاطعا عزلتهم بالبشر في العالم القديم).

إن ما سبق يعني أن الإنسان قدم من آسيا إلى أمريكا قبل مدة لا تقل عن عشرة آلاف عام ولا تزيد عن ثلاثين ألف عام؛ وليس بالضرورة أن يكون الناس قد أتوا دفعة واحدة. فثمة دلائل في المكتشفات الأثرية (مثل بعض الأدوات والمواقع القديمة) تشير إلى ورود تيارين ثقافيين مختلفين

420

إلى أمريكا. ولكن أكثر ما يقنعني دليل بيولوجي عميق غير مباشر ولكنه مقنع لا يمكنني إلا أن أفسره بأنه يشير إلى أن الإنسان قد أتى إلى أمريكا في هجرتين صغيرتين ومتعافبتين.

فالقبائل الهندية في شمال وجنوب أمريكا لا تحوي دماؤها كل أنواع الملجموعات (الزهر) الدموية المؤجودة لدئى سكان الغالم الآخرين.وهذه الصفة الحيوية الخاصة تفتح المجال لنظرة مثيرة ذلك أن المجموعات (والزمر) الدموية تتوارث بشكل يجعلها-بالنسبة لآمة ماسجلا وراثيا كاملا عن الماضي. ففياب المجموعة أو الزمرة الدموية (أ) كليا من مجموعة من السكان يعني بكل تأكيد عدم وجود هذه المجموعة في دم أسلافهم: و ينطبق الكلام ذاته على المجموعة (ب). وهذا واقع الحال في أمريكاء فقبائل أواسط أمريكا وجنويها في الآمازون ومنطقة جبال الآنديز ومنطقة النيران (تييرادل فويغو) على سبيل المثال تنتمي برمتها إلى المجموعة الدموية (و), وكذلك الحال في بعض القبائل في أمريكا الشمالية. وهنالك قبائل هندية أخرى (مثل السيو والشيبيوا والبويبلو) دمها من مجموعة (و)؛ وهناك نسبة 0- 15“ من عددهم دمها من مجموعة (1).

وبإيجازء تشير الدلائل إلى عدم وجود مجموعة الدم (ب) في سكان أمريكا الأصليين بينما هي موجودة في معظم أجزاء العالم.

وفي أواسط جنوب أمريكا نجد أن كل مجموعة السكان-الهنود الحمر- الأصليين ينتمون إلى المجموعة الدموية (و)؛ وفي شمال أمريكا إلى مجموعتين (و) و (أ).

ولا يسعني هنا أن أرى أي تفسير معقول سوى الاعتقاد بأن الهجرة الأولى كانت لمجموعة صغيرة من الناس ذوي القربىء؛ دماؤّهم كلهم من المجموعة (و) جاؤوا لأمريكا وتكاثروا وانتشروا حتى جنوب أمريكا الجنوبية. بعد تلك الهجرة حصلت هجرة ثانية من مجموعات صغيرة ينتمي دمها إما إلى مجموعة () وحدها أو إلى () و (و) معا. وقد وصلت المجموعة الثانية حتى أمريكا الشمالية فقط. وعلى ذلك يحتوي دم هنود شمال أمريكا بالتأكيد على جزء من دم الهجرة الأخيرة وبمعنى آخر فان هنود شمال أمريكا يعتبرون مهاجرين جددا بالمقارنة بهنود أواسط أمريكا وجنوبها.

وتعكس الزراعة في منطقة وادي دوتشيللي هذا التأخر (في الهجرة

له

ارتقاء الانسان

والاستقرار) . مع أن الذرة كانت قد زرعت في أواسط وجنوب أمريكا منذ عهد بعيد؛ فإنها عرفت هنا منذ عهد المسيح فقط. وكان الناس آنذاك (في أمريكا الشمالية) غاية في البساطة؛ لا بيوت لهم: بل يعيشون في الكهوف, ولم يعرفوا صناعة الفخار إلا في حوالي عام 0 يد اشاكد .وقد كاخا يحفرون مرابع لهم في المغائر والكهوف ذاتهاء ويفطونها بسقوف من الطين واللبن المجفف بالشمس. وظل الوادي في تلك الحالة جامدا تماماء حتى نهاية الألف الأول الميلادي عندما جاءت حضارة بريبلو العظيمة اعنم وأدخلت البناء بالحجر.

وأنا أفرق بشكل أساسي بين هندسة البناء القائمة على إنتاج البيت كله كما لو كان نتاج قالبء؛ وبين الهندسة القائمة على التجميع من عدة قطع. ويبدو هذا التمييز واضحا بكل بساطة بين البيت المصنوع من الطين والبيت المصنوع من الحجر. بيد أن ذلك الارن يذكل هي الجتيلة اخثازها كربا رئيسياء وليس اختلافا فنيا فقط. وأعتقد بأن إحدى أهم الخطوات التي اتخذها الإنسان حيثما وحينما قام بذلك تتمثل في التمييز بين عمل اليد القالبي والكلي. وعمل اليد التحليلي أو التقطيعي إلى أجزاء.

ويبدو وكأنه اكثر من أمر طبيعي في العالم أن يأخذ الإنسان بعض الطين ويشكله بشكل كرة أو يصنع منه تمثالا صغيرا أو فنجانا أو بيتا صغيرا. ونشعر في البداية بأن هذه الأشكال إنما هي صورة لأشكال في الطبيعة؛ ولكنها في الواقع؛ ليست كذلك. إنها أشكال من صنع الإنسان؛ فما يعكسه القدر هو اليد الإنسانية المكورة (كما يفعل عندما يغرف بها ماء) وما يعكسه بناء المنزل هو عمل الإنسان التشكيليى. ولا شىء أمكن اكتشافه عن الطبيعة نفسها مما يفرضه الإنسان عليها من أشكال حانية منسابة وأنثوية. وعلى ذلك فالشيء الوحيد الذي تعكسه بعملك هو شكل يدك أنت بالذات. ا

لكن ثمة عملاً آخر لليد البشرية يختلف ويتعارض مع ذلكء ألا وهو شق الخقب وتعطيع الحجارة . لأنه بواسطة تلك العملية؛ نجد أن اليد البشرية (مزودة بأداة) تمحص وتكتشف ما سود ٠وبذا‏ تصبح أداة للاكتشاف. فثمة خطوة فكرية كبيرة إلى الأمام عندما يشق الإنسان قطعة من الخشب أو يشطر قطعة من الحجرء ويعزي بذلك الطرز التي وضعتها الطبيعة فيه

412

قبل أن يشقه. ولقد وجد شعب بويبلو تلك الخطوة في صخور الحجر الرملي الأحمر التي تعلو ألف قدم فوق مستوطنات أريزوناء فطبقات الصخور الأفقية كانت تدعو من يقطعها. وقد وضعت الكتل المقطوعة مرصوصة بجوار بعضها لعمل جدران وسقوف على امتداد نفس مستويات الطبقات في صخور وادي دوتشيللي.

ومننذ القديم (العصر الحجري الآول) والإنسان يصنع أدوات نتيجة محاولة تشكيله للصخرء ومن تشكيله للحجر تبين له أحيانا أن للحجر نسيجا طبيعيا!'). وفي أحيان أخرى أوجد صانع الأدوات خطوط الانشقاق بأن تعلم كيف يضرب الحجر لينشق وفق خطوط انشقاقه. ويبدو أن هذه الفكرة خطرت للانسان في بداية الأمر. عند شق الخشب وقطعه. ذلك أن الخشب مادة ذات بنية واضحة وينشق بسهولة أكثر إذا جرى قطعه وفق خطوط نسيجه ولكن قطعه يصبح صعبا إذا حاول المرء ذلك بعكس امتداد النسيج. ومن هذه البداية البسيطة استطاع الإنسان أن يكشف طبيعة الأشياء. وأن يزيح النقاب عن القوانين التي تمليها بنية المادة وتكشف عنها . وهكذا نجد أن اليد البشرية لم تعد تفرض نفسها على شكل الأشياء؛ بل أصبحت عوضا عن ذلك أداة للاكتشاف والمتعة معا. أي أن الأداة تتخطى غاية استعمالها المباشرة لتدخل إلى الخصائص والأشكال الخفية داخل المادة وتكشف عنها. مثل ذلك إذا قطع إنسان بلورة فانه يفسح لنا المجال لأن نجد في الشكل الداخلي قوانين الطبيعة السرية.

إن فكرة اكتشاف نظام خفي في المادة هي مفهوم الإنسان الأساسي لاستكشاف الطبيعة؛ والشكل الهندسي الخارجي للأشياء يكشف عن أن هناك بنية تحت السطح أو نسيجا خفيا إذا ما غزي يجعل من الممكن فصل التشكيلات الطبيعية عن بعضها وإعادة تركيبها بترتيبات جديدة. وبالنسبة لي: تلك هي الخطوة في ارتقاء الإنسان التي تبدا عندها العلوم النظرية وكما أنها من صميم الطريقة التي يتفهم بها الإنسان مجتمعه فهي من صميم أسلوب تفهمه للطبيعة.

ونحن بني البشر نرتبط مع أهلنا في إطار العائلة» وترتبط العاثلات معا في مجموعات قرابة؛ وتترابط مجموعات القرابة هذه لتكون العشائر, والعشائر بدورها تكون القبائل والقبائل تكون الأمم. إن المعنى في هذا

423

ارتقاء الانسان

اللوحة رقم (9) شوارع إحدى المدن التي لم يشاهدها أحد منا من قبل؛ إحدى مدن الحضارات التي توارت عن الوجود . لاحظ كيف اصطفت الأحجار الغرانيتية دون مؤونة؛ وكيف شذبت وجوه الحجر وهي الصفة المميزة لأبنية شعب الانكا.

التسلسل الهرميء الذي تقع فيه طبقة فوق طبقة يسود في الطبيعة مهما كانت الطريقة التي ننظر إليها بها. إن الدقائق الأساسية في المادة تشكل الأنوية» والأنوية تتجمع لتشكل الذرات؛ والذرات تتحد مكونة الجزيئات والجزيئات تتجمع مشكلة قواعد, وتوجه هذه القواعد تجمع الأحماض الأمينية التي تتجمع لتكون البروتينيات. وهكذا نجد-مرة ثانية-في الطبيعة شيئًا يبدو أنه يتوافق بعمق مع الطريقة التي تربطنا بها علاقاتنا الاجتماعية.

441

فوادي دوتشيللي هو عالم مصغر من الثقافات؛ وقد بلغ أوجه عندما بنت قبائل البويبلو تلك الأبنية الضخمة بعد عام 1000 للميلاد . وهذه الأوابد لا تشكل تفهما للطبيعة من خلال تطويع الحجارة والعمل بها فحسب. بل تشكل أيضا تفهما للعلاقات البشرية. لآن شعب بويبلو أنشأً هنا وفي أماكن أخرى نوعا من المدينة المصغرة. فالمنازل المقامة على حواف الصخور كانت ترتفع على شرفات سخرية إلى خمسة أو ستة طوابق؛ وكانت الطوابق العلوية فيها متراجعة عن الطوابق السفلية. وكانت مقدمة البناء في مستوى الصخور بينما تنثني المؤخرة لتتطابق مع ميل الصخور. وكانت هذه المجمعات الهندسية الضخمة في بعض الأحيان ذات مساحة تصل إلى فدانين أو ثلاثة أفدنة وتتكون من عدد من الغرف يصل إلى أريعمائة غرفة أو أكثر.

إن الحجارة تشكل جداراء والجدران بيتا والبيوت شوارع: والشوارع مدينة؛ والمدينة عبارة عن حجارة وأناس. لكنها ليست أكواما من الحجارة أو حشودا من الناس. إذ أن الانتقال من مرحلة القرية إلي مرحلة المدينة يتطلب بناء نظام اجتماعي جديد؛ مبني على أساس تقسيم العمل وتسلسل القيادة. وطريقة استعادة فهم ذلك هي أن نجوب شوارع مدينة لم يشاهدها أحد منا من قبل-مدينة لإحدى الحضارات التى اختفت وانقضت.

تقع مدينة ماشوبيكشو ددءهنط «داءه31 في أعالي جبال الأنديز في أمريكا الجنوبية على ارتفاع 8000 قدم عن سطح البحر. وقد شيدها شعب الانكاء في أوج إمبراطورياتهم حوالي عام ١500‏ بعد الميلاد أو آبل ذلك بقليل (بالتقريب في الوقت الذي وصل فيه كولومبوس جزر الهند الغربية في أمريكا) وكان تخطيط المدينة أعظم منجزات هذا الشعب. وعندما غزا الآسبان بلاد البيرو واستباحوها عام 532ام تحاشوا التعرض لمدينة ماشوبيكشو وشقيقاتها من المدن وبعد ذلك طواها النسيان لمدة أربعمائة سنةء إلى أن أتى في أحد أيام شتاء١!19‏ م عالم آثار شاب من جامعة ييل يدعى هيرام بنجهام وعثر عليها صدفة. وكانت عندها قد هجرت لعدة قرون مضت ونهبت تماما وخلت من أي شيء عدا أبنيتها العارية كهيكل عظمي لم يبق فيه سوى العظم. يبد أنه تكمن في هيكل تلك المدينة البنية الحضارية لكل مدينة في أي عصر وفي أي مكان من هذا العالم.

يترتب على المدينة أن تعيش على أساس من الأرض الزراعية التي

425

ارتقاء الانسان

تعطي فائضا زراعيا وافراء والأساس الظاهر الذي اعتمدت عليه حضارة شعب الانكا كانت زراعة الشرفات والمدرجات الجبلية. وبالطبع لا نجد الآن في تلك الشرفات العارية سوى بعض الأعشاب. بيد أن البطاطا كانت قد زرعت هنا (وهي من محاصيل البيرو الأصلية). وكذلك الذرة التي كانت قد زرعت في الشمال وجاءت إلى هنا وأصبحت إحدى محاصيل الانكا. ولما كانت هذه المدينة-بشكل ما-مدينة طقوس واحتفالات فقد زرعت فى مدرجاتها أيضا بعض النباتات الترفيهية التي تنمو في المناخات الاستوائية مثل نبات الكوكا. وهو عشب بري مخدر لم يكن يسمح بمضغه إلا للنخبة الأرستقراطية من شعب الانكاء عندما كانوا يأتون للاحتفالات ومنه يستخرج الكوكائين.

إن زراعة هذه المدرجات لا يمكن أن تقوم دون نظام للري وهذا ما أقامته فعلا إمبراطورية الانكا والإمبراطوريات التي سبقتهاء فشبكة المياه كانت تجري عبر هذه المدرجات؛ من خلال قنوات أرضية وقنوات محمولة على عمد, ثم تمر إلى الوديان الهادرة نحو الصحراء حتى تصل إلى المحيط الهادي؛ جاعلة الأرض الخضراء مزهرة. وتماما كما في الهلال الخصيب حيث كان الأمر الهام هو السيطرة على الماء. كان الوضع نفسه في بيرو إذ بنيت حضارة الانكا على السيطرة على الري.

إن إقامة نظام ري واسع وكبيرء يمتد في جميع أرجاء الإمبراطورية, يتطلب وجود سلطة مركزية قوية. وهذا ما كان في بلاد ما بين النهرين؛ وقبلها في مصرء والآن في إمبراطورية الانكا. وهذا يعني أن هذه المدينة- وكل اكدن الألخرى هنا ايد إن فاحدةاغير مركنة بين الالسبالالت: بحرت إن السلطة كانت قادرة على التواجد وعلى إسماع صوتا في كل مكان؛ بحيث تصدر الأوامر من المركز وتأتي المعلومات إليه من كل حدب وصوب. وكاقت كلافة اكعراعاك مسكولة عن بقاء شبكة السلطة؛ وهذه هي الطرق والجسور (في بلاد وعرة كهذم) وإيصال الرسائل وتسلمها. وقد تمركزت هذه الأمور فى هذه المدينة عندما كان يسكنها هنود الانكا الحمرء ومن هذه المدينة انتشرت إلى خارجها. إنها خلاث حلقات للاتصال تتصل بواسطتها كل مدينة بكل مدينة أخرى, ولكننا نتحقق فجأة أنها مختلفة في مدينة ماشوبيكشو عنها في المدن الأخرى.

410

اللوحة رقم (10)

مدينة ماشوبيكشوء ثم وادي أوربامباء في منطقة شرف الأنديز في البيرو. تطل على هذه المدينة قمة جبل هويانا بيكشو التي يبلغ ارتفاعها 15000 قدم فوق سطح البحر.

417

ارتقاء الانسان

وتعتبر الطرق والجسور والرسائل في إمبراطورية عظيمة اختراعات متقدمة دائماء لأنها إذا ما فُطعت انهارت السلطة وتقطعت أوصالهاء لذلك تعتبر هذه الوسائط في الأزمنة الحديثة دوما الهدف الأول عند حدوث ثورة أو انقلاب. ومن المعروف الآن بأن إمبراطورية الانكا قد أولت هذه الأمور الثلاثة عناية كبيرة» علما بأنه لم تكن ثمة عجلات على الطرق؛ ولا أقواس تحت الجسور كما أن الرسائل لم تكن خطية. ومن المسلم به أن حضارة الانكا لم تبتكر هذه الوسائل عند عام 1500 بعد الميلاد. ذلك أن الحضارة في أمريكا بدأت متأخرة عن حضارة العالم القديم بعدة آلاف من السنين. وقد هزمت هذه الحضارة واستبيحت قبل أن يتسنى لها تحقيق جميع اختراعات العالم القديم.

ويبدو غريبا جدا أن الهندسة التي نقلت حجارة البناء الكبيرة على الأعمدة المتدحرجة قد فاتها استعمال العجلة؛ ولكن يجب أن لا يغيب عن أذهاننا أن الشيء الأساسي في العجلة هو المحور الثابت. كما يبدو غريبا أيضا أن تقيم هذه الحضارة الجسور المعلقة وتفوتها الأساس في الجسور. لكن الأغرب من ذلك كله هو وجود حضارة كان بوسعها حفظ سجلات للمعلومات العددية بعناية؛ ولكنها لم تستطع اختراع الكتابة لتدوينها. فقد كان إمبراطور الانكا أميا مثل أفقر مواطن في مملكته؛ أو مثل قاطع الطريق الأسباني الذي أطاح به.

كانت الرسائل التي تحتوي على معلومات عددية ترد إلى الانكا بواسطة قطع من الخيوط تسمى (كويبوس) :نام1نا© فرسالة الكويبوس لا تسجل سوى الأرقام عن طريق العقد المرتبة بطريقة تشبه نظامنا العشري. وكم كنت أود في هذا المجال أن أقول-بصفتي عالم رياضيات-إن الأرقام في مدى ما تعطيه من معلومات وفي رمزيتها الإنسانية توازي الكلمات؛ ولكنها ليست كذلك فالأرقام التي وصفت حياة الإنسان في البيرو كانت تجمع بأسلوب بطاقات العقول الحاسبة الإلكترونية المثقبة ولكن بشكل معكوس, أو كحاسب إلكتروني للمكفوفين على طريق بريل. كل ذلك عن طريق خيط عليه عقد. فعندما كان المرء يتزوج تنتقل قطعة الخيط الخاصة به إلى مكان آخر في الحزمة العائلية. وكل ما كان يحفظ عند جيوش الانكا وضي مخازنهم وأهرائهم كان يدون بواسطة نظام العقد هذا على خيوط الكويبوس.

48

والحقيقة أن البيرو كانت قد أصبحت تمثل حاضرة المستقبل المرعبة:؛ إذ كانت مخزن الذاكرة لإمبراطورية تسجل تصرفات كل مواطن وتقيم أوده وتحدد له نوع عمله؛ كل ذلك بطريقة غير شخصية على شكل أرقام.

لقد كان مجتمع الانكا متماسكا ومترابطا بشكل يدعو للإعجاب. فلكل مكانه وكل مؤمن عيشه؛ وكل فرد سواء كان قلاحا أو حرقيا أو جنديا كان يعمل لشخص واحد. هو رئيس الانكا الأعلى. وكان هذا هو رئيس الدولة وكان أيضا التجسيد الديني للاله. والحرفيون الذين نحتوا بمحبة الرمز الذي يمثل الصلة بين الشمس وإلهها ومليكها الانكاء إنما كانوا عما لا يشتغلون عند الانكا نفسه.

ولذا كانت-بالضرورة-إمبراطورية هشة سريعة الزوال بشكل غير عادي؛ ففي أقل من مائة عام: أي من عام ١438‏ وصاعداء احتل شعب الانكا ما طوله ثلاثة آلاف ميل من الشريط الساحلي أي أنهم سيطروا تقريبا على كل ما يقع بين جبال الأنديز والمحيط الهادي. بيد أنه في عام 1532 قدم إلى البيرو مغامر أسباني أمي تقريبا يدعى فرانشيسكو بيزارو. ومعه ما لا يزيد عن اثنين وستين حصانا مخيفة ومئة وستة من جنود المشاة. وبهذه القوة استطاع بين عشية وضحاها هزيمة هذه الإمبراطورية العظيمة واحتلالها.

ولكن كيف تم ذلك 5 كان ذلك بقطع رأس الهرم: بأسر الانكا . ومنذ تلك اللحظة تهاوت الإمبراطورية وانهارت. وأصبحت المدن الجميلة مفتوحة عارية أمام ناهبي الذهب واللصوص الطامعين.

ولكن المدينة؛ بالطبع؛ أكثر من مجرد سلطة مركزية. فما هي المدينة ؟ المدينة أناسء والمدينة حية؛ إنها مجتمع يعيش على قاعدة من الزراعة: أغنى بكثير مما في القرية» بحيث إن بمقدورها ضمان معيشة كل نوع من الحرفيين وترك كل منهم يعمل متخصصا في حرفته مدى حياته.

ولكن الحرفيين عندما حدث الغزو اختفواء وعلم كل ما صنعوه. فالناس الذين صنعوا مدينة ماشوبيكشو-صائغ الذهب والنحاس والنساج وصانع القدور-سرقت كل أعمالهم. فالقماش المنسوج تحلل وتآكل؛ والبرونز تلاشى, والذهب نهب. ولم يبق سوى عمل البنائين أي مهارة الصناعة الجميلة عند الرجال الذين عملوا المدينة. ذلك أن الذين شيدوا المدينة لم يكونوا أباطرة

49

ارتقاء الانسان

الانكاء بل الحرفيون المهرة. بيد أنه من الطبيعيء إذا كنت تعمل عند الانكا (أو عند أي رب عمل آخر أن يحكمك ذوقه وبذا لا تستطيع ابتكار أي جديد . وهكذا ظل هؤلاء الرجال يعملون-حتى نهاية الإمبراطورية-قي البناء على نفس المنوال دون أن يتوصلوا إلى ابتداع القوس المجري. وهنا مقياس للفجوة الزمنية التي كانت تفصل العالم الجديد عن العالم القديم. ذلك أن تلك هي بالضبط النقطة التي توصل إليها اليونانيون قبل ألفي سنة وهي النقطة التى توقفوا عندها أيضا.

كانت باستوم و12 مستعمرة إغريقية تقع في جنوب إيطالياء وكانت هياكلها أقدم حتى من هيكل البارثنيون: إذ يعود تاريخها إلى عام 500 ق. م. وقد امتلاً مجرى النهر الذي يمر فيها بالطمي وأصبحت تنفصل الآن عن البحر بسهوب ملحية. بيد أن أمجادها مازالت رائعة. مع أن فئّات من

7 7 1 1

اللوحة رقم )1١١(‏ المعابد الإغريقية غنية بالأشكال الهندسية البديعة. معبد بوسيدون في بلستوم؛ جنوب إيطاليا. إن الطبقتين من الأعمدة وسيلة لجعل البناء خفيفا

المسلمين نهبوها في القرن التاسع الميلادي؛ كما نهبها الصليبيون في القرن الحادي عشرء إلا أن باستوم-بأطلالها-ما زالت تعتبر إحدى الروائع الخالدة في فن العمارة الإغريقي.

وقد عاصرت باستوم بداية عدم الرياضيات عند الإغريقء: وقد علم فيثاغورس-عندما كان منفيا-في مستعمرة إغريقية ثانية تدعى كروتون لا تبعد كثيرا عن باستوم. وكما كانت الرياضيات في بيرو بعد ألفي سنة, كانت تحد معابد الإغريق الحواف المستقيمة والمربعات غير أن الإغريق لم يخترعوا القوس أيضا. ولذا نجد أن معابدهم عبارة عن شوارع مزدحمة بالأعمدة. وهي تبدو فسيحة عندما نشاهدها أطلالاً. لكنها في الحقيقة نصب مقامة دون مساحات. و يعود ذلك إلى أن الأعمدة كانت تسقف بعمود عرضي (عارضة). والمسافة التي كان يمكن جعلها بين العمودين المسقوفين بعارضة مفلطحة كانت محدودة بقوة تلك العارضة.

فإذا أخذنا صورة عارضة حجرية ممتدة بين عمودين فإن التحليل بواسطة الحاسب الإلكتروني يبين بوضوح أن الإجهاد و59 في العارضة يزداد كلما كبرت المسافة بين العمودين. فكلما كانت العارضة أطول ازداد الضغط الذي ينتجه ثقلها في الأعلى,» وازداد الإجهاد الذي تنتجه في الأسفل. والحجر كما هو معلوم ضعيف تحت الإجهاد . ولن تنهار الأعمدة القائمة لأنها تتعرض لضغط لا لإجهاد والحجر يحتمل الضغط. أما العارضة فتنهار (أنا واقعة تحت أثر إجهاد) إذا وصل الإجهاد إلى حد احتمال العارضة. ولا يقلل من ذلك إلا تقريب الأعمدة بعضها من بعض.

ويمكن أن يكون الإغريق بارعين في جعل البناء خفيفا. كاستعمالهم طابقين من الأعمدة مثلا. ولكن مثل هذه الوسائل لم تكن سوى بدائل مؤقتة. فمن حيث أي مفهوم أساسي لا يمكن التغلب على الحدود الطبيعية للحجر بدون اختراع جديد . ولما كان الإغريق مأخوذين بالهندسة فان من المحير حقا أنهم لم يفكروا بالقوس . ولكن الحقيقة أن القوس اختراع هندسي, وبذا فمن المعقول أن اكتشافه يعود إلى ثقافة عملية نابعة من عامة الناس بدرجة أعلى من ثقافتي اليونان وبيرو.

لقد شيد الرومان القنوات فوق القناطر في سيجوفيا في أسبانياء حوالي عام 00/ بعد الميلاد في عهد الإمبراطور تراجان. وتنقل هذه القنوات

ارتقاء الانسان

مياه نهر ريو فريو الذي ينبع من الجبال العالية على بعد عشرة أميال. وتمتد تلك القنوات فوق الوادي لمسافة تقدر بنصف ميل تقريباء محمولة على قناطر تتألف من طبقتين من الأقواس المصنوعة من كتل صخرية جرانيتية مقطوعة دون تشذيب ومرصوقة بجانب بعضها دون مؤونة كلسية أو إسمنتية؛ وقد أذهلت أبعاد هذه المنشآت الضخمة أهالى أسبانيا والعرب الذين قدموا إلى هناك في العضون الغانية الليعة بالشراهات: حتى انهم سموها جسر الشيطان.

ويبدو بناء القناطر والقنوات الآن لنا أيضا ضخما ورائعاء بنسب تفوق كثيرا وظيفتها فى نقل الماء. ذلك أننا نحصل على الماء الآن بإدارة الصنبور ولشيى بخفة امشكلات اثعالية فى خضارة المدينة. إذ أن كل ثقافة متقدمة تركز رجالها المهرة في المدينة تعتمد على الاختراع والتنظيمء: اللذين تعبر عنهما القنوات والقناطر الرومانية في مدينة سيجوفيا.

لم يبتكر الرومان القوس في بداية الأمر مصنوعا من الحجرء بل كان في البداية قوسا معمولا في قالب من نوع من الإسمنت. ومن ناحية بنائية تركيبية يعتبر القوس مجرد وسيلة لإقامة جسر فوق مساحة خالية بحيث لا يتحمل المركز إجهادا أكثر من باقي الأجزاء. إذ أن الإجهاد في هذه الحال يتوزع إلى الخارج بالتساوي على جسم القوس كله. ولهذا السبب بالذات يمكن تشييد القوس من أجزاءء أي من قطع منفصلة من الحجارة تنضغط على بعضها بواسطة الثقل. وبهذا المعنى يمكن اعتبار القوس فوزا للأسلوب الفكري الذي يفكك الطبيعة إلى أجزاء. ثم يعيد جمع وترتيب هذه الأجزاء في تركيبات جديدة أكثر قوة.

وقد شيد الرومان القوس دائما بشكل نصف دائريء وكان لديهم في هذا المجال شكل رياضي ناجح عملياء ولم يكونوا ميالين إلى تجربة أنماط الخو وظلت الداكرة اسان القوس بحتى عتدفا عم استعمالها على تطاق واسع في البلاد العربية. وهو أمر واضح فضي الأبنية الدينية الرواقية التي أقامها العرب في أسبانيا. ومثال ذلك المسجد الكبير في قرطبة (في أسبانيا أيضا)ء وقد شيد عام 785 م إثر الفتح العربي. وهو بناء أكثر اتساعا من المعبد الإغريقي في باستوم. ورغم ذلك فقد واجه-كما هو واضح- نفس الصعوبات الهندسية المعمارية: التي وجدنا في المعبد الإغريقي؛ إذ أصبح

البناء مرة أخرى مملوءا بمواد البناء وهو أمر لا يمكن التخلص منه إلا باختراع جديد.

إن الاكتشافات النظرية ذات النتائج الجذرية يمكن عادة أن ترى بأنها ملفتة للنظر ومبتكرة. ولكن الاكتشافات العملية. حتى ولو أدت إلى نتائج بعيدة المدى, ضغالبا ما تبدو أكثر تواضعا وأقل ذكراء وكما يبدو فان الابتكار الجديد في عالم البناء؛ الابتكار الذي تجاوز محدودية القوس الروماني؛ قد جاء ربما من خارج أورباء ووصل بادئّ الأمر بهدوء ولكأنما بسرية. وهذا الابتكار هو نوع جديد من القوس غير مبني على أساس الدائرة بل على أساس الشكل البيضي. ومع أن ذلك لا يبدو تغييرا جذرياء إلا أن تأثيره على الفن كان كبيرا جداء فبالطبع يكون القوس البيضي أعلى من القوس الدائريء ولذا فانه يوفر مساحة أوسع كما يسمح بوصول كمية أكبر من الضوء. والأهم من ذلكء أن دفع قمة القوس المسمى بالقوطي إلى أعلى مكن من التصرف مع الحيز بطريقة جديدة. كما هو الحال في كاتدرائية ريمز وصساعط28. فقد أزيح الثقل عن الجدران:» التي أصبح بالإمكان الآن تثقيبها بالنوافذ وتزيينها بالزجاج. وأصبح الآثر الشامل هو أن يعلق البناء كالقفص من سقفه المنحني في قوس. أما داخل البناء فانه مفتوح كبير الحيز لأن الهيكل من الخارج.

و يصف جون رسكين 15105 م10 تأثير القوس القوطي بشكل يثير الأعجاب يقوتهحتصب الأبنية المصرية والإغريقية بالدرجة الأولى بوساطة وزنها وكتلتها حجرا مرتكزا على آخر. ولكن في القباب القوطية والزخارف أعلى نوافذها نجد صلابة تشبه صلابة العظام في اليد أو الطرف أو في ألياف الشجرة. فثمة إجهاد مرن وانتقال القوة من جزء لآخرء والى جانب ذلك هنالك تعبير جدي عن هذه الخاصة في كل خط مرئي من خطوط ذل الضاد: ١‏ ا

من بين كل النصب للجرأة البشرية. ليس ثمة ما يماثل هذه الأبراج من الزخارف والزجاج التي تكشفت لضوء أوربا الشمالية قبل سنة ١200‏ للميلاد . فتشييد هذه «الوحوش» الضخمة المتحدية يعتبر إنجازا مذهلا لبعد النظر الإنسانيء أو بالأحرى لعمق الحدس الإنساني؛ نظرا لأنها شيدت قبل أن يحسب أي عالم رياضي القوى التي تفعل فيها . وبالطبع لم يحدث ذلك دون

ارتقاء الانسان

اللوحة رقم )١2(‏

بقيت الدائرة أساس القوسء عندما عم استعمال الأقواس في الأقطار العربية. المسجد الكبير في قرطبة.

54

اللوحة رقم (13)

الشعب.أقواس كاتدرائية رايمز:5ه:806 بيضية الشكل.

ارتقاء الانسان

أخطاء وفشل ذريع في بعض الأحيان. ولكن أكثر ما يجب أن يلفت نظر عالم الرياضيات حول هذه الكاتدرائيات القوطية هو: كم كان الحدس الإنساني في بنائها صحيحا؟ وكيف تقدم الحدس بسلاسة وتعقل من تجربة بناء إلى تجربة البناء الذي تلاه ؟

وقد شيد الكاتدرائيات-يموافقة أهالي المدن ولهم-بناؤون عاديون. ولم تكن تمت بصلة تقريبا لهندسة البناء العمارية السائدة في تلك الأيام, والخاصة بالأبنية العادية التي تستعمل كل يوم؛ ومع ذلك يصبح كل تحوير وتجديد فيها ابتكاراً. أما من الناحية الميكانيكية فقد تحول تصميم القوس الروماني نصف الدائريء إلى قوس قوطي بيضي عال بحيث إن الإجهاد يسري خلال القوس إلى خارج البناء.

وقد حدث بعد ذلك-في القرن الثاني عشر-انعطاف ثوري مفاجئ تمثل في الاتجاه إلى نصف القوس في العمارة؛ أي إلى ما يسمى الدعائم المعلقة. وفي هذا النمط من الدعائم يجري الإجهاد مثلما يجري في الذراع عندما أرفع يدي وأضغط بها ضد البناء وكأنني أسنده.؛ وبذا لا يكون هناك حجارة في البناء حينما لا يكون هناك إجهاد . ولم يتم بعد ذلك إضافة أي ابتكار أساسي جديد في قفن العمارة إلى أن تم اختراع الفولاذ وأبنية الإسمنت المسلح.

ويتكون لدى المرء شعور بأن الإنسان الذي سمم هذه الأبنية الشاهقة كان مأخوذا بسيطرته على القوة الموجودة في الحجر وإلا فكيف أمكن لهؤلاء الناس أن يخاطروا يبناء قباب شاهقة يصل ارتفاعها إلى ١25‏ و50! قدماء في وقت لم يكونوا يستطيعون فيه حساب أي من الاجتهادات المتولدة 5 وصحيح أن كاتدرائية بوفيه دنة”1ادء8 التي بلغ ارتفاعها ١50‏ قدما-والتي لا تبعد أكثر من مئّة ميل عن ريمز-قد انهارت. إذ لم يكن بد من أن يلاقي أولئك البناؤون بعض الكوارث. فهناك حدود طبيعية لحجر البناء حتى في الكاتدرائيات. وعندما انهارت كاتدرائية بوفيه عام ١284‏ م؛ بعد عدة سثوات من انتهاء العمل فيها. خف الحماس للمغامرة القوطية: وبالفعل لم يحاول أحد بعد ذلك بناء شيء يصل ارتفاعه إلى ١50‏ قدما ومع ذلك فمن المحتمل أن تصميم هذه الكاتدرائية المستند إلى التجربة والخبرة كان سليماء وقد تكون الأرض في بوفية غير صلبة إلى درجة كافية وأنها تزحزحت تحت

56

ثقل البناء أما قبة كاتدراتية ريمز التي بلغ ارتفاعا ١25‏ قدما فقد ظلت قائمة. ومنذ عام ١250‏ أصبحت مدينة ريمز مركزا للفنون في أوربا.

لم يكن القوس والدعامة والقبة (التي تعتبر شكلا من أشكال القوس في حركة دائرية) آخر خطوات ثني نسيج الأشياء في الطبيعة ليلائم استعمالاتناء غير أن ما يقع بعد ذلك يجب أن يكون ذا نسيج أدق وأنعم؛ إن علينا الآن أن نبحث عن الحدود في المادة نفسهاء ويبدو الأمر كأن الهندسة المعمارية تغير مركز اهتمامها في نفس الوقت الذي تعمل الفيزياء الشيء نفسه نحو المستوى المجهري للمادة أي نحو الدقائق؛ ونتيجة لذلك لم تعد المشكلة تصميم بنية من الموادء بل تصميم المواد من البنية.

لقد حمل البناؤون في رؤوسهم مخزونا حافلاء ليس من الطرز بقدر ما كان من الأفكار التي نمت بالتجربة نتيجة انتقالهم من موقع إلى آخر, وكانوا يحملون معهم صندوقهم المحتوى على أدواتهم الخفيفة:؛ فكانوا يحددون تقاطعات أشكال القباب البيضية ودوائر النوافذ الوردية بالفرجار, وذلك لترتيبها على استقامة واحدة أو لترتيبها في طرز قابلة للتكرار؛ كما كان الخطان:؛ الشاقولي والأفقي؛ يحددان بالاستعانة بمسطرة مثبت في رأسها أخرى بشكل أفقي (1): تماما كما كان الأمر في رياضيات الإغريق, فالخط القائم يعين بواسطة الشاقولء أما الخط الأفقي فلم يكن يحدد بواسطة مقياس التسوية الكحوليء بل بواسطة خط عمودي على الشاقول يعين بواسطة هذه المسطرة.

وكان البناؤون المتجولون نخبة أرستقراطية فكريا في تلك الأيام (مثل صناع الساعات بعد خمسة قرون): وكانوا يستطيعون أن يجوبوا جميع أنحاء أورباء واثقين من الحصول على عمل مع الترحيب. وقد أطلقوا على أنفسهم اسم «البناؤون الأحرار» 5 مهمت12, منن أوائل القرن الرابع عشرء أما الحرفة التي كانوا يحملونها في أيديهم وفي عقولهم فقد كانت تبدو بالنسبة لغيرهم سرا غامضا بقدر ما كانت تراثا تقليدياء كما كان الناس بعامة يعتبرونها ثروة سرية من المعرفة تقع خارج الشكلية المضجرة للتعليم الإلقائي الذي كانت تلقنه الجامعات في تلك الأيام. وعندما أخذت أعمال هؤلاء البنائين بالتضاؤل في القرن السابع عشرء أخذوا يدخلون في نقابتهم أعضاء فخريين: وكان يحلو لهؤلاء أن يعتقدوا بأن مهنتهم ترجع إلى عهد

57

ارتقاء الانسان

الأهرام: ولم يكن هذا الادعاء-في الحقيقة-مدعاة للفخرء لأن الأهرام بنيت بهندسة بدائية أكثر من هندسة الكاتدرائيات.

ومع ذلك فهناك في الرؤية الهندسية شيء عالمي؛ وفي هذا المجال؛ أود أن أشرح سبب انشغالي بالمواقع الهندسية الجميلة؛ مثل كاتدرائية ريمز, فما هي علاقة هندسة العمارة بالعلم؟ وبخاصة ما علاقة فن العمارة بالعلم بالطريقة التي كنا نفهم العلم بها في أوائل القرن الحالي؟ أي عندما كان العلم كله أرقاما مثل معامل تمدد هذا المعدنء أو مقدار تردد ذلك الهزاز؟.

وحقيقة الأمر أن مفهومنا للعلم الآن؛ في أواخر القرن العشرينء قد تبدل جذريا . إننا نرى العلم الآن كوصف وتفسير لتراكيب الطبيعة الداخلية الأساسية؛ كما أن تعابير مثل: البنية والتركيب؛ الطرازء الخطة: الترتيب والهندسة المعمارية تتكرر باستمرار في أن وصف نحاول عمله. ولقد عشت بالصدفة مع هذا كل حياتيء وقد أعطاني ذلك دوما سرورا خاصاء فالرياضيات التي مارستها منذ طفولتي كانت هندسية؛ غير أن سروري ليس مبعثه ذوقي الخاص أو المهنيء بل لأن الهندسة أصبحت الآن اللفة العادية للتفسير العلمي؛ وأمثلة ذلك عديدة؛ فنحن نتحدث عن: كيف تتكون البلورات وتنمو5 وكيف تتكون الذرات من أجزائها؟ وأهم من ذلك نتحدث عن الطريقة التي تتكون فيها الجزيئات الحية من أجزائها. فالتركيب اللولبي لجزيء حمض الريبو النووي منقوص الآكسجين أصبح أكثر صورة حية في العلم في السنوات الأخيرة؛ وهذه الصورة الحية تعيش في تلك الأقواس.

ماذا فعل أولئك الناس الذين شيدوا تلك الكاتدرائيات وغيرها؟ لقد بدءوا بكومة من الحجارة لا حياة فيها ولم تكن كاتدرائية حتما ثم حولوها إلى كاتدرائية باستغلال القوى الطبيعية للجاذبية في رصف الأحجار بنفس الطريقة التي كانت بها تلك الحجارة في طبقاتها في الأرضء وباستغلال الاختراع العبقري؛ اختراع الدعائم المعلقة والأقواس وغيرها. ومن ذلك خلقوا بناء نش من تحليل الطبيعة؛ ثم نما وتطور وأصبح عملية تركيبية رائعة. إن الإنسان الذي يهتم بهندسة الطبيعة اليوم هو من نفس نوع الإنسان الذي ابتاع هذا الفن الهندسي المعماري قبل ثمانية قرون. إن لدى الإنسان موهبة فوق كل المواهب الأخرى التي تجعل الإنسان فريدا بين الكائنات

الحية الأخرى. وهي الموهبة التي تجلت في كل مكان هناء وهي سروره الشديد باستعمال مهارته وتطويرها.

وهنالك قول عام كثير الترديد في الفلسفة مفاده أن العلم مجرد تحليل أو إرجاع إلى الأصولء كما يؤخذ قوس قزح ويحلل إلى ألوانه؛ بينما الفن تركيب بحت إذ يأخذ الأجزاء ويجمعها ليركب قوس قزح: وهذه النظرية لطبيعة العلم والفن ليست صحيحة؛ ذلك أن كل خيال يبدأ بتحليل الطبيعة. وقد قال ذلك مايكل أنجلو ضمنا في كل منحوتاته؛ يتضح ذلك بصورة خاصة في أعمال النحت التي لم ينهها). كما قال ذلك أيضا بصراحة في قصائده التي وصف بها العمل الخلاق.

«فعندما تتحد اليد مع العقل» تفرض المادة ذاتها عن طريق اليد. محددة بذلك. مقدماء شكل العمل للعقل, فالنحات-مثل البناء-يشعر بالشكل الموجود داخل الطبيعة؛ وهذا الشكل موجود ومتوفر سلفا في هذا الكون. يقول مايكل أنجلو:

إن أعظم الفنانين لا يملك فكرا يريه (للناس)

إلا أن يكون متضمنا في الحجر الطبيعي داخل قشرته الزائدة

وكل ما تستطيع أن تعمله اليد العاملة في خدمة العقل

هو أن تكسر سحر الرخام.

وفي الوقت الذي كان فيه مايكل أنجلو ينحت رأس بروتوسء كان هنالك رجال آخرون يقطعون له الرخام من المحاجر. وقد بدأ مايكل أنجلو كأحد رجال المقالع أو المحاجر في كاراراء وكان ما زال يشعر بأن المطرقة التي في أيديهم ويده كانت تتلمس طريقها في الحجر بحثا عن شكل موجود فيه سلفا.

ولا يزال رجال المقالع يعملون في كارارا اللآن؛ يقتطعون الرخام للنحاتين المعاصرين الذين يفدون إلى هذه المنطقة: أمثال مارينو ماريني وجاك ليشتس وهنري مور. ورغم أن وصفهم لأعمالهم لم يكن شاعريا بقدر وصف مايكل أنجلو لأعماله؛ فإنهم يحملون نفس الشعورء فآراء هنري مور التي فكر بها وهي تعود به إلى عبقري كارارا الأول-مايكل أنجلو-تبدو موائمة. إذ يقول هنري مور:

«في البداية» عندما كنت نحاتا شاباء لم يكن بمقدوري شراء الحجر

59

ارتقاء الانسان

اللوحة رقم (14)

أس جروضن كماتجت ميكل لجار

060

الثمين. وكنت أحصل على حجري بزيارة ساحات الحجارة وأخذ ما كانوا يسمونه «القطع العشوائية». ثم كان علي أن أفكر بنفس الطريقة التي يمكن أن يكون مايكل أنجلو قد فكر بهاء بحيث إن على المرء أن ينتظر حتى تأتيه الفكرة التي تلائم شكل الحجرء وأن يكون قد رأى الفكرة في قطعة الحجر تلك».

ومن الواضح أنه ليس صحيحا بالمعنى الدقيق للكلمة-أن النحات يتخيل ثم ينحت ما هو موجود سلفا في قطعة الصخر. ومع هذا فالمجاز ينطق بالحقيقة حول علاقة الاكتشاف الموجودة بين الإنسان والطبيعة: ومن الأشياء المميزة التي تلقي ضوءاً على هذا أن فلاسفة العلوم (وخاصة لايبنتر تنهطئع.آ) لجنوا لاستعمال نفس المجاز-أي أن يحفز عرق في الرخام العقل. فن ناحية, يمكن القول بأن كل شيء نكتشفه موجود سلفا هناك: فمثلا الشكل المنحوت, والقانون العلمي الطبيعي تخفيهما كليهما المادة الخام في داخلها. ومن ناحية أخرى فان ما يكتشفه إنسان: إنما يكتشفه ذلك الإنسان نفسه. بمعنى أن الأمر لن يتخذ نفس الشكل على يد إنسان آخرء فلا الشكل المنحوت ولا القانون العلمي سيكونان نسختين متطابقتين عندما ينتجهما عقلان مختلفان في عصرين متباينين. فعملية الاكتشاف علاقة مزدوجة من التحليل والتركيب معا. ذكتحليل تبحث هذه العملية عما هو موجود هناك. ولكنها كتركيب بعد ذلك تقوم بجمع الأجزاء إلى بعضها بشكل يتخطى فيه الفكر الخلاق مجرد الحدود ومجرد الهيكل الذي تقدمه الطبيعة.

والنئحت فن حسي-يرضي الحواس (فأهل الإسكيمو مثلا ينحتون قطعا صغيرة لا يقصد منها مشاهدتهاء بل تداولها فقط). لذا لابد أن يبدو غريبا أن اختار كنموذج للعلم: الذي يفترض أن يكون جهدا تجريديا وبارداء نماذج من عمل النحت والهندسة المعمارية التي تتصف بالدفء. ورغم ذلك فإنني اعتقد أن هذا الاختيار صحيح. ذلك أن علينا أن ندرك أنه لا يمكن فهم العالم وعقله إلا عن طريق العمل؛ وليس عن طريق التأمل. فاليد أكثر أهمية من العين. ونحن لسنا من حضارات التأمل والتسليم التي وجدت في الشرق الأقصى أو العصور الوسطى.ء والتي كانت تعتقد بأن العالم وجد فقط كي يُرى أو يفكر فيه-تلك الحضارات التي لم تمارس العلم بالشكل المميز عندنا . فنحن إيجابيون نشطون: وندرك حقا بأن ثمة شيئًا أعمق من

اك

ارتقاء الانسان

مجرد حدث رمزي في تطور الإنسان؛ وهو أن اليد هي التي تدفع إلى تطور الدماغ قما بعد وقد سمى يتجامين فرائكلين الإنسان: عام 1778 «سحيوانا يصنع الأدوات» وهو قول صحيح حقا .

لقد وصفت اليد عندما تستعمل أداة ماء بأنها وسيلة الاكتشافء وهذا لب موضوع هذه المقالة. ونشاهد ذلك واضحا في كل وقت يتعلم فيه الطفل كيف يربظط بين اليد والأداةمثل ربط حذائه. أو افرار الخيط بعين الإبرة: أو تطيير طائرة ورقية؛ أو اللعب بصفارة رخيصة. وثمة شيء يرافق حدوث الفعل العملي ألا وهو اكتشاف لذة في العمل من أجل العمل ذاته. وذلك في المهارات التي يتمكن المرء من إتقانهاء والتي ما كان ليتقنها أصلا لولا سروره بها. وهذا الأمر هو الدافع العميق وراء كل عمل مبدع في المجالين الفني والعلمي. كسرورنا الشاعري بما يفعله الناس لأنهم استطاعوا فعله. وأكثر الأشياء إثارة في هذا الأمر أن الاستعمال الشعري المرهف هو الذي يعطي في النهاية النتائج ذات الأثر العميق. فحتى في مرحلة ما قبل التاريخ, نجد أن الإنسان قد صنع أدوات ذات حد أمضى مما كانت الحاجة تدعو إليه. ولكن هذا الحد الأكثر مضاء أدى بدوره إلى أن تستعمل هذه الأداة استعمالا أدق. لقد كان ذلك تحسينا عمليا أدى إلى امتداد رقعة استعمال هذه الأداة ودخولها مجالات لم تصمم لها أصلا.

لقد أطلق هنري مور على إحدى منحوتاته اسم «حد السكين» ويرمز بها إلى أن اليد هي حافة العقل الحادة القاطعة. والحضارة ليست مجموعة من المصنوعات من نتاج العقلء بل إنها إتقان وتطوير العمليات. وفي النهاية: فما مسيرة الإنسان وتقدمه عبر العصور سوى تحسين عمل اليد البشرية وصنقلة:

ولعل أهم حافز وأعظم دافع في ارتقاء الإنسان هو متعته في ممارسة مهارته وحذقه. فهو يحب ممارسة ما يتقن أو يحسن عمله؛ وعندما يقوم بعمل جيد فانه يحب أن يقوم به بشكل أفضل في المرة القادمة. ويمكنك أن تلاحظ ذلك في علمه. كما تلاحظ ذلك في العناية الحانية التي هي أشبه بالحب وفي الفرح والحبور والجرأة التي تتملكه خلال إنجازه عمله. ومن المفروض أن تشييد النصب إنما هو إحياء لذكرى الملوك والآأبطال وتخليد لعقيدة فكرية أو دينية؛ بيد أننا في النهاية نجد أن الإنسان الذي تخلده

02

5-5-7

8 1

م

إن جل

ميغ 755 8 817 :3

3 5

|

1 م 9 ك_ 9 7 31 / :_0_ اللا : 2 الل اعون 05

الأوحة وق ز14) نصب شيدها إنسان لم تكن لديه أية معدات علمية تفوق تلك التي كانت بحوزة البناء القوطي. أبراج واتس 3/5 في لوس أنجلوس.

هذه النصب هو البناء أو النئحات.

وهكذا فإن فن عمارة المعابد الكبرى في كل حضارة يعبر عن هوية الفرد وارتباطه بالنوع الإنساني. ولذا فان تسمية ذلك تقديس الأجداد-كما هو الأمر في الصين-إنما تكون تسمية ضيقة جدا . وواقع الأمر أن النصب وهو وجهة نظر إنسانية مميزة. والحس بالخلود هذا مفهوم فكري بأن الحياة الإنسانية تشكل استمرارية تفوق وتعلو الفرد ولكنها تمر عبره. فالرجل الذي دفن وهو على ظهر حصانه أو ملك الأنجلو-ساكسون الذي

05

ارتقاء الانسان

دفن تقديرا له في سفينة في موقع (ساتون هوو) بإنجلترا أو في نصب تذكارية في العصور التالية إنما كانوا تعبيرا عن اعتقادهم بأن هناك وحدة هي البشرية ونحن ممثلون لها في الحياة والموت.

ولا يسعني أن أنهي مقالتي هذه؛ دون أن أعود إلى النصب المفضلة لدي. تلك النصب التي شيدها إنسان لم تكن لديه أية معدات علمية تفوق تلك التي كانت لدى البناء القوطي. وهذه النصب هي أبراج واتس 5ئاة/: التي بناها الإيطالي سيمون روديا في لوس أنجلوس. لقد قدم هذا الإنسان من إيطاليا إلى الولايات المتحدة في سن الثانية عشرة؛ وعندما بلغ سن الثانية والأربعين وكان قد عمل حتى ذلك الحين في رصف البلاط وإصلاح الأعطال المنزلية. خطر في ذهنه بصورة مفاجثئة أن يبني في حديقة منزله الخلفية تلك الأبراج الضخمة من أسلاك المداجن وقطع روابط قضبان سكك الحديد؛ ومن قضبان فولاذية ومن الأسمنت وأصداف البحر وبعض قطع الزجاج المكسرء والبلاط؛ وأي شيء استطاع أن يجده؛ أو ما جلبه له أطفال الجوار. وقد استغرق بناء ذلك زهاء ثلاثة وثلاثين عاما . ولم يساعده في ذلك أحد لأنه وفق ما ذكر «لم أكن أعرف-معظم الوقت-ماذا كان علي أن أفعل وقد أنهى هذا العمل عام 1954: وكان قد بلغ الخامسة والسبعين من عمره. ثم وهب البيت والحديقة والأبراج إلى أحد جيرانه؛ وببساطة غادر الحي.

وكان سيمون روديا قد قال «لقد كان في ذهني دوما أن علي أن أعمل شيئًا ضخماء ولقد قمت بذلك. وعلى المرء أن يكون جيدا جدا أو سيئًا جدا حتى يذكره الناس». وقد تعلم روديا مهارته الهندسية تدريجيا وهو يمارس عمله ويستمتع به. وكانت دائرة المباني في مدينة لوس أنجلوس قد قررت أن تلك الأبراج ليست آمنة. وقامت بفحصها للتأكد من سلامتها عام 1959 . ولحسن الحظ فقد جاءت نتيجة الفحص مخيبة لآمال دائرة المباني التي حاولت هدمها . وهكذا بقيت أبراج واتس حرية منتصبة شاهدة على عمل يدي سيمون رودياء ونصبا فنيا شيد في القرن العشرين, لينقلنا ثانية إلى للهارة السيطة والسودة والأساسية الك نمت و#مومتها كل معرفس بقوانين الميكانيكا.

والأداة التي هي امتداد لليد البشرية هي أيضا أداة رؤية. فهي تكشف

النقاب عن بنية الأشياء وتجعل من الممكن جمع الأجزاء مع بعضهاء ضمن تكوينات جديدة طموحة ولكن؛ بالطبع؛ ما هو مرئي ليس التركيب الوحيد في العالم. إذ أن هناك تركيبا أدق موجود تحته. والخطوة التالية في ارتقاء الإنسان تكن في إيجاد أداة تكشف عن البنية الداخلية غير المرتية للمادة.

05

ارتقاء الانسان

ليهو امش

(!) ينشق وفقه عند طرقه. بأي شكل.

ك4

* «بالنار يطوع الحدادون الحديد ليجعلوا منه شكلا جميلا. هو صورة عن أفكارهم: ولولا النارلما استطاع أي صائغ فنان أن يشكل الذهب ويمنحه ذلك اللون الشديد النقاء. كلا ولن تبعث العنقاء حية إلا إذا احترقت بالنان.

(مايكل أنجلو) الأغنية 59

* «ما تم إنجازه بالنار هو المسمياء (اتكجسيباء القديمة)؛ سواء أتم ذلك ضي الفرن أم في موقد المطبخ».

(بارسيلسوس)

السنية الخفية

ثمة غموض خاص وسحر معين في علاقة الإنسان بالنار-النار التي هي إحدى عناصر الإغريق الأربعة (التي قالوا بأنها أصل المادة). كما أنها الوحينة بين هذه اتعتاضدي القن لذ يكن للحيوان أن يعيش فيهاء (على عكس العناصر الأخرى التراب والثاء والهواء) وقد هرقن أن العلوع الفيزياكية التخديكه درت كثيزا البدية الدفيفة الكمية للماذة: وشذه البنية الكنية له تكشف أسرارها نادف ذق بدء إلا بوساطة أداة النار الحادة. ورغم أن طريقة التحليل بدأت منن آلاف السنين لأهداف عملية (نثل استخلاض الل والمعادن) إلا أنها انظلقت فل ستحو الجر الى يفيت دن القاز:ويفة| الحجن هو إحساس السيميائيين 5اأؤنتمعطءاى (الكيماويين القدامى) بأن المواد يمكن أن تتبدل وتتغير بطرق لا نكن الشبة مهاء:وهذه ع الصوفة السبعرية المقدسنة التي قصل النار حصادر) للعياة وكافنا حي ينسلا إلى عالم سفلي خفي داخل العالم المادي. وهناك كثير من الوصفات القديمة التي تعبر عن هذا المعنى.

« كلما ازداد تسخين مادة الزنجفر توطهصم (كبريث اتركبق:8ع) اؤدادت اللواد المتسامية متها

07

ارتقاء الانسان

حسنا ورقة وفي النهاية يصبح زثبقا لماعا. وبامرار الزئبق خلال سلسلة من التساميات الكيميائية» فانه يعود وينقلب إلى زنجفر ثانية. وهكذا يتمكن الإنسان من التمتع بحياة سرمدية. تلك هي التجربة التقليدية التي كان سيميائيو العصور الوسطى يثيرون بواسطتها الوجل في نفوس مشاهديهم,: من ربوع الصين حتى أسبانيا. إذ كانوا يأخذون مادة الزنجفر حمراء اللون؛ التي هي كبريت الزئبق؛ ويسخنونها على النار. فينطلق الكبريت في هذه الحال؛ مخلفا وراءه لؤْلوّة نادرة من معدن فضي رجراج هو الزئبق؛ الأمر الذي يثير الوجل والدهشة في نفوس من تجري التجربة أمامهم؛ وعندما يسخن الزئبق الناتج في الهواء غانه يتأكسد؛ ولكنه لا يعود ثانية إلى الزنجفر (كما تقول الوصفة السابقة) بل إلى أكسيد الزئبق وهو ذو لون أحمر أيضا. بيد أن تلك الوصفة لم تكن مخطئة تماماء إذ أن الأكسيد يمكن أن يعود إلى زئبق حر ثانية؛ وينقلب من اللون الأحمر إلى اللون الفضي. كما يمكن أن يتأكسد الزئبق إلى أكسيد الزتبق ويتحول اللون الفضي إلى أحمر؛ وهكذا .. كل ذلك يفعل النار والحرارة.

وتلك التجربة ليست هامة بحد ذاتهاء رغم أن السيميائيين كانوا يعتقدون قبل عام 1500 بعد الميلاد أن الكون يتألف من هذين العنصرين. ولكن هذه التجربة ثري شيئًا هاما وهو أن النار كانت تعتبر في الماضي لا عنصر هدم وتدمير بل عنصر تحويل. ذلك كان سحر النار. ومازلت أذكر حديث الدوس هكسلي لي خلال أمسية طويلة إذ كان يقول لي وقد ملأ يديه البيضاوين نحو النار<:هذه النار هي التي تحول. وهناك العديد من الأساطير التي تبين ذلك ولعل أهمها أسطورة العنقاء «نه06م التي تولد من جديد في النار وتعيش مرة بعد مرة في أجيال متعاقبة». إن النار هي صورة الشباب والدم واللون الرمزي في الياقوت والعقيق والزنجفرء وفي الآتربة والأصبغة الحمراء التي كان الرجال يطلون بها أنفسهم في الاحتفالات. وعندما جلب بروميثيوس النار للإثييان: فى الأماظير الأغريقية مقعة الحياة وجعله نصف اله. ولهذا السبب عاقبت الآلهة بروميثيوس (حسب تلك الأساطير) .

وعلى ما أعتقد. عرف الإنسان القديم النار بشكل عملي قبل حوالي أربعمائة ألف عام. أي قبل العصر المجري الأول بثلاثمائة وسبعين آلف عام؛ وقد وجدت آثار النار في كهوف إنسان بكين الذي عاش قبل العصر

08

البنيه الخفيه

المجري أيضا. ومنذ ذلك الحين عرفت كل الحضارات النار واستفادت منها واستعملتهاء علما بأنه ليس من المؤكد أنها جميعا عرفت كيف تشعلها فقد وجد أن إحدى القبائل (وهي قبيلة الأقزام في غابة الأمطار الاستوائية في جزر أندامان جنوب بورما) كان أغرادها يرعون النار التي تنشأ في الغابة من صواعق أو غيرها من العوامل الطبيعية ويزيدونها وقوداء ولكنهم لم يكونوا يعرفون كيف يشعلون النار بأنفسهم . وبشكل عام؛ استخدمت مختلف الحضارات النار لنفس الأغراض: المحافظة على الدفء. وطرد الوحوش المفترسة وإزالة الأشجار لعمل فسحة من الأرض الفضاء وعمل تحويلات في المادة كالطبخ وتجفيف الأخشاب وكذلك تسخين الحجارة وتفتيتها . بيد أن التحول الكبير الذي ساعد في جعل حضارتنا تمتد عمقا يعود إلى استعمال النار للكشف عن صنف كامل جديد من الموادء ألا وهو المعادن, وتعتبر هذه العملية واحدة من أعظم الخطوات الفنية بل إنها وثبة في سلم ارتقاء الإنسان تقف على قدم المساواة مع الاختراع الكبير-ايتكار الأدوات المجرية. وتعود أهمية ذلك إلى اكتشاف الإنسان أن في النار أداة اكثر مضاء في تفكيك المادة. والفيزياء هي السكين التي تقطع نسيج الطبيعة: أما النار (السيف الملتهب) فهي السكين التي تغفوص قاطعة ما تحت التركيب المرئي. وقبل عشرة آلاف سنة تقريباً. أي بعد مضي فترة ليست بالطويلة على استقرار المجتمعات الزراعية: بدأ الإنسان في الشوق الأرسك مسن التحاسن + دين أن استعمال المعاذن لا يمكن أن :نتشر إلا يعن إيجاذ:-طريقة منتظمة للحصول عليها . وهذه الطريقة هي استخلاص المعادن من خاماتها, وهي طريقة نعرف الآن أنها بدأت منذ اكثر من سبعة آلاف سنة تقريباء أي حوالي عام 5000 ق. م في بلاد الفرس وأفغانستان. ففي ذلك الوقت وضع الإنسان حجر المالاكيت الأخضر (أحد خامات النحاس) في النار متعمدا ذلك لقصدء فسال المعدن الأحمر-النحاس-الذي ينطلق من خامة. لحسن الحظء في درجة حرارة معتدلة. وقد أدرك الناس أن ذلك المعدن السائل هو النحاسء لأن هذا المعدن كان موجودا في بعض الأحيان على شكل كتل فوق سطح الأرض. وكان الناس يأخذون هذه الكتل ويطرقونها ويشكلونها ثم يستعملونها قبل ألفي عام من استخراج النحاس من خامة بالتسخين. كما عرف العالم الجديد أيضا النحاس واشتغل الناس به واستخرجوه

09

ارتقاء الانسان

من خامة بالتسخين منذ أيام المسيح. ولكن الأمر توقف هناك عند هذا الحد. وفي العالم القديم فقط طور الناس استعمال المعادن لتصبح العمود الفقري في الحياة المتحضرة. وبذلك اكتشف الإنسان فجأة أن سيطرته قد ازدادت بصورة هائلة. إذ أصبحت تحت تصرفقه مادة يمكن سكبها ضمن قوالب معينة. كما يمكن سحبها وطرقها وتشكيلها. مادة يمكن تحويلها إلى أداة أو زينة أو إناء كما يمكن إلقاؤها في النار ثم إعادة تشكيلها بشكل آخر. ولكن هناك موطن ضعف وحيداً في النحاسء وهو أن هذا المعدن طوي نسبيا ولا يتمتع بمتانة كافية. فحالما يوضع النحاس تحت تأثير إجهاد معين. كأن يشد وهو على شكل سلك مثلاء فانه ينسحب مع قوة الشد ويطول بشكل واضح حتى ينقطع. ذلك أن النحاس الصافيء؛ كأي معدن آخرء يتألف من طبقات من البلورات منضدة. وهذه الطبقات عبارة عن رقاقات توضع فيها ذرات المعدن في نظام شبكي منتظم: وعند الشد تنزلق الطبقة منها فوق الأخرى إلى أن تنفصل في النهاية عن بعضها. فعندما يبدأ السلك النحاسي بالاختناق أو بتكوين عنق (أي عندما يتولد فيه ضعف) فان انقطاعه الذي يلي ذلك لا يكون نتيجة الشد بقدر ما يكون نتيجة لانزلاق داخلي فيه أي انزلاق طبقاته الداخلية على بعضها وبالتالي انفصالها.

وبالطبع لم يفكر النخاس بهذا الأسلوب قبل ستة آلاف عام. والمشكلة الصعبة التي واجهته كانت تتمثل في أنه لا يمكن عمل حافة حادة للنحاس.

وهكذا توقف ارتقاء الإنسان فترة متحفزا بانتظار المرحلة القادمة التى تمثلت في إيجاد معدن صلب ذي حد قاطع. وإذا كان ذلك يبدو ادعاء كبيرا بتقدم فنيء. فما ذلك إلا لأنه كاكتشاف كانت الخطوة التالية فيه متناقضة وغير معقولة بتاتا من جهة. وجميلة من جهة أخرى.

ولو نحن تصورنا الخطوة التالية وفق المفاهيم العلمية الحديثة؛ لوجدنا أن ما كان يجب عمله أمر سهل للغاية. ذلك أننا نعرف الآن أن النحاس كمعدن نقي مادة لينة نسبيا لأن بلوراته تترتب في طبقات متوازية بحيث يسهل أن تنزلق الطبقة منها فوق الأخرى (ويمكن جعله أصلب نوعا ما بواسطة الطرق الذي يؤدي إلى تحطيم البلورات الكبيرة وجعلها ذات نتوءات تتداخل ببعضها فتمنع الانزلاق بعض الشيء). ونستطيع الاستنتاج من هذا أنه إذا استطعنا أن ندخل شيئًا خشنا فى تلك البلورات فان ذلك سوف

70

البنيه الخفيه

يمنع الطبقات من الانزلاق ويجعل المعدن أصلب وأصلد . وبالطبع؛ وفق مقياس بنية المعدن الدقيقة التي أصفهاء يجب أن تكون المادة الخشنة المضافة ذات ذرات مغايرة لذرات النحاسء وأن تحل محل بعضها في البلورات المعدنية بمعنى أن علينا أن نصنع سبيكة تكون بلوراتها اكثر صلابة بسبب كون الذرات فيها ليست من نوع واحد. إن الإيضاح الذي جاء في الفقرة السابقة يمثل الصورة الحديثة. إذ أنه خلال الخمسين سنة الماضية فقط توصلنا إلى إدراك أن خصائص السبائك الخاصة تتحدد بتركيبها الذري: ومع ذلك فانه-سواء بالحظ أو بالتجربة-تمكن الذين كانوا يعملون قديما في صهر خامات المعادن لاستخلاصها من إيجاد الجواب: أي أنه عندما يضاف للنحاس معدن حتى ولو كان ألين منه-كالقصدير-فان الناتج يكون سبيكة أصلب وأطول عمرا من كلا المعدنين السابقين. تلك هي سبيكة البرونز. وقد يكون الحظ قد لعب دورا فى هذا الاكتشاف لأن خامات القصدير كانت غالبا ما توجد, في العالم لديم إلى جانب خامات النحاس. وفي غالب الأمر تكون أية مادة نقية ضعيفة كما أن العديد من الشوائب تصلح لأن تجعلها أقوى. وما يقوم به معدن القصدير في هذا المجال ليس عملا فريداء بل هو وظيفة عامة. هي زيادة خشونة المادة النقية ذرياء فدخول ذرات غير متجانسة مع المادة النقية والتصاقها بنقاط وزوايا في الشبكة البلورية يجعل من هذه الذرات نقاط خشونة تمنع انزلاق الطبقات البلورية على بعضها . لقد حرصت على العناية بوصف طبيعة البرونز بأسلوب وتعابير علمية لأن اكتشاف البرونز اكتشاف رائع. وهو رائع أيضا لأنه يميط اللثام عن الإمكانات الكامنة التي تتضمنها عملية جديدة؛ والإمكانات التي تضعها بين يدي المتداولين بها. ولقد بلغت الأعمال البرونزية أوجها في الصينء من حيث روعة التعبير ودقته. ومن المؤكد أن البرونز قد أتى إلى الصين من الشرق الأوسطء حيث تم اكتشافه لأول مرة حوالي عام 0 ق. م؛ ويُعتبر أوج العصر البرونزي في الصين بداية الحضارة الصينية كما نعرفها-حضارة أسرة شانغ قبل عام 500اق. م.

حكمت أسرة شانغ مجموعة من المناطق الإقطاعية في وادي النهر الأصفرء وأوجدت لأول مرة دولة موحدة وثقافة في الصين. ومن كل ناحية؛ كانت تلك الحقبة فترة تكوين غفيها تطورت أعمال السيراميك وثبتت الكتابة.

7

ارتقاء الانسان

(والشيء المذهل حقاء الذي وصلنا من تلك الفترة هو الخط اليدوي المرسوم على البرونز والسيراميك) . وصار البرونز في أوج هذه المرحلة يُعمل بلمسات شرقية عنيت بالتفصيلات الدقيقة: وهذا ما يجعله ساحرا بحد ذاته.

وصنع الصينيون القوالب لصب البرونز من قطع فخارية يتم تشكيلها حول نواة من الفخار (السيراميك). وبما أن تلك القطع الخارجية للقالب مازالت موجودة حتى الآن يمكننا أن نعرف كيف كانت تجري تلك العملية. ويمكننا تتبع عملية تحضير النواة الأساسية ثم حفر الأشكال أو الطرز وبخاصة كتابة الحروف على القطع الخارجية التي تشكل حول النواة وهذه القطع تشكل بالنتيجة الشكل الخارجي للقالب الفخاري الذي يسخن بالنار حتى يصبح صلبا ليستطيع احتواء المعدن المصهور الذي يصب فيه . ونستطيع حتى متابعة تحضير البرونز تقليديا. فنسبة النحاس إلى القصدير التي استعملها الصينيون كانت دقيقة إلى حد لا بآس به؛ ويمكن الحصول على البرونز باستعمال نسبة من القصدير تتراوح بين خمسة بالماكة وعشرين بالمئة مضافة إلى النحاس. بيد أن أفضل أنواع البرونز الصيني في تلك الحقبة كان يحوي 5! بالمائة من القصدير. وهي نسبة تكون فيها دقة صب البرونز كاملة. أضف إلى ذلك أن تلك النسبة تنتج سبائك برونز أصلب من النحاس بثلاث مرات تقريبا.

وتعتبر النماذج البرونزية الصينية العائدة لحقبة أسرة شانغ أشياء مقدسة وذات أهمية خاصة في الاحتفالات الرسمية؛ إنها كانت تعبر للصين عن عبادة ضخمة:؛ تلك العبادة التي عُبر عنها في أوروبا في نفس الوقت ببناء ستونهنج في إنجلتراء (وهو بناء من صخور ضخمة مرتبة بحيث تمر أشعة الشمس من بينها بالترتيب في كل شهر من أشهر السنة-وهو بناء ديني). وهكذا أصبح البرونز اعتبارا من ذلك الوقت مادة تستعمل لكل الأغراض؛ مثله مثل البلاستيك بالنسبة لعصرناء وكانت له هذه الخاصة المميزة حيثما وجد سواء أكان ذلك في أوروبا أم في آسيا. ولكن؛ في قمة مهارة الصين الحرفية. كان البرونز يعبر عن شيء اكثر من ذلكء؛ فالبهجة التي تشع من هذه الأعمال الصينية-آنية النبيذ والطعام-وبها جزء لعوب وجزء مقدس هي أن تلك الأعمال تشكل فنا نما تلقائيا من خلال المهارات الفنية الفردية, فالصانع محكوم وموجه بالمادة. وتجد تصميم صانع العملية ينساب في

12

البنيه الخفيه

الشكل وما يبدو على السطح. بينما الجمال الذي يبدعه هذا الصانع؛ وكذلك الإتقان الذي يبلغه. مبعثهما تكريس ذاته لحرفته.

إن المضمون العلمي لهذه الأساليب التقليدية واضح ا معالم له فمع اكتشاف قدرة النار على صهر المعادن: يأتي مع الوقت؛ الكشف الأعمق عن أن النار تدمج المعادن منتجة سبيكة ذات صفات جديدة: وهذا الكلام ينطبق على الحديد كانطباقه على النحاس. وفي الحقيقة يسير التشابه التاريخي بين هذين المعدنين سيراً متوازياً في كل مرحلة؛ فقد استعمل الحديد-شأنه شأن النحاس-لأول مرة بشكله الطبيعيء والحديد الخام يصل إلى الأرض في النيازك وهذا هو السبب في أن اسمه بالسومرية «المعدن من السماء». وعندما صهرت خامات الحديد واستخلص الحديد منها فيما بعد. تعرف الإنسان على هذا المعدن لأنه كان قد استعمله سابقا بالشكل الطبيعي. أما الهنود في شمال أمريكا فقد استعملوا حديد النيازك: بيد أنهم لم يتمكنوا من استخلاصه من خاماته؛ (وكل هذه الحالات والمراحل كانت للنحاس من قبل). وبما أن استخلاص معدن الحديد من خاماته عملية تفوق كثيرا في صعويتها عملية استخلاص النحاس؛ لذا كان اكتشاف الحديد المصهور بالطبع اكتشافا متأخرا كثيرا عن اكتشاف النحاسء وأول دليل ثابت على استعماله العملى ريما كانت قطعة (حديد) من أداة ظلت عالقة فى أحد الأهرامات, وقعطييا ذلك تاريخا يعود إلى ما قبل عام 2500 ق. م لكنخ استعمال الحديد على مستوى واسع بدأه الحثيون قرب البحر الأسود حوالي عام 1500 ق. م؛ أي في نفس الوقت الذي وصلت فيه صناعة البرونز إلى الأوج في الصين. وبنيت فيه هياكل معبد ستونهنج. وكما بلغ النحاس خير استعماله في سبيكته البرونز. كذلك بلغ الحديد خير استعماله في سبيكته الفولاذ. فبعد خمسمائة سنة من استعمال الحديد أي حوالي 1000 ق. م؛ تم تصنيع الفولاذ في الهند وعرفت الخصائص الممتازة لمختلف أنواع الفولاذ, غير أن الفولاذ بقي مادة خاصة ونادرة وذات استعمالات محدودة. حتى عهد قريب. فحتى منن مائتي عام كانت صناعة الفولاذ في شيفيلد بإنكلترا لا تزال صناعة صغيرة ومتأخرة. وكان على بنجامين هنتسمان من الكويكرز عندما كان يريد أن يصنع نابض ساعة دقيقء أن يتحول إلى عامل تعدين وأن يكتشف بنفسه كيف يصنع الفولاذ المناسب لذلك النابض.

13

ارتقاء الانسان

ولما كنت قد التفت إلى الشرق الأقصى لأنظر إلى الكمال في أعمال البرونزء فسأورد مثالا من الشرق أيضا عن الأساليب التي استعملت لإنتاج خصائص الفولاذ المميزة. وتصل هذه الوسائل الأوج حسب وجهة نظري في صنع السيف الياباني: الذي كان ولا يزال يصنع بطريقة أو بأخرى منذ عام 0 م:؛ إن صنع السيوف-ككل صناعات التعدين قديما-كانت عملية محاطة بالطقوس وذلك لسبب واضح. فعندما لا يكون لدى المرء لغة مكتوبة؛ وعندما لا يتوفر ما يمكن تسميته بالمعادلة الكيميائية لصنع الفولاذ؛ عندئذ. يجب أن تجرى عملية صناعة السيف وفق بعض الطقوس المحددة التي تقرر وتثبت تعاقب العمليات حتى تظل دقيقة دون أن تنسى. فهنالك نوع من ضرب الأيدي بتعاقب؛ وهذا شبيه بتسلسل السلطات في المسيحية من المسيح عليه السلام إلى الحواريين ثم الباباوات. ضفي عمل اليابائيين يبدو وكأن جيلاً يمنح بركته للمواد والنار وصانع السيف ثم يورث ذلك كله للجيل الذي يليه. فالشخص الذي كان يصنع السيف في اليابان يحمل لقب» تمثال الثقافة الحي «. وهو لقب رسمي تمنحه الحكومة اليابانية للمتفوقين في الفنون القديمة. واسم صانع السيف هذاء غيتسو. ويعتبر هذا بالمفهوم الرسمي أنه في حرفته ينحدر مباشرة من ماسامونه عمنا«صدمدد الذي أتفن صناعة السيوف إلى درجة الكمال في القرن الثالث عشرء لصد المغول. أو هكذا تروى قصص الترات الياباني؛ وكل ما نعلمه بالتاكيد أن المغول حاولوا في تلك الفترة غزو اليابان من الصين»؛ تحت قيادة قبلاي خان الشهير حفيد جنكيز خان. وكان اكتشاف الحديد بعد اكتشاف النحاس. لأن الحديد يحتاج إلى حرارة أكثر في كل مرحلة من مراحل صنعه: في تعدينه بصهر خاماته. وفي تصنيعه؛ ثم بالطبع في عملية إنتاج سبيكته الفولاذ. (درجة حرارة انصهار الحديد هي 1500 درجة مئوية أي أنها أعلى بحوالي 500 درجة مئوية من درجة انصهار النحاس). والفولاذ اكثر حساسية من البرونز سواء في معالجته الحرارية أو في استجابته للعناصر التي تضاف إلى الحديد ففي سبيكة الفولاذ يضاف للحديد نسبة ضئيلة من الكربون: أقل من واحد بالمئة عادة» وأي تبديل في هذه النسبة يؤدي إلى تغيير في نوعية الفولاذ الناتج. وتعكس عملية صناعة السيف الرقابة الدقيقة عن نسبة الكربون في الفولاذ. وعلى المعالجة الحرارية وهما العاملان اللذان يجعلان

1 4

البنيه الخفيه

الجسم الفولاذي بمواصفات تناسب وظيفته تماما. وحتى مواصفات الكتلة الفولاذية التي يصنع منها السيف ليست أمرا بسيطا سهلا ؛ ذلك أن السيف يجب أن يجمع بين خاصتين مختلفتين ومتعارضتين من خصائص مادته. وهما أن يكون مرناء ورغم ذلك أن يكون صلبا أيضا . وهاتان الخاصتان ليستا من الخصائص التى يمكن أن تُضمن نفس المادة إلا إذا كانت تتألف مو طابقا رسمسائية ولعقع ولك تصته اتفظة الدرلاؤية إلى مين وتضدات فوق بعضهما ثم يجمعان ويطرقان. وتكرر العملية مرة تلو الأخرى من أجل الحصول على العديد من السطوح الداخلية. والسيف الذي كان يصنعه المعلم غيتسو كان يتطلب منه أن يكرر تلك العملية خمس عشرة مرةء وهذا يعني أن عدد طبقات الفولاذ المنضدة فوق بعضها في السيف تبلغ (152) طبقة (اثنتان مرفوعتان إلي القوة )١5‏ أي ما يزيد على ثلاثين ألف طبقة: وكل طبقة مرتبطة بالتي تليهاء ولكل منهما خصائصها المختلفة. ويبدو الأمر كمن يحاول جمع مرونة المطاط مع صلابة الزجاج: وفي الحقيقة ليس السيف أساسا سوى شطائر عديدة جدا من فولاذ تتعاقب في طبقاته هاتان الخاصتان. وضي امرخلة الآخيرة يجهد السيف يتغطيته بالطين بسماكات متباينة. بحيث إنه إذا أحمى ثم غمر في الماء فسيبرد بسرعات متفاوتة. ويجب الحكم بدقة على درجة حرارة الفولاذ في هذه اللحظة الأخيرة: والحكم على درجة الحرارة-كما كان العالرهى حضانة الصين بدون مقاييس للحرارةكان يجري بمراقبة السيف وهو يُحمى حتى يتوهج بلون شمس الصباح.

وإنصافا لصناع السيوف يجب علي القول بأن اتخاذ تلك الألوان مقياسا كان أمراً متبعا تقليديا في صناعة الفولاذ في أوروبا؛ ففي أواخر القرن الثامن عشر كانت درجة الحرارة المناسبة التي يجب أن تُحمى عليها الفولاذ قبل سقايته تقاس عندما يتوهج بلون أصفر كصفرة التبن أو بلون ارجواني أو أزرق» كل لون توهج للاستعمال الذي يصنع الفولاذ من أجله.

والقمة في صناعة السيف لا تعدو كونها عملا كيميائياء وهي سقي الفولاذ وإطفاؤه بالماء أو بالزيت. الأمر الذي يعطي السيف الصلابة المطلوبة ويثبت فيه الخصائص ال مختلفة؛ ذلك أن معدل سرعة التبريد تنتج بلورات من الفولاذ مختلفة الأشكال والأحجام باختلاف سرعة التبريد تلك؛ بحيث

15

ارتقاء الانسان

تنتج بلورات ملساء في داخل السيف المرن وبلورات صغيرة ذات حواف بها نتوءات خشنة في حد السيف القاطع. وهكذا أمكن في النهاية دمج الميزتين المطلوبتين في السيف. مرونة المطاط وصلابة الزجاج. وتكشف هاتان الصفتان عن ذاتهما في مظهر سطح السيف: لمعان كلمعان الحرير الياباني الملون الذي يقدره اليابانيون كثيرا . غير أن امتحان السيف؛ امتحان استعماله الفني؛ وامتحان النظرية العلمية التي استند إلها يتمثل في سؤال بسيط: هل سيقوم السيف بعمله؟ وهل سيقطع الجسم البشري بالطرق الشكلية التي تقررها الطقوس؟ إن شكل طرق قطع جسم الإنسان حسب الطقوس التقليدية مرسوم بدقة» تماما كما ترسم طرق قطع لحم البقر في كتاب للطبخ. وفي أيامنا هذه يُجرب السيف على دمية بشرية محشوة بالقش» أما في الماضي فقد كان السيف الجديد يجرب حرفيا بشكل فعليء بأن يستخدم في إعدام سجين. والسيف سلاح الساموراي (وهم حرس النبلاء في زمن الإقطاع في اليابان وكان الواحد منهم يتسلح بسيفين) وبالسيف استطاعوا أن يصمدوا ويعيشوا رغم الحروب الأهلية التي لا حصر لهاء والتي جزأت اليابان منذ القرن الثاني عشر وما بعده. وكان كل ما يحيط بجسم الساموراي مصنوعا بدقة وبراعة من المعادن» الدروع المفصلية المتحركة المصنوعة من صفائح قولاذية. ركابات الخيول وألجمتهاء وغير ذلك. ورغم ذلك فان الساموراي لم يكونوا يعرفون كيف يصنعون أيا منها بأنفسهم: وقد عاش الساموراي مثل غيرهم من الفرسان في الحضارات الأخرى عن طريق القوة. وكان اعتمادهم حتى في صنع أسلحتهم على مهارة القرويين الذين كان الساموراي يحمونهم ثم يسلبونهم على التعاقب. وأصبح الساموراي في نهاية المطاف جنودا مرتزقة يبيعون خدماتهم مقابل الحصول على الذهب. إن فهمنا للعالم المادي وكيفية تكونه من عناصره يعتمد على مصدرين اثنين: أولهما المصدر الذي اقتفيت أثره هنا وهو تطوير أساليب تصنيع المعادن المفيدة وعمل سبائكها . وثانيهما السيمياء إتمعطءاث (الكيمياء القديمة). وهو مصدر مختلف السمات. فالسيمياء محدودة المدى. وليست موجهة لتلبية الاحتياجات والاستعمالات اليومية كما أنها تشتمل على قدر كبير من النظريات التكهنية الخيالية. ولأسباب غير مباشرة ولكنها مقصودة كان الشغل الشاغل للسيمياء معدن آخر هو

710

البنيه الخفيه الذهب الذي كان عديم الفائدة تقريبا من ناحية عملية: غير أن الذهب فتن عقول المجتمعات الإنسانية على مر العصور بحيث أكون مخطئًا إذا لم أحاول إبراز الخصائص والصفات التى منحته تلك القوة الرمزية. فالذهب هو ما يسعى إليه الناس عاليا كى كي الأبصان وفي كل الحضارات: وعلى مر العصور. وأية مجموعة منتقاة من المصنوعات الفنية الذهبية إنما تكون تأريخا حياً للحضارات: فالسبحات الذهبية المطلية بالميناء تراث إنكليزي يعود تاريخه إلى القرن السادس عشر الميلادي. والعقد الذهبي على هيئة أفعى إغريقي يرجع إلى عام 400 ق. م. والتاج الذهبي الثلاثي من الحبشة؛ ويعود إلى القرن السابع عشر الميلادي؛ والإسورة على شكل أفعى من العهد الروماني القديم: وأواني الطقوس الدينية المصنوعة من ذهب أخامينيد 00-0 من الحضارة الفارسية القديمة. وترجع إلى القرن السادس قبل الميلاد؛ وكؤوس الشراب من ذهب مالك 210111 تعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد. وهي من بلاد فارس أيضا . ورؤوس ثيران من الذهب... وسكين خاصة بالاحتفالات والطقوس صنعت في عهد التشيمو داسن: أي ما قبل حضارة الانكا في بيرو ويعود تاريخها إلى القرن التاسع الميلادي. والصندوق الذهبي المنحوت لوضع زجاجات الملح صنعه بينفينوتو تشيلليني في القرن السادس عشر تلبية لطلب الملك فرانسيس الأول. و يروي تشيلليني ذكرياته عما قاله الملك عن الصندوق: «عندما وضعت هذا العمل أمام الملك شهق دهشة:؛ ولم يستطع أن يحول عينيه عنه؛ ثم صاح بدهشة: هذا أسمي وأروع مئّة مرة مما كان يمكن أن يخطر لي ببال. ما أروع هذا الرجل» (يعني تشيلليني). لقد نهب الأسبان بلاد البيرو بسبب ذهبها الذي كان قد جمعه أرستقراطيو الانكا مثلما نجمع نحن الطوابع: ولكن مع لمسة ميد اس1:055!!), وكان الذهب لديهم يلبي كل أنواع الرغبات والمطامح؛ ذهب للطمع؛ ذهب للعظمةء للاحترام: للقوة» للأضحية؛ لمنح الحياةء للين والعطفء للوحشية: للشهوة.. أما الصينيون فقد عرفوا سر سحره الذي لا يقاوم وقال كوهونغ عنه: «إذا صهرنا الذهب الأصفر مئة مرة» فلن يفسد». من هذا التعبير تدرك أن للذهب صفة طبيعية تجعله فريداء ميزة يمكن اختبارها أو تجربتها عملياء كما يمكن تعليلها نظريا. ومن السهل أن ندرك أن الإنسان الذي صنع قطعة

717

ارتقاء الانسان

اللوحة رقم (16) ذهب أفريقي: قناع ملكي وجد في قبر في مدينة سبناء من القرن السابع عشر قبل الميلاد . ذهب فارسي: عملة ذهبية تحمل صورة الملك قوروشء من القرن السابع الميلادي. ذهب من بيرو: صورة ذهبية للنمر الأمريكي (البوما) طبعت عليها صورة أفعى ذات رأسين. ذهب أفريقي: طبق خاص بزعيم القبيلة؛ نقشت عليه نماذج من حبوب الكاكاو من غاناء القرن التاسع عشر. ذهب حديث: جهاز مركزي لاستقبال القوة الداخلة. خاص بحسابة جيب أدنبره؛ القرن العشرين.

718

ذهب من عصر النهضة: ذهب مرصع بالميناء. له شكل مستودع حفظ الملح, ويعلوه تمثالا نبتون وفينوس. وهو من أعمال الفنان الإيطالي تشيلليني. وقد قدم لملك فرنسا فرنسيس الأول عام 543ام.

ذهب إيرلندي: طوق كليرء يعود تاريخه إلى القرن التاسع الميلادي.

اللوحة رقم (17)

70

ارتقاء الانسان

فنية ذهبية لم يكن عاملا فنيا فحسب بل قفنانا أيضاء والأمر الهام الآخرء والذي قد لا يكون سهل الإدراك؛: هو أن الإنسان الذي فحص هذا الذهبا وقومه كان أيضا اكثر من مجرد عامل فنيء فالذهب بالنسبة له كان عنصرا من عناصر العلم. ذلك أن امتلاك الإنسان لأسلوب تقني أمر مفيد؛ ولكن مثل كل مهارة إنسانية: ما يجعل ذلك الأسلوب حيا هو مكانه في مخططا الطبيعة العام؛ أعني النظرية. فهؤلاء الناس الذين اختبروا الذهب وأزالوا الشوائب منه؛ جعلوا نظرية من نظريات الطبيعة واضحة للعيان؛ نظرية تعتبر أن الذهب مادة فريدة ومع ذلك يمكن أن تصنع من عناصر أخرى؛ وهذا هو السبب في أن كثيرا من القدماء صرفوا الكثير من الوقت والجهد المبدع في تصميم اختبارات لفحص الذهب الخالص. وقد طرح فرانسيس بيكون هذه القضية في مطلع القرن السابع عشر بصورة مباشرة عندما قال: «يتمتع الذهب بهذه الميزات الطبيعية: العظمة في الوزن: والتقارب في الآجزاء (عدم وجود فراغات ظاهرة) والثبات وسهولة التشكيل والنعومة والمناعة ضد الصداًء واللون الأصفر البراق. فإذا كان بوسع أي إنسان أن يصنع معدنا له جميع هذه الميزات والخصائص فعلى الناس عندئذ أن يقرروا ما إذا كان ذلك ذهبا أم لا»». من بين الاختبارات التقليدية العديدة للذهب هنالك كشف يظهر بشكل خاص الخاصة المميزة للذهبء (التي يمكن تشخيصه بها). ومبداً هذا الكشف الدقيق هو تسخين الذهب المراد اختباره إلى درجة حرارة عالية ضمن بوتقة. إذ يوضع هذا الذهب ضمن بوتقة مصنوعة من رماد العظام وتسخن هذه البوتقة لدرجة حرارة أعلى بكثير مما يتطلبه انصهار الذهبا الخالص (ويعرض السطح لتيار قوي من الهواء). وهكذا ينصهر الذهب وتتأكسد شوائبه بأكسجين الهواء (علما بأن الذهب ينصهر على درجة حرارة منخفضة نسبياء أي بمجرد أن تصل حرارته فوق درجة 1000 مئوية؛ وهي تعادل درجة انصهار النحاس تقريبا)؛ والذي يحدث بعد ذلك هو أن الخبث والشوائب المؤكسدة تنفصل عن الذهب وتغوص حيث تمتصها البوتقة كما يتطاير بعضها بتيار الهواء. وهكذا ترى فجأة انفصالا واضحا بوساطة اللهب كما لو كان بين خبث هذا العالم وبين نقاء الذهب وصفائه الخفي؛ وهكذا كان على حلم السيميائيين بتحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب أن

البنيه الخفيه

يخضع لاختبار يظهر حقيقة «اللؤّلوٌة» الذهبية التي تنجح في اجتياز تجربة الاختبار تلك. إن قدرة الذهب على مقاومة ما كان يسمى بالانحلال (أي قدرته على مقاومة التفاعلات الكيمياتية وفق المفاهيم الحديثة) كانت قدرة فريدة ولذا كانت ثمينة ومميزة معاء والى جانب ذلك فقد كانت للذهبا رمزية قوية واضحة؛ حتى في أقدم المعادلات. وتعود أول إشارة مكتوبة لدينا للسيمياء إلى أكثر من ألفى عام؛ وتأتي من الصين وتحكي عن كيفية صناعة الذهب واستعماله من أجل إطالة العمر. وهذا الربط مع إطالة العمر أمر غير عادي بالنسبة لنا. فالذهب بالنسبة لنا معدن ثمين لأنه نادرء ولكنه بالنسبة للسيميائيين في العالم أجمع كان ثمينا لأنه مادة لا تفسد ولا يؤثر فيه أي حمض أو قلوي معروف في ذلك الوقت. وهكذا بالفعل كان صيّاغ الإمبراطور يفحصون الذهب, أو كما كانوا يقولون» يفصلونه يمعالجته بالأحماض التي كانت طريقة أقل نصبا وجهدا من طريقة البوتقة؛ وعندما كان يظن بآن الحياة (وكانت كلك بالنسية لظم الثاس) موحشة وفقيرة» ومنفرة وقاسية. وقصيرة. كان الذهب يمثل-بالنسبة للسيميائيين- الشعلة الخالدة الوحيدة في جسم الإنسانء وكان بحثهم عن صنع الذهب وإيجاد إكسير الحياة بحثاً واحدا يُسعى إليه بنفس الجهد ونفس المحاولة؛ ذلك أن الذهب رمز الخلود-غير أن الأفضل ألا أستعمل كلمة (رمز) لأن الذهب-في نظر السيميائيين-لم يكن مجرد رمز بل كان تعبيرا يجسد عدم إمكان الفساد في كلا العالمين الطبيعي والحي معا. لذا فإنه عندما حاول السيميائيون تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب كان التحويل الذي كانوا يبحثون عنه في النار. مجرد تحويل الشيء الذي يمكن فساده إلى ما هو غير قابل للفساد ! لقد كانوا يحاولون استخلاص صفة الديمومة من الأشياء المعتادة فى الحياة اليومية؛ وهذا الأمر مماثل للبحث عن الشباب الدائم: لذا كان كل دواع هدق إلى معاهحة الشركة يحتوي على الذهب الذهب المعدنيء كمادة أساسية في تركيبه. ولهذا كان السيميائيون يحثون عملاءهم على أن يشربوا بأكواب ذهبية كي تطول أعمارهم! وهكذا يتضح أن السيمياء اكثر بكثير من مجرد حيل ميكانيكية أو اعتقاد غامض بسحر جذاب! إنها منذ البداية نظرية تحاول تعليل كيفية ارتباط العالم بالحياة البشرية؛ ففي الوقت الذي لم يكن هنالك تمييز

ارتقاء الانسان

واضح بين المادة والطريقة؛ أو العنصر والعمل؛ كانت العناصر السيميائية أيكنا متااحى مق متاحى الشتخصية التشرنة ثماما مما كانت العتاصير الإغريقية الأريعة: (آخاء والقآو والهواءوالتراب) كنكل الحالات القن يجبعها المزاج الإنساني. وعلى ذلك فانه في أعمال السيميائيين ثمة نظرية عميقة المعنى؛ نظرية تنحدر جذورهاء بالدرجة الآولى بالطبع؛ من الأفكار الإغريقية حول الأرض والنار والهواء والماء. ولكنها اتخذت شكلا جديدا بالغ الأهمية في العصور الوسطى. فبالنسبة للسيميائيين: كان ثمة توافق وتشابه بين الكون الإنساني الصغير والكون الطبيعي الكبير فقد كانوا يرون البركان الكبير شبيها (بالدمل) والإعصار والعاصفة الممطرة شبيهين بنوبة من النحيب والبكاء. ومن الواضح أن مفهوما عميقا يندرج تحت هذه التشبيهاتا السطحية: وهو أن الكون والجسد مصنوعان من نفس الموادء أو المبادئّ» أو العناصر وكان السيميائيون يرون أن هناك عنصرين من مثل هذه العناصر أحدهما الزتبق الذي يمثل كل ما هو كثيف ودائتم: والآخر الكبريت الذي يمثل كل ما هو قابل للاشتعال وغير دائم. وكانوا يرون أن كل الأجسام المادية-بما فيها جسم الإنسان-مكونة من هذين العنصرين: كما يمكن إعادة تشكيلها منهما أيضاء فمثلا كان السيميائيون يعتقدون بأن جميع المعادن تتشكل وتنمو داخل الأرض من الزئبق والكبريت: بذات الطريقة التي تنمو فيها العظام داخل الجنين من البويضة: وكانوا يعنون حقا هذا التشبيه ويعتقدون به. ومازال موجودا في رمزية الطب حتى الآن. فنحن لا نزال نستعمل في الدلالة على الأنثى رمز السيميائيين للنحاس-يمعنى ما هوا طري ناعم. ونستعمل للدلالة على الذكر الرمز السيميائي للحديد أي ما هو صلب كالمريخ." وبالطبع تبدو هذه النظرية اليوم صبيانية ومضحكة: تبدو كمزيج من الحكايات الخرافية والمقارنات الخاطئة. لكن كيمياء عصرنا هذا ستبدو-أيضا-صبيانية بعد خمسة قرون من الآن. وكل نظرية تبنى على نوع من التشبيه-عاجلاً أو آجلاً-تفشل هذه النظرية بسبب. أن التشبيه إيتضح خطؤه. والنظرية تساعد على حل المشكلات في وقها. وقد توقف حل المشكلات الطبية. حتى حوالي عام ١500‏ م؛ بسبب اعتقاد القدماء بأن الشفاء من أي مرض يجب أن يأتي إما عن طريق النباتات أو الحيوانات- وهو مذهب حيوي لا يؤمن بأن المواد الكيميائية التي يتألف منها الجسم

البنيه الخفيه

اللوحة رقم (18) «إن الكون والجسد مصنوعان من نفس المواد أوالمبادىء أو العناصر» * شكل لباراسلوس يمثل العناصر الثلاثة. الأرض والهواء والنار

* الترابط بين الأشكال الحية والفلكية في النظرية السيميائية عن الطبيعة.. تمائل غيرها من المواد الكيميائية الأخرىء وكان من نتيجة ذلك أن اقتصربا الأدوية حتى ذلك التاريخ على العقاقير النباتية.

ويد السيمياكيون فى مطلع القرن السادس غشر امال المركيات المعدنية بكثرة في الأدوية. وكان الملح على سبيل المثال نقطة الارتكاز في

ارتقاء الانسان

هذا التحول؛ وجعله أحد علماء السيمياء النظريين الجدد عنصره الثالث) كما طور هذا العالم أيضا دواء خاصا لمرض اجتاح أوروبا عام 1500 علما بآنه لم يكن يعرف من قبل؛ وهو مرض الزهري الخبيث, ولا نعرف حتى يومنا هذا من أين أتى هذا المرضء وربما جاء به بحارة سفن كولومبوسء أو لريما انتشر من الشرق مع غزوات المغول؛ أو لربما كان موجودا في أوروبا ولم يكن معروفاء من قبل كمرض مستقل بحد ذاته. وقد اعتمد علاجه على استعمال أقوى معدن سيميائي في ذلك الوقت وهو الزئبق. ويعتبر ذلك الإنسان الذي جعل ذلك الدواء ممكنا مؤشرا للتغير من السيمياء القديمة إلى الجديدة واتجاهها في الطريق الصحيح نحو الكيمياء الحديثة الكيمياء الطبية. والحيوية؛ وكيمياء الحياة. وقد عمل في أوروبا في القرن السادس عشر في مدينة بال في سويسرا . وكان ذلك فلع 11527 ا وهنالك: في مسيرة ارتقاء الإنسان لحظة يخرج فيها الإنسان عن ظلال| المعرفة السرية والمجهولة المصدرء ويدخل نظاما جديدا يعتمد على الاكتشافا الشخصي والعلني. والشخص الذي اخترته رمزا لذلك عُمد باسم أوريولوس فيليبوس تيوفراستوس بومباستوس فون هوهنهايم. ولحسن الحظ اختار اسما قصيرا عوضا عن ذلك هو بارسيلسوس تعبيرا عن احتقاره للطبيبا القديم سلسوس وغيره من المؤلفين الذين ماتوا قبل أكثر من ألف سنة؛ ومع ذلك بقيت كتبهم الطبية المراجع المعتمدة في العصور الوسطى. ففي عام 0 كان الاعتقاد ما زال ساتداً بأن أعمال أولئك القدماء تحوي الحكمة الملهمة لعصر ذهبي؛ سواء في الطب أو في العلم أو الفن. ولد بارسيلسوس بالقرب من مدينة زيورخ في عام 1493: وتوفى في مدينة سالزبورغ عام 4١‏ في سنة مبكرة لم تتجاوز ثمانية وأربعين عاما . وكان دائم التحدي لكل ما هو أكاديمى؛ فمثلا كان أول إنسان يتعرف على الأمراض المهنية الصناعية ‏ كافك قاف حداف بكفة محرجعة وكذلك الحداك صيقة إن اناس هرا المعركة التي خاضها دون هوادة طول حياته ضد أقدخ تراث هى غهده هوا مهنة الطب. وكان عقله لا ينضب من النظريات؛ كثير منها متناقض وأغلبها غير معقول ومثير للسخط. لقد كان بارسيلسوس مغامرا متمردا ساخرا أفاقا وذا أخلاق شرسة أحياناء يحتسي الخمر مع التلاميذ ويلاحق النساء ؛ وقد كثر من الترحال في العالم القديمء. واعتبر إلى عهد قريب دجالا

84

البنيه الخفيه

مشعوذا في كتب تاريخ العلوم؛ بيد أنه قطعا لم يكن دجالا بل كان إنساناً عبقريا ولكن عبقريته منقسمة.

والمهم أن بارسيلسوس كان شخصية فذة. وربما يخالجنا من خلال اشخصيته-ولأول مرة-ذلك الشعور الشفاف الذي يشير إلى أن الابتكار ينبع من شخصية إنسانية وأن الحياة تسري في الاختراع في اللحظة التي نشاهد فيها الإنسان وهو يخترعه. لقد كان بارسيلسوس إنساناً عملياً أدرك بأن معالجة المريض تعتمد على أمرين:؛ أولهما تشخيص المرض|ا (وبالمناسبة كان طبيبا بارعا في تشخيص الأمراض»).؛ وثانيهما معالجة الطبيب نفسه للمرض الذي شخصه. فقد ثار بارسيلسوس على التقليد المتبع آنذاك الذي يعتبر الطبيب شخصية مثقفة مترفعة يقتصر عملها على قراءة ما يجب عمله من كتاب قديم: بينما يظل المريض المسكين تحتا رحمة مساعد مبتدئّ يفعل ما يقال له. وقد كتب بارسيلسوس «لا يمكن للمرء أن يكون جراحا إذا لم يكن طبيباً في الوقت ذاته؛ وإذا لم يكن الطبيب جراحا أيضا فهو صنم لا يعدو أن يكون قردا طَّلي بالأصباغ».

إن مثل هذه الأقوال المأثورة لم تحبّب بارسيلسوس إلى منافسيه ولكنها جعلته جذابا عند أصحاب العقول المستقلة الأخرى في عصر الإصلاح؛ ولهذا السبب أحضر إلى مدينة «بال» لمدة سنة كانت سنة النصر الوحيدة خلال سني ممارسته لمهنة الطب التي كانت فيما عدا ذلك حاقلة بالكوارث) ففي هذه المدينة؛ وفي عام 1527 أصيب يوهان فروبينوس" - وهو صاحب مطبعة بروتستانتي كبير وإنساني النزعة-بالتهاب خطير في ساقه وكان الأطباء على وشك قطع ساقه. ولما يئس يوهان من أن يجد الأطباء سبيلا آخر استنجد بأصدقائه من الحركة الجديدة (البروتستانتية) فأرسلوا له باوسيلسوسء فما كان منه إلا أن طرد الأطباء الأكاديميين خارج الغرفة, وقرر عدم بتر ساقه ثم عالج الساق بعلاج كانت له أصداء خلال أوروبا؛ وقد كتب إليه الإنساني الشهير اراسموس 1818581015 يقول: «لقد أعدت لي إفروبينوس وهو نصف حياتي من تحت التراب». ولم يكن بفعل الصدفة ظهور تلك الأفكار الإصلاحية الجديدة في الطب والعلاج الكيميائي تماما في نفس المكان والزمان اللذين بدأ فيهما مارتن لوثر حركة الإصلاح عام 7.. وكانت مدينة بال بؤّرة تلك الفترة التاريخية. فقد ازدهرت الحركة

ارتقاء الانسان

الإنسانية حتى قبل ظهور حركة الإصلاح. وكانت فيها جامعة ذات تقاليد ديمقراطية بحيث إنه رغم أن أساتذة الطب فيها كانوا ينظرون شذرا إلى بارسيلسوس, إلا أن مجلس المدينة أصر على السماح له بالتعليم فيها. وكانت عائلة فروبينوس تطبع كتبا من بينها بعض الكتب للمؤلف اراسموس؛ تلك الكتب التي ساعدت على نشر النظرة الجديدة في جميع الميادين: وضفي كل مكان. وكان هناك تغيير عظيم يجتاح أوروبا آنذاك؛ وريما كان هذا التغيير أعظم أثرا حتى من الانقلاب الديني والسياسي الذي بدأه مارتنا لوثر. وكان عام الحسم الرمزي يقتربء كان ذلك عام 1543 . ففي ذلك العام تم نشر ثلاثة كتب غيرت الفكر في أوروبا: الأول كتاب الرسوم التشريحية لاندرياس فيساليوس. والثاني كان أول ترجمة للرياضيات الإغريقية وفيزياء أرخميدس. والثالث كتاب كوبر نيكوس «دورة الأفلاك السماوية» الذي وضع الشمس.في مركز السماء (بدلا من الأرض كما كانت الفكرة قبلها) وأطلق ما يسمى الآن بالثورة العلمية.

ويمكن إيجاز كل تلك المعركة التي دارت بين الماضي والمستقبل من خلال عمل منفرد جرى عام ١527‏ أمام المجلس البلدي في مدينة بال» حيث ألقى بارسيلسوس بشكل علني في النار التقليدية التي يشعلها الطلبة كل عام كتابا طبيا قديما لابن سينا الذي تأثر كثيرا بآراء أرسطو. وهناك شيء رمزي حول تلك النار الاحتفالية سأحاول استحضاره من الماضي إلى الحاضرا فالنار هي عنصر السيميائي الذي تمكن الإنسان بواسطته أن يفوص في أعماق تركيب المادة» ولكن هل النار نفسها شكل من أشكال المادة؟ إذا اعتقدت ذلك كان عليك أن تضفي على النار كل أنواع الخصائص المستحيلة, كأن تكون أخف من لا شيء. من العدم. وفي الواقع وبعد انقضاء مائتي عام على وفاة بارسيلسوس أي في عام 1731,: كان ذلك ما حاول الكيميائيون عمله في نظرية الغلوجستون. كتجسيد أخير للنار المادية بيد أنه لا وجود إلادة مثل الغلوجستون؛ تماما مثل عدم وجود مبدأً مثل المبداً الحيوي. لأن النار ليست مادة؛ ولا الحياة مادية. فالنار عملية تحوير وتشكيل وتغييرا وبوساطتها تتحد العناصر المادية مكونة مركبات جديدة. ولم تفهم طبيعة العمليات الكيماوية إلا عندما عرفت النار نفسها بأنها مجرد عملية.

إن عمل بارسيلسوس في إلقاء كتاب ابن سينا في النار يعني كما لو قال

كن

البنيه الخفيه

«ليس بمقدور العلم أن يعود بناظره إلى الماضيء ولم يكن هنالك بتاتا-فما مضى-أي عصر ذهبي». وقد اقتضى الآمر مرور مائتين وخمسين عاما بعد بارسيلسوسء كي يكتشف العنصر الجديد؛ الآكسجين: الذي أمكن بواسطته في النهاية تفسير طبيعة النار. كما كان عاملا في دفع الكيمياء للأمام من حمأة العصور الوسطى. والغريب في الأمر أن الإنسان الذي حقق ذلكا الاكتشاف-وهو جوزيف بريستلي-لم يكن يدرس طبيعة النار بل كان يقوم بدراسة أحد العناصر الإغريقية الأخرىء العنصر الخفي والموجود في كلا مكان: الهواء. إن معظم ما بقي من مختبر جوزيف بريستلي موجود الآن في متحف سميثسونيان في واشنطن. وهو مكان غير مناسب لهذه المخلفات العلمية التاريخية؛ وكان الأجدر أن تكون في برمنجهام بإنجلتراء مركز الثورة الصناعية. حيث أنجز بريستلي أعظم أعماله الرائعة. وقد يتساءل المرء عن السبب في وجود هذه الأدوات المخبرية في أمريكاء والجواب أن بعض الرعاع والسوقية كانوا قد طردوا بريستلي من برمنجهام عام 1791 / وتعتبر قصة بريستلي نموذجا مميزا لصراع آخر بين الإبداع الأصيل والتراث التقليدي. ففي عام ١76١‏ دعي-وهو في سن الثامنة والعشرين- ليدرس اللغات الحديثة فى إحدى الأكاديميات المنشقة (وكان بريستلى موحدا) التي ككذت مكان الماشداث لأرلفك الذين انشقوا عن كقيضة إنجلترا . وقبل انقضاء عام واحد ألهمته المحاضرات العلمية التي كان يلقيها أحد زملاته أن يبدأ بتأليف كتاب عن الكهرباء؛ ومن ذاك تحول إلى التجاربا الكيميائية. كما أثارته أيضا الثورة الأمريكية (وكان قد شجعه بنجامين فرانكلين) ثم اهتم بالثورة الفرنسية فما بعد. ولذاء وفي الذكرى الثانية لاجتياح سجن الباستيل؛ أحرق المواطنون «المخلصون» ما وصفه بريستلي بأنه أحد أفضل المختبرات العلمية تجهيزا في العالم. وهكذا رحل هذا العالم إلى أمريكاء لكنه لم يلق ترحيبا هناك إلا من النحبة المثقفة مرا أمثاله. وعندما تولى توماس جيفرسون منصب رئاسة الجمهورية قال لجوزيف بريستلي «إن حياتك هي واحدة من القلة الثمينة جدا بالنسية وكنت أود أن أقول بأن الرعاع الذين دمروا منزل بريستلي في برمنجهام قد حطموا أحلام إنسان جميل محبوب وفاتن. ولكني؛ ومع الأسف أشكا

6867

ارتقاء الانسان

في أن بريستلي كان محبوبا أكثر من بارسيلسوس . وأميل إلى الاعتقاد بأن بريستلى كان بالأحرى إنساناً صعبا بارد العاطفة مشاكسا كثير الحردء دقيقاء ومتزمتاً: بيد أن ارتقاء الإنسان لم يقم على أكتاف أناس محبوبين؛ بل تم على أيدي أناس يتمتعون بصفتين: أمانة شديدة في التمسك بالقيم وقليل من العبقرية؛ على الأقل؛ وكان لبريستلي هاتان الصفتان كلتاهما. كان يظنه الناس بل مؤلف من مزيج من عدة غازات من بينها الأوكسجين؛ وقد سماه بريستلي الهواء منقوص الفلوجستون. وأنه الغاز الضروري لحياة الحيوانات. وكان بريستلي جيدا في إجراء التجارب إذ كان يجريها بعناية وفق ترتيب معين خطوة بعد أخرى. وفي الأول من شهر آب (أغسطس) عام 4 حضر بعض الأوكسجين ولاحظ باستغراب ودهشة كيف أن الشمعة تحترق بتوهج في ذلك الغازء وفي شهر تشرين الأول (أكتوبر) من السنة ذاتها ذهب إلى باريسء حيث أخبر لافوازييه وبعض العلماء الآخرين عن اكتشافه الجديد. لكن علاقة عملية التنفس بالأوكسجين لم تكتشف إلا في الثامن من آذار (مارس) عام 1775 عندما وضع بريستلي فأرا في جو من الأوكسجين الصرفء ولاحظ تحسن عملية التنفسى فى ذلك الجو. وبعد يوم أو اثنين كتب بريستلي رسالة فرحة لبنجامين فرانكلين قال فيها : (حتى هذه اللحظة لم يفز بشرف تنفس الأوكسجين النقي سوى فأرين وأنا). واكتشف بريستلى أيضا أن النباتات الخضراء تنفث الأوكسجين أثناء النهار. موفرة بذلك هذه المادة لتنفس الحيوانات التى تأخذه فى تنفسهاء؛ وقد أظهرت ماتة العام التي تلت ذلك الأهمية البالغة لهذا الاكتشافء. فالحيوانات ما كانت لتنشأ وتعيش أبدا لو لم يوفر لها النبات الأوكسجين أولا. ولكن لم يكن هناك من يفكر بذلك قط في السبعينات من القرن الثامن عشر. وقد أعطي اكتشاف الأوكسجين معناه بوساطة عقل انطوان لافوازييه الواضح والثوري (وقد مات لافوازييه ضحية الثورة الفرنسية) ؛ لإحدى تجارب السيميائيين التقليدية. فقد قام كلا الرجلين بتسخين أكسيد الزئبق الأحمر. مستخدما لذلك الغرض العدسة الحارقة (التى كانت كثيرة الاستعمال في ذلك العصر بحيث يمكن رؤية الغاز الناتج عن التسخين؛

البنيه الخفيه

وكذلك جمعه. ذلك الغاز هو الأوكسجين بالطبع. وتلك هي التجرية النوعية أو الكيفية التي أكتشف عن طريقها الأوكسجين. ولكن بالنسبة للافوازييه كانت هذه الجر مفتاحا فوريا للفكرة القائلة بأن التحليل الكيميائي يمكن أن يقاس كماً.

لقد كانت الفكرة بسيطة وأساسية: أجر التجربة السيميائية في كلا الاتجاهين ثم قس الكميات المتبادلة بدقة. غفي الاتجاه الأمامي أحرفا الزئبق (بحيث يمتص الأوكسجين) ثم قس بالضبط مقدار كمية الأوكسجين المستنفذة من الوعاء المحكم السد من بداية الاحتراق حتى نهايته. والآن اعكس العملية أي خذن أكسيد الزئبق المتولد وسخنه بشدة لطرد الأوكسجين منه مرة أخرىء وبذا يتكون الزئبق وينطلق الأوكسجين في الوعاء. والسؤال المهم هو: كم ينطلق من الأوكسجين؟ لقد وجد لافوازييه أن كمية الأوكسجين المنطلقة تساوي تماما كمية الأوكسجين التي امتصها الزئبق في المرحلة الأولى: (أي عندما تشكل الأكسيد)؛ وفجأة تكشفت حقيقة العملية الكيميائية: عملية مادية؛ تتحد أو تتحلل فيها كميات محددة من مادتين مختلفتين! وهكذا اختفت مرة واحدة كل المواد الوهمية مثل الفلوجستون وروح المادة وأسسهاء وتأكد تجريبيا وبشكل مرئي أن عنصرين محسوسين- الزتئبق والأوكسجين-يتحدان مع بعضها مشكلين أكسيداء يمكن تحليله إلى العنصرين ذاتهما. وقد يبدو أملاً مشوشا أن ننتقل من العمليات البدائية التي قام بها الصناع النحاسون الأولون؛ ومن افتراضات السيميائيين السحرية إلى أقوى فكرة في العلم الحديث: فكرة الذرات: ومع ذلك فان الطريق كان كطريق) من يمشي على الجمرء مباشرة. وبقيت خطوة واحدة بعد فكرة العناصر الكيميائية التي حددها كميا لافوازييه للوصول إلى التعبير عنها ذريا . وقد قام بهذه الخطوة جون دالتون وهو ابن نساج يعمل على نول يدويء من كمبرلاند في إنكلترا . بعد النار والكبريت؛ والزئبق المحترق. كان لابد من أن تصل قصة المادة ذروتها في مدينة مانشستر الباردة الرطبة. خفي هذه المدينة-وبين عامي 1808 , 1803- قام جون دالتون-وهو معلم مدرسة من جماعة دينية خاصة تدعى جماعة الكويكرز-بتحويل المعرفة الغامضة عن الاتحاد الكيماوي التي ألقى الضوء عليها لافوازييه فجأة إلى المفهوم الحديث الدقيق للنظرية الذرية. وقد حفلت تلك الفكرة باكتشافات رائعة في الكيمياء فخلال

6890

ارتقاء الانسان

السنوات الخمس هذه.ء تم اكتشاف عشرة عناصر جديدة: ولكن دالتون لم يكن مكترثا بأي من ذلك وكان في حقيقة الآمر إلى حد ما شخصا ليسا في شخصيته ما يميزه (وكان مصابا بالفعل بعمى الألوان: إذ كان يخلط بين اللونين الأحمر والأخضرء ولذلك سميت هذه العاهة بالدالتونية لفترة طويلة) ؛

كان دالتون ذا عادات رتيبة منتظمة: فكان يخرج كل يوم خميس بعد الظهر ليلعب لعبة دحرجة الكرات في الحقول. وكانت الأشياء التي اهتم يها هي الأشياء الموجودة في الحقول والتي لا تزال تميز الحقول حول مانشستر حتى الآن: وهي مياه وغاز المستنقعات (غاز الميثان) وغاز ثاني أكسيد الكربون؛ وكان يطرح على نفسه أسئلة محسوسة تدور حول طريقة اتحاد العناصر مع بعضها بالوزن. لماذا-طالما أن الماء مكون من الأوكسجين والهيدروجين-يتحد هذان العنصران معا دوما بنفس النسب لتكوين كمية معينة من الماء5 ولماذا عندما يتكون ثاني أكسيد الكربون وعندما يتكون غاز الميثان تكون دوما تلك النسب الوزنية الثابتة؟ وقد عمل دالتونء خلال صيف عام 1803: على حل هذا التساؤل. وكتب يقول: «إن البحث في الأوزان النسبية للجسيمات المتناهية في الصغر أمر جديد كليا حسبما أعلم. وقد تابعت مؤخرا هذا البحثء. وحققت نجاحا ملموسا». وبالفعل توصل دالتون إلى أن النظرية الإغريقية القديمة حول التركيب الذري للمادة صحيحة, بيد أن الذرة ليست فكرة مجردة: إذ أنها بالمفهوم الفيزيائتي ذات وزن معين يميز هذا العنصر عن ذاك. كما أن ذرات عنصر ما متماثلة (سماها دالتون بالجسيمات المتناهية أو الجسيمات الأولية) ولكنها تختلف عن ذرات عنصر آخر. وإحدى الطرق التي تظهر هذه الذرات اختلافها فيها طريقة فيزيائية؛ كالفرق في الوزن مثلا. ويقول دالتون «يجب أن أدرك بأن هنالك العديد من الدقائق التي يمكن تسميتها جسيمات أولية؛ والتي لا يمكن تحويلها إلى غيرها على الإطلاق». وفي عام ١805‏ نشر دالتون لأول مرة مفهومه للنظرية الذرية. وكان كما يلي: اتحدت أصغر كمية من الكربونء وهي الذرة لتكون ثاني أكسيد الكربون» وهي تفعل ذلك دوما ودون تغيير بأن تتحد مع كمية محددة ومعينة من الأوكسجين تتمثل في ذرتين منه:

ر0©0

00

البنيه الخفيه

ولو كونا ماء من ذرتين من الأوكسجين باتحاد كل منهما مع الكمية اللازمة من الهيدروجين فانه ينتج جزيء واحد من الماء من الذرة الأولى من الأوكسجين وجزيء من الماء من الذرة الأخرى:

0 نيه

والأوزان صحيحة: أي أن وزن الأوكسجين الذي ينتج وحدة واحدة من غاز ثاني أكسيد الكربون سينتج وحدتين من الماء؛ والسؤال الآن: هل تكون الأوزان صحيحة بالنسبة لمركب لا يحوي الأوكسجين. كما هو الأمر في غاز الميثان حيث يتحد الكربون مباشرة مع الهيدروجين؟ والجواب: نعم وبكل دقة. فإذا أزلنا ذرتي الأوكسجين من جزيء واحد من ثاني أكسيد الكربون؛ ومن جزيئّين من الماء فان التوازن المادي يتحقق بدقة وتكون لدينا الكميات الصحيحة من الهيدروجين والكربون لتكوين الميثان: نيك

إن الكميات الوزنية من العناصر المختلفة التي تتحد مع بعضها تعبر من خلال ثباتها عن خطة أساسية:؛ تنظم الارتباط بين الذرات. كما أن الحساب الدقيق للذرات هو الذي جعل النظرية الكيميائية أساس المتراكمة من أعمال السيميائيين الخاصة بالذهب والنحاسء؛ وهى أعمال بلغت ذروتها مع دالتون. والدرس الآخر يبين نقطة هامة حول الأسلوب العلمى. فلقد كان دالتون ذا عادات منتظمة. فقد ظل مدة سبعة وخمسين عاما يتنزه كل يوم في الحرارة وهو عمل رتيب بشكل غير عادي في ذلك الطقس. ولم يخرج من أكداس تلك المعلومات بشىء . ولكن من سؤال واحد باحث يكاد يكون طفوليا نبع من تساوؤل طفولي ساذج حول أوزان المواد التي تدخل في تركيب الجزكيات البسيطة؛ من ذلك السؤال جاءت النظرية الذرية الحديثة وذلك هو جوهرا العلم. اطرح سؤالا غير وارد تجد نفسك في الطريق إلى جواب وارد.

9

ارتقاء الانسان

ليهو امش

)١(‏ وهو ملك خرافي كانت لمسته لأي شيء-طعامه-تحوله إلى ذهب. © رمز الأنشى. © ورم زالذكن اسن

(3) وتاتصطامة مسمقطمل

(4) .0265 نزلمع حكمع]] عط سمس امع عط

)5( الموحدون ؟صقتتة14[] مذهب مسيحي يؤّمن بوحدانية الله وير فض التثليث في الدين المسبيحي.

02

موسيقا الأجسام

تعتبر الرياضيات - من عدة وجوه - أكثر العلوم إحكاما ودقة وأعمقها فكرا - أو هكذا تبدو بالنسبة لي كرياضي. ولذلك فإنني أجد متعة خاصة في وصف تطور الرياضيات وتقدمهاء لآن هذا العلم كان ولا يزال جزءاً أساسيا من التأمل النظري الإنساني. إذ أنه كان شققا للفكر الصوفي وكذلك للفكر العقلاني. في مسيرة ارتقاء الإنسان.

ومع ذلك فهناك بعض المفاهيم التي يجب أن يتضمنها أي عرض للرياضيات: مثل فكرة البرهان المنطقيء وفكرة القوانين الدقيقة للطبيعة (وبشكل خاص الحيز) وهذه فكرة تجريبية؛ وبزوغ مفهوم العمليات والانتقال فى الرياضيات من الرصف الساكن للطبيعة إلى الدينا ميقي المتحركء. هذه الأمور هي موضوع هذا المقال.

لقد كان هنالك نظام عددي حتى عند الشعوب البدائية؛ ورغم أن هذه الشعوب ربما لم تكن لتستطيع العد لأكثر من الأربعة بكثيرء إلا أنها كانت تعرف أن اثنين من أي شيء «زائد» اثنين من الشيء كائة تساوق اريعة لاف مفضن الحالات فسويل فى جديم الجالاضه واتطلاقا من هذه الخطرة الآأساسية أوجدت الكثير من الثقافات نظمها

ان

ارتقاء الانسان

العددية التي اتخذت في العادة شكل لفة مدونة تتضمن اصطلاحات متشابهة. فمثلا ابتكر البابليون والهنود وشعب المايا') بصورة أساسية نفس الأسلوب الذي نستعمله الآن في كتابة الأعداد الكبيرة؛ أي باستعمال مراتب الآحاد والعشرات والمئات... المتتالية في التعبير عن هذه الأعداد, رغم أن هذه الشعوب عاشت بعيدة عن بعضها في الزمان والمكان.

ولذلك ليس هنالك مكان أو لحظة في التاريخ يمكنني أن أتوقف عندها وأقول: «هناء والآن: بدأ علم الحساب» إذ كان الناس يعدون مثلما كانوا يتكلمون. والحساب كاللغة؛ بدأ في ماضي الإنسان القديم. أما الرياضيات بالمعنى الذي نعرفه - أعني بوصفها استدلالا تستخدم فيه الأعداد - فموضوع آخر. ولتقصي الأصول حول هذا الموضوع؛ عند نقطة التقاء التاريخ بالتراث الأسطوريء أبحرت إلى جزيرة ساموس في الجزء الشمالي من بحر ايجه.

كانت ساموس في زمن الأساطير القديمة مركز عبادة الآلهة هيرا 110:3: ملكة السماوات عند الإغريق؛ وزوجة زيوس الشرعية (الغيورة). و يعود ما تبقى من معبدها - هيرايون - إلى القرن السادس قبل الميلاد. في ذلك الوقت - بالتقريب - ولد في هذه الجزيرة - حوالي عام 580 ق.م - العبقري الأول ومؤسس الرياضيات الإغريقية فيثاغورس. وخلال حياته احتل الطاغية يوليكراتيس هذه الجزيرة؛ وهناك رواية تقول: إن فيثاغورس قبل أن يهرب من الجزيرة كان يُعلم لفترة من الزمن» في كهف جبلي أبيض لا يزال يعرض على من يصدق هذه الرواية.

إن ساموس هذه جزيرة ساحرة. فهواؤها مليء بالبحر والأشجار والموسيقى. وصحيح أن هناك جزراً إغريقية أخرى تصلح إطاراً تدور فيه مسرحية العاصف. ولكن هذه الجزيرة: بالنسبة لي؛ هي جزيرة (بروسبيرو) وهي الجزيرة التي انقلب البحاثة عند شاطئها إلى ساحر. وريما كان في فيثاغورس شيء من السحر بالنسبة لأتباعه. لأنه علمهم أن الأعداد تحكم الطبيعة. فقد كان يقول: «هنالك توافق وانسجام في الطبيعة ووحدة في تنوعها والأعداد لغتها».

وجد فيثاغورس علاقة أساسية بين التناغم الموسيقي والرياضيات. وقصة اكتشافه - حول هذا الموضوع - لا تزال موجودة؛ ولكن بشكل مشوه كأغلب الحكايات الشعبية القديمة. بيد أن ما اكتشفه فيثاغورس كان دقيقا

9

موسيقا الأجسام

ومحكما. فعندما يهتز وتر مشدود بكامله يعطي نغمة (صوت) القرار في الموسيقاء عامه 0«تاممع والأصوات التي تنسجم مع نغمة القرار هذه هي فقط تلك التي تنتج عن تقسيم الوتر إلى عدد صحيح من الأجزاء: أي إلى جزأين تماماً. أو ثلاثة, أو أربعة وهكذا.. فإذا لم تقع نقطة العفق في الوتر (العقدة:؛ بلغة الفيزياء) على إحدى تلك النقاط القاسمة المحددة: فان الصوت الناجم يكون نشازا.

وحين ننتقل بنقطة العفق على طول الوترء نسمع الأصوات والآنغام المتآلفة (الهارمونية) فقط عندما نلمس تلك النقاط المحددة آنفا. فعندما يهتز الوتر بأكمله نحصل على صوت القرار وإذا حركنا نقطة العفق إلى المنتتصف كان الصوت هو الجواب؛ وهو أعلى بمقدار سلم موسيقى واحد (ثمانية) من النغمة السابقة. وإذا حركنا مركز الاهتزاز إلى نقطة الثلث من الوتر حصلنا على النغمة الخامسة فوق ذلك. وإذا حركناه إلى الريع حصلنا على النغمة الرابعة في الثمانية العليا وإذا ما حركنا نقطة الاهتزاز إلى نقطة خحُمس الوتر (وهذا ما لم يتوصل إليه فيثاغورس) عمل على الصوت الرئيسي الثالث فوق تلك النغمة الموسيقية.

واكتشف فيثاغورس إذن أن النغمات المتآلفة الناجمة عن اهتزاز الوتر والتي تطرب لها الأذن - الغربية - هي التي تقابل قسمة الوتر بأعداد صحيحة, وقتركاق لهذا الاكتضاف ٠‏ بالنسية لشيكاضوورس واتباضه + شره سحرية غامضة. فالتوافق والتتاغم بين الطبيعة والعدد كان من الوضوح بحيث اقتنعوا بأن كل الأبعاد المميزة للطبيعة - وليس فقط أصواتها - يجب أن تكون أعدادا صحيحة معبرة عن التوافق والانسجام.. فقد اعتقد فيثاغورس واتباعه مثلاء بأننا نستطيع حساب مدارات الأجرام السماوية (والتي صورها الإغريق محمولة حول الأرض على كرات بلورية شفافة) بربطها بالمسافات الموسيقية. ورأوا أن كل ما هو منتظم في الطبيعة ذو طابع موسيقيء وأن حركة السماوات؛ بالنسبة لهم بمثابة موسيقى لهذه الأجرام الكروية.

أعطت هذه الأفكار فيثاغورس منزلة نبي وعراف الفلسفة في ذلك الوقت أو بالأحرى منزلة زعيم دينيء كون اتباعه ومؤيدوه طائفة سرية وربما كانت ثورية. ومن المحتمل أن كثيرا من أتباع فيثاغورس الذين أتوا

95

ارتقاء الانسان

بعده كانوا من العبيد؛ وكانوا يؤمنون بتناسخ الأرواحء الأمر الذي كان يعطيهم أملا في حياة أسعد بعد الموت.

لقد تحدثت حتى الآن عن لغة الأعداد. وهذا هو الحسابء لكن المثال الأخير الذي طرحته كان مثالا عن الأجرام السماوية؛ وهي أشكال هندسية. وهذا الانتقال من الحساب إلى الهندسة ليس عارضا. فالطبيعة تقدم لنا أشكالا: كالموجة؛ والبلورة. وجسم الإنسان؛ وعلينا نحن أن ندرك ونكتشف العلاقات العددية في تلك الأشكال. ولقد كان فيشاغورس رائدا في ربط علم الهندسة بالآعدادء وبما أن هذا الفرع هو ميدان اختصاصي بين فروع الرياضيات الأخرىء لذا فن المناسب أن نتأمل ما فعل:

برهن فيثاغورس على أن عالم الأصوات محكوم بالأعداد الصحيحة: كما أوضحنا آنفا. ومن هنا انتقل إلى البرهنة على أن هذا القول يصدق أيضا على العالم المنظورء و يعتبر ذلك - بحق - إنجازا رائعا. فهاأنذا أنظر حولي - في اليونان - لأجد نفسي وسط منظر رائع مليء بالألوان» وسط أشكال برية طبيعية؛ في الوديان الخضراء المنعزلة» والبحر. فأين يمكن أن نجد في خضم هذه الفوضى الأخاذة تكوينا عدديا بسيطاة

إن السؤال يجبرنا على أن نعود القهقري إلى اكثر الثوابت بدائية ضفي إذزاكنا لسوانيع الطبيعة بو كي ندري جاياتحية كين الواضع أن عليت أن نبدأ من العناصر الكلية والشاملة في التجربة. فهناك خبرتان يقوم عليهما عا منا المرئي: الأولى أن الجاذبية عمودية, والثانية أن الأفق يصنع زاوية قائمة مع خط الجاذبية؛ وهذا الترابط - و بالأحرى هذان الخطان المتعامدان فى حقل الرؤية - هو ما يحدد طبيعة الزاوية القائمة. وهكذاء فإننا إذا أدرنا هذه الزارية الشاقية. ونيدظ العيرة العجرييية (الاقجاه إلن الأسفل والاتجاه جانبياً) - أربع مرات عدنا من حيث بدأنا - أي إلى تقاطع عمودي الجاذبية والأفق. فالزاوية القائمة تعرف وتُحدد بهذه العملية الرباعية؛ وبها تتميز عن أية زاوية اصطلاحية أخرى.

ففي العالم المنظورء إذن» في مستوى الصورة العمودية الذي تقدمه أعيننا لناء عرف الزاوية القائمة بأنها الزاوية التي تعود إلى ذات الوضع إذا دارت أربع مرات. و ينطبق نفس التعريف على عالم التجرية الأفقي, الذي نتحرك فيه. فلنتأمل هذا العالم؟ عالم الأرض المسطحة والخريطة

9

موسيقا الأجسام

ونقاط البوصلة. إني أقف هنا متطلعا بناظري عبر المضائق من جزيرة ساموس إلى سواحل آسيا الصغرى التي تقع باتجاه الجنوب. ثم آخذ بيدي قطعة مثلثة من البلاط واستعملها كمؤشر لتشير هناك إلى الجنوب (وقد عملت المؤشر على شكل مثلث قائم الزاوية: لأنني وددت أن أديره؛ أربع مرات بجانب بعضها). فإذا أدرت هذا المثلث حتى يتم زاوية قائمة فانه يشير نحو الغرب. وإذا كررت العملية مرة ثانية فانه يشير نحو الشمال؛ ومرة ثالثة فيشير نحو جهة الشرقء وفي المرة الرابعة والآخيرة يعود إلى جهة الجنوب؛ مشيرا مرة ثانية إلى آسيا الصغرىء تماما بالاتجاه الذي بدأ المثلث منه.

والعالم الطبيعي كما نعرفه بالتجربة وكذلك العالم الذي نبنيه يقومان على تلك العلاقة. وقد كان الأمر كذلك منن أن أقام البابليون الحدائق المعلقة؛ بل وأقدم من ذلك: منذ أن بنى المصريون الأهرامات. وكانت هاتان الحضارتان قد عرفتا بشكل عملي أن في جهاز إقامة الزاوية القائمة الذي استعمله البناؤون القدماء علاقات عددية تقرر وتحدد وتقع الزاوية القائمة. وكان البابليون سباقين في هذا المضمارء إذ كانوا يعرفون المثات: من معادلات الزاوية القائمة حوالي 2000 ق. م. بينما عرف الهنود والمصريون بعضا منها فقط. و يبدو أن المصريين كانوا يستعملون بشكل دائم تقريبا لإقامة الزاوية القائمة المثلث الذي أضلاعه تساوي بالترتيب ثلاث؛ أربع؛ وخمس وحدات؛ إذ ينتج عن ذلك دوما مثلث قائم الزاوية. وسار الأمر بهذا الأسلوب العملي إلى حوالي عام 550 ق. م. عندما رفع فيثاغورس مستوى هذه المعرفة من عالم التجربة إلى عالم البرهان كما يجب أن نسميه الآن. وكان ذلك عندما طرح السؤال التالي: «كيف يمكن استنتاج هذه الأعدادء التي هي أطوال أضلاع مثلثات البنائين من الحقيقة الواقعية أن الزاوية القائمة هي التي إذا دارت أربع مرات عادت إلى ذات الاتجاهة».

ونظن أن برهانه سار على النحو التالي (وهو بالمناسبة ليس البرهان الموجود في الكتب المدرسية): لنأخذ النقاط المؤشرة الأربع الرئيسية - إلى الجنوب والغرب والشمال والشرق - وهي رؤوس المثلثات التي تشكل تقاطع الخطين المتصالبين في البوصلة نجد أنها تشكل أركان مربع. وإذا حركت المثلثات الأربعة بحيث ينتهي الضلع الأطول في كل منها عند النقطة المؤشرة

97

ارتقاء الانسان

للمثلث المجاور له؛ أكون بذلك قد شكلت مربعا على أطول ضلع من المثلث قائم الزاوية: أي على الوتر. ولكي أعيّن تماما المساحة المحصورة: أملاً المربع الداخلي الصغير المتشكل بين هذه المثلثات بقطعة إضافية ملونة من البلاط؛ (لقد استعملت قطع البلاط لأن العديد من طرز البلاط المستعملة في روما وفي الشرق أصبحت - من الآن فصاعدا - تشتق من هذا النوع من المزاوجة بين العلاقات الرياضية والتفكير في الطبيعة.)

وهكذا يكون قد تشكل لدينا مربع على وتر المثلث قائم الزاوية. وبالطبع يمكن أن نرى العلاقة بين مساحة هذا المربع» ومجموع مساحتي المربعين القائمين على الضلعين الآخرين؛ بطريقة حسابية بحتة. ولكن ذلك يخطىّ التركيب الطبيعي والصفات الداخلية للشكل. ففي الواقع لا نحتاج إلى أية عمليات حسابية. إذ أن لعبة صغيرة من تلك التي يلعبها الأطفال والمشتغلون بالرياضيات تكشف عن الحقيقة أكثر من الفتملياك الحسابية:

إذا نقلت مثلثين من الأربعة إلى موضع جديدء كأن تنقل المثلث الذي كان يشير إلى الجنوب بحيث يقع أطول ضلع فيه على امتداد أطول ضلع في المثلث الذي كان يشير إلى الشمالء: وكذلك تنقل المثلث الذي كان يشير إلى الشرق ليقع أطول ضلع فيه على امتداد أطول ضلع في المثلث الذي يشير إلى الغرب: فانه يصبح لديك شكل على هيئة حرف (.1آ) وله نفس المساحة (وهذا طبيعي لأنه مكون من نفس قطع المثلثات): ويمكننا أن نرى العلاقة بين أضلاع الشكل الجديد وأضلاع المثلث قائم الزاوية الأصغر منه.

ولكي يتضح للعيان تركيب الشكل هذا : ضع فاصلا يفصل الجزء الأفقي عن العمودي في هذا الشكل. فيتضح عندها أن الجزء الأفقي هو المربع على الضلع الأقصر من المثلث؛ بينما الجزء العمودي هو المربع على الضلع الأطول من أضلاع الزاوية القائمة في المثلث قائم الزاوية الأصلي.

بدلك يكون فيثاغورس قد برهن على نظرية عامة: ليس فقط بالنسبة للمثلث الذي استعمله المصريون ذي الأبعاد 4:3: أو أي مثلث آخر استعمله البابليون» بل بالنسبة لكل مثلث يحوي زاوية قائمة. لقد برهن على أن سماحة المربع المقام على وتر المثلث قائم الزاوية تساوي مجموع مساحتي المربعين المقامين على الضلعين المتعامدين في هذا المثلث. شريطة أن يحوى المثلث زاوية قائمة. فمثلا نجد أن المثلث 4:3: 5: مثلث قائم الزاوية لأن

568

موسيقا الأجسام

اللوحة رقم (19)

لقد ارتقى فيثاغورس بالمعرفة من عالم التجربة: إلى عالم البرهان كما يجب أن نسميه الآن. - توضيح لبرهان فيثاغورس.ء المشروح في النصء على نظريته الشهيرة القائلة بان مربع الوتر يساوي مجموع مربعي الضلعين الآخرين: في المثلث قائم الزاوية.

99

ارتقاء الانسان

العلاقة السابقة تنطبق عليه أى أن: ©25-525-5 و -3:3+44-9+16

16-25 +9 و -47ئة3 ذلك المثلث بسيطا مثل المثلث ذي الأبعاد 8: 5!: 17, أم ضخما جدا مثل المثلث ذى الأبعاد 3367: 3456: 4825»: الأمر الذى يدل - دون أدنى شك - على أنهم كانوا يتقنون علم الحساب.

وحتى هذا اليوم. تظل نظرية فيثاغورس أهم نظرية منفردة في علم الرياضيات بآكمله. ورغم أن هذا القول يبدو جريئًا وخارجا عن المألوف. عن الصفات الرئيسية للحيز الذي نتحرك ضمنه؛ وهذه هي المرة الأولى التى ترجم الحيز فها إلى أعداد.

ولعل دقة تطابق الأعداد تعبير جلى عن القوانين الدقيقة التى تربط الكون. وفي الحقيقة أنه سبق أن اقترح استعمال الأعداد التي تؤلف أطوال أضلاع المثلث قائم الزاوية كرسائل يمكن أن نرسلها إلى الكواكب في مجموعات نجمية أخرى بقصد اختبار إمكان وجود حياة عاقلة هناك. وجوهر الأمر أن نظرية فيثاغورس.ء بالشكل الذي برهنتهاء إنما هي إيضاح للتمائل في مستوى الحيز. فالزاوية القائمة هي عنصر التماثل الذي يقسم المستوى إلى أربعة اتجاهات. ولو كان للمستوى نوع آخر مختلف من التماثل؛ لما كانت هذه النظرية صحيحة؛ وفى هذه الحالة تكون هناك علاقة مختلفة علم الهندسة. فالتماثل ليس مجرد شيء وصفي جميلء بل كفيره من أفكار فيثاغورسء ينفذ إلى مفهوم الانسجام في الطبيعة.

وعندما برهن فيثاغورس نظريته العظيمة؛ قام مئة ثور قريانا لآلهة الفنون (في الأساطير اليونانية) تعبيرا عن شكره على الإلهام الذي أوصله كل عالم حتى يرمنا هذا عندما تتطابق الأعداد في نظريته وتقول: «هذا جزء من تركيب الطبيعة نفسها أو مفتاح لفهمه».

كان فيثاغورس فيلسوفاء ونوعا من الشخصية الدينية لأتباعه أيضا.

موسيقا الأجسام

وفي الحقيقة كان فيه شيء من ذلك التأثير الآسيوي الذي يتخلل كل الحضارة الإغريقية والذي نغفله عادة. ذلك أننا ننزع إلى اعتبار اليونان جزءا من الغرب؛ ولكن جزيرة ساموس التي تقع على حافة بلاد اليونان القديمة من ناحية الشرقء تبعد ميلا واحدا فقط عن آسيا الصغرى. ومن هناك انساب الكثير من الفكر الذي ألهم الإغريقء ثم بصورة غير متوقعة, انساب عائدا إلى آسيا في القرون التالية قبل أن يصل إلى أوروبا الغربية.

وتقوم العرفة غادة ير حاقت شاكلة طنكية ونا بدو -بالقسية لناب

اللوحة رقم (20)

مخطوطة عربية حول نظرية يعود تاريخها إلى عام ١258‏ م. وكذلك نسخة عن هذه النظرية مطبوعة باللغة الصينية؛ وتعزى إلى العالم تشوباي المعاصر لفيثاغورث.

قفزة في الزمان. لا يعدو كونه في الغالب تقدما طويلا من مكان لآخرء ومن مدينة لآخرى. فالقوافل التجارية تحمل مع بضائعها طرق التجارة في بلادها - من أوزان ومقاييس وطرق حساب مع الأساليب التقنية والأفكار التي كانت تذهب أينما ذهبت القوافل؛ عبر آسيا وشمال أفريقيا. وكمثال واحد من بين عدة أمثلة. نجد أن رياضيات فيثاغورس لم تأت إلى أوروبا

ارتقاء الانسان

مباشرةء وصحيح أن هذه الأفكار ألهبت خيال الإغريقء بيد أن المكان الذي نمت فيه وتطورت إلى نظام متكامل منظم كان مدينة الإسكندرية. والرجل الذي عمل ذلك النظام وجعله مشهورا كان اقليدسء الذي ربما أحضر ذلك النظام معه إلى الإسكندرية حوالي عام 300 ق. م.

كان اقليدس ينتمي إلى المدرسة الفيثاغورسية. وعندما سأله أحد مستمعيه عن الفائدة العملية لإحدى النظريات قيل إن اقليدس التفت إلى عبده وقال باحتقار: «إن هذا الرجل يريد أن يربح من التعليم؛ أعطه درهما يا غلام». ويبدو أن هذا اللوم قد خُور من شعار الاخوة الفيثاغورثيين الذي يمكن أن يترجم كالتالي: «شكل هندسي وخطوة وليس شكلا هندسيا ودرهما» واخوة المعنية هنا هي الخطوة في المعرفة؛ أو ما أسميته ارتقاء الإنسان.

إن تأثير اقليدسء كنموذج للتفكير الرياضي كان هائلا ودائما. فقد تُرجم ونسخ كتابه المسمى «مبادئ الهندسة» أكثر من أي كتاب آخر باستثناء الكتاب المقدسء إلى يومنا هذا . لقد علمني الرياضيات - لأول مرة - إنسان كان لا يزال يسمى النظريات الهندسية بأرقامها التي أعطاها إياها اقليدس. وكان هذا أمرا شائعا حتى منذ خمسين سنة؛ وكانت هذه هي الطريقة السائدة في الإشارة إلى النظريات في الماضي. وعندما كتب جورج اوبري. حوالي عام .١1680‏ يصف كيف وقع توماس هوبز فجأة في غرام الهندسة: وبالتالي الفلسفة؛ في ذلك العصرء قال إن ذلك التعلق بدأ عندما صادف هوبز في مكتبة أحد أصدقاته كتاب «مبادئّ الهندسة» مفتوحا على النظرية رقم 47 للكتاب الأول وهذه النظرية هي نظرية فيثاغورس الشهيرة.

والعلم الآخر الذي كان يمارس في الإسكندرية حوالي ميلاد المسيح هو علم الفلك. ومرة ثانية. نستطيع أن نلحظ انسياب التاريخ في تيار الأسطورة: فعندما يذكر الإنجيل أن ثلاثة حكماء تتبعوا مسار نجم إلى بيت لحم؛ فان في القصة ترديداً لصدى عصر كان فيه الحكماء يتطلعون بأبصارهم إلى النجوم. والشخص الذي كان يقرأ أسرار السماوات - التي كان يبحث عنها هؤلاء الحكماء - هو الإغريقي كلوديوس بطليموسء الذي عمل في الإسكندرية حوالي عام 150 ق. م. وقد وصلت أعماله إلى أوروبا بنصوص عربية:؛ لأن نسخ النص الإغريقي الأصلي فقد معظمها أثناء نهب المكتبة الضخمة في الإسكندرية؛ من قبل المسيحيين المتعصبين عام 389 م. كما فقد بعضها

موسيقا الأجسام

الآخر خلال الحروب والغزوات التى اجتاحت شرق البحر الأبيض المتوسط خلال العصبوو الوسطى:

إن النموذج الذي وضعه بطليموس للسماوات معقد لحد الروعة؛ ولكنه يبدأ بتشبيه بسيط. لقد كان واضحا أن القمر يدور حول الأرض. لذا بدا (اعتقد القدماء بأن الشمس والقمر كوكبان). لقد كان الإغريق يعتقدون أن الشكل الأمثل للحركة هو الدائرة؛ ولهذا جعل بطليموس الكواكب تدور في يبدو هذا مخططأً ساذجا ومصطنعا. ومع ذلك؛ فهو في الحقيقة نظام جميل وابتكار عملي وكان الاعتقاد بهذا النظام يرفي إلى مستوى العقيدة الدينية عند العرب والمسيحيين في العصور الوسطى. وقد بقيت هذه النظرية سائدة لمدة أربعة عشر قرناء أي فترة أطول مما ينتظر لأية نظرية علمية حديثة أن تبقى دون إدخال تعديل جذري عليها .

ويجدر بنا أن نتأمل في السبب الذي جعل علم الفلك يتطور مبكرا بهذا الحد والى درجة عالية من الإتقان والتفصيل؛ بحيث أضحى فعليا نموذجا رئيسيا يحتذي للعلوم الفيزيائية رغم أن النجوم بخد ذاتها ينتظر أن تكون أقل الأشياء الطبيعية إثارة لفضول الإنسان. والطبيعي أن يكون جسم الإنسان المرشح الأفضل لاهتمامه المنظم المبكر. إذن لماذا تقدم علم الفلك كأول علم سابقا علم الطب؟ ولماذا لجأ الطب إلى النجوم طلبا للبشائر والنذر والتنبؤ بالتأثيرات المواتية والضارة فى حياة المريض؟ مما لا شك فيه أن الاستعانة لكل ذلك هو أن حركات النجوم التي يمكن مراقبتها كان بالوسع حسابها وإخضاعها للرياضيات منذ القدم (ومن المحتمل أن تكون الرياضيات قد دخلت الفلك لأول مرة في بابل قبل 3000 سنة ق. م). إذن يرجع بروز علم الفلك المبكر إلى ميزته التي تتمثل في إمكان معالجته رياضيا. وفي الواقع أن تقدم الفيزياء وعلم الحياة في الآونة الأخيرة ارتكز بصورة رئيسية على إيجاد صيغ لقوانين هذه العلوم يمكن وضعها على شكل نماذج رياضية. بعد مضي ستة قرون على ميلاد المسيح ذلك الحافز القوي الجديد. وقد

ارتقاء الانسان

بدأت الدعوة المحمدية في مكة وواجهت في البداية صعوبات جمة. بيد أنه حالما انتهى محمد (صلعم) من فتح مكة عام 630 م اجتاح الإسلام كالعاصفة الجزء الجنوبي من العالم. وفي خلال مائة عام احتل الإسلام الإسكندرية: وأنشأ مدينة ضخمة تعني بالتعليم - بغداد - . ودفع بحدوده إلى الشرق حتى ما وراء أصفهان في بلاد فارس وبحلول عام 730 م كانت الإمبراطورية الإسلامية تمتد من أسبانيا وجنوب فرنسا إلى حدود الصين والهند: إمبراطورية اتسمت بالقوة الهائلة والسماحة والرحمة بينما كانت أوروبا تغط في العصور المظلمة.

وقد جمع هذا الدين الذي هدف إلى هداية الناس علوم البلاد التي دخلت في الإسلام بحماسة وهوس شديدين. وفي الوقت ذاته كان هنالك تشجيع للحرف والمهارات المهنية البسيطة التي كانت محتقرة قبل ذلك. فعلى سبيل المثال» تم بناء المساجد الأولى ذات القباب بواسطة الأدوات البسيطة التي كان البناؤون يستعملونها ذلك الوقت. فمسجد الجمعة في أصفهان يعد أحد أجمل الآثار التي شيدت في صدر الإسلام. وفي أمثال هذه المدن والمراكز كانت معارف الإغريق والشرق تجمع بعناية وتستوعب وتنتشر في الأمصار.

وكان محمد (صلعم) يؤكد بإصرار على أن الإسلام ليس دين معجزات.

ولهذا كان الإسلام في محتواه الفكري نموذجا للتأمل والتحليل. فالإسلام - خلافا للدينين السماويين السابقين - لم يعط الله تعالى صفات شخصية بشرية بل صفات عامة مثالية: فالصوفية في الإسلام ليست دما ونبيذا وجسدا وخبيزا بل هي نشوة سماوية لا دنيوية (0.

اللّهُ تُورالسَموَاتٍ والأرض مَثَلَ ثوره كمشكوة فيهًا وت امصبن في رُجَاجَة الزّجَاجَةُ كَأَنّهَا كَوكَبْ دري يُوقَدْ مين شجِرَقٍ مُبَرَكَة زَيِتُومَةِ لا اشرق ولا غُريِيّة يَكَادُ ريِتّهًا يُضِيءْ وَلَولّم كمسّسه تَارّخُورٌعَلَى تُورِيّهدي اللَّهُ لثُورم من يَشَاءُ وَيَضْربُ اللَّهُ الأمثَلَ للئّاس وَالَّهُ يكل شيء عَلِيم(35) في بيو تأَذِنّ اللَّهُ أن تُرفَعَ وَيْدْكَرٌ فِيهًا اسمة يُسَبَحُ لَهُ فيهًا بِالأدُوٌ والأصال(36) رجال لا ثلهيهم تجرةٌ ول بيع عن ذكرائنه وإقامة الصلوة وَإِيِنَاء الركُوةٍ يَحَافُونَ يوم تَتَعَذَبُ فيه القُلُوبْ وَالأبصّر(32) 4)

وكان الإسطرلاب أحد الاختراعات الإغريقية: التي طورها الإسلام

104

موسيقا الأجسام

ونشر استعمالها. وكآداة مراقبة فلكية يعتبر الإسطرلاب جهازا بدائياء إذ الايقيسن سوق ارشفاع الشمس أو التجم قياا ثقريييا. لكن بجمع تلك الملاحظة مع خريطة أو أكثر من خرائط النجوم: مكن الإسطرلاب مستعمليه من القيام بمجموعة متقنة من العمليات. الحسابية يمكن بواسطتها تعيين خط العرض وشروق الشمس وغروبها ومواقيت الصلاة واتجاه الكعبة ليتجه إلى القبلة في صلاته المسافر. وبالإضافة إلى خريطة النجوم؛ فقد كان الإسطرلاب مزينا ببعض زخارف التتجيم والتفاصيل الدينية التي تضفي راحة نفسية على مستعمله.

وظل الإسطرلاب لحقبة طويلة ساعة الجيب والمسطرة الحاسبة للعالم. وعندما كتب الشاعر جيوفري تشوسر سنة 1391 م رسالة على شكل كتيب أولى ليعلم ابنه كيف يستعمل الإسطرلاب؛ قام بنسخ هذا الوصف عن كتاب لعالم فلك عربي يعود تاريخه إلى القرن الثامن الميلادي.

وكانت العمليات الحسابية متعة لا نهاية لها بالنسبة للعلماء العرب المسلمين. فقد أحبوا المسائل الحسابية والرياضية:؛ وكانوا يتلذذون باكتشاف طرق عبقرية وجديدة لحلها . وفي بعض الأحيان كانوا يحولون هذه الطرق إلى أجهزة ونماذج ميكانيكية. ثم ظهر الحاسب التنجيمي أو الفلكي؛ وهو أداة حاسبة سريعة: أكثر اتقانا وتطورا من الإسطرلاب القديم. وكان هذا

1 2 واد جر وا حتكبل ١‏ “00 د اللوحة رقم (21) 5

ظل الإسطرلاب لحقبة طويلة من الزمن: ساعة الجيب والمسطرة الحاسبة للعالم. -١‏ واجهة إسطرلاب إسلامي من طليطلة يعود تاريخه إلى القرن التاسع الميلادي. 2- الوجه الخلفي للإاسطرلاب الذي وصفه تشوسر في كتابه التمهيديء عام 1390. 3- أداة فلكية تنجيمية مصنوعة من النحاس.ء بغداد؛ عام 1241 م. 441

ارتقاء الانسان

في بغداد خلال القرن الثالث عشر. ورغم أن الحسابات التي يجربها لم تكن عميقة:؛ إلا أنه يعتبر شهادة على المهارة الفنية لأولثك الذين صنعوه

موسيقا الأجسام

قبل سبعة قرون؛ ودليلا على ولعهم باللعب بالأعداد . ولعل أهم ابتكار أنجزه العلماء العرب المتصفون بالحماس وحب البحث العلمي والتسامح كان فى مجال كتابة الأعداد؛ فقد كانت أوروبا تستعمل فى ذلك الوقت الطريقة الرومانية غير الأنيقة في كتابة الأعداد. حيث 00000 العدد بوضع أجزائه المؤلفة بجانب بعضها: فمثلا إذا أردنا أن نكتب رقم 21825 نكتبه بالآأرقام الرومانية على النحو التالي 1100006577 لآن مقدار 1000-11 و 500-8 و 0+0 +100+100+100-0 و 2+عا-10+10 و 5-77. أما الإسلام فقد استبدل بهذه الطريقة الطريقة العشرية الحديثة التى لا نزال نسميها الطريقة العربية حتى الآن. ا

فلكي نكتب 1825 بالطريقة العربية ندون الأرقام الأربعة بكل بساطة بترتيب بحيث تصبح كلها عددا واحدا. ذلك لأن المنزلة أو الخانة التي يقع فيها الرقم هي التي تعلن عما إذا كان الرقم يعني الآلاف أو المئّات أو العشرات أو الآحاد. ا

على أنه يترتب على النظام الذي يحدد مقدار العدد بمنزلة الرقم أن يوفر رمزا للمنزلة الحالية. وهكذا تطلبت الطريقة العربية ابتكار الصفر. وكان الصفر العربي في بداية الأمر شبيها بالصفر كما يكتب باللغات الأوروبية. وفي الواقع فان كلمتي (0ع7 أو #عطمنه) اللتين تعنيان الصفر كلمتان عربيتان أصلا محرفتان عن كلمة الصفرء ومثلهما كلمات الجبر والمناخ والسمت (52ماءع1ة؛ عدصدساه؛ طانمء2) وعشرات الكلمات الأخرى في علمي الرياضيات والفلك. وقد جاء العرب بالنظام العشري من الهند حوالي عام 750 م؛ ولكن هذا النظام لم يؤخذ به في أوروبا إلا بعد مضي خمسة قرون على ذلك. 89)

وقد يكون حجم الإمبراطورية العربية الضخم هو الذي جعلها سوقا كبيرا للمعرفة. يضم علماء عديدين من بينهم النساطرة الهراطقة (المنشقون عن الكنيسة الكاثوليكية) في الشرقء واليهود الكفار في الغرب. ويمكن أن تكون هذه ميزة في الإسلام كدين: إذ رغم أنه حاول هداية الناس ودعوتهم للدخول فيه؛ إلا أنه لم يحتقر أو يستخف بعلمهم. فمدينة أصفهان في الشرقء ببلاد فارسء رمز للحضارة الإسلامية: أما فى أقصى الغرب فقد بقيت حتى اليوم الحمراء في جنوب إسبانيا مركزا رائعا لتلك الحضارة.

107

ارتقاء الانسان

وإذا ألقينا نظرة على الحمراء من الخارج؛ نجد أنها عبارة عن قلعة صلدة مربعة الشكل ولا تعطي انطباعا بأنها عربية الشكل. أما من الداخل فهي ليست قلعة بل قصرا بديعاء صمم عن عمد ليعكس على الأرض نعيم السماء. والحمراء من الأبنية المتأخرة زمنيا في العصر الأندلسيء إذ تبدو عليه مظاهر تراخي إمبراطورية جاوزت أوجها. وفقدت روح المغامرة وظنت أنها في أمان. فلقد اتقلب اثناس هن التدين والتامل إلى إرضاء الذات وإشباع الشهوات. وهو أمر بين؛ حتى في موسيقى المياه في القصرء تلك المياه التي يعطي خريرها في مجاريها المتعرجة كثيرا من الأنغام العربية, رغم أنها قائمة على المقياس الفيثاغوري قلبا وقالبا. ولذا فان كل قاعة في قصر الحمراء تعكس صدى وذكرى حلم حلق فيه السلطان (ذلك أنه لم يكن يمشي في القصرء بل كان يحمل). إن الحمراء تكاد تكون صورة لوصف الجنة في القرآن؛ «قال الله تعالى:

وَانَّدِينَ آَمَنُواً وَعَملُواً الصّالِحات لَنْبَوِنَتَهُم مّنَ الجَنَةَ غُرَفاً كجرى من بجني الأنهًا رُخَالِدِينَ فيهًا نمم أَجْرُ العَامِلِينَ(58) الدين صَبَرَوًا وَعَلَى

3 يَكَوَكلُونَ(59) )6

تدك مم0 فُوَاكِهُ وَهُم مُكرَمُو ن(42) فى جَِنَّت التّعيم (43) على 7 سْرر مُتَعَبِلِينَ(44) يْطَافْ عَلَيهِم بِكَأس من مَعِيّن(45) بَيْضَاءَ لدم تلشآاربيّن(46) ب

لَك لَهُمْ جَنَتُ عدن تجرى من كحتهم الأنْهَرُ يحلَونَ فِيهًا من أسَاور مين ذهب وَيَلْبِسُونَ ثيّاباً حُضرا مين سُندس وَإِسْتَبْرَق مُتَكيئِينَ فيهًا عَلَى الأرَائك نعم التَوَابُ وَحَسنْدَتَ مُرْتَمقَاً (31) صدق الله العظيه: ©)

ويعتبر قصر الحمراء آخر صرح للحضارة العربية في أوروبا وأكثرها روعة. وقد حكم آخر ملك عربي في الأندلس حتى عام ١492‏ م؛ عندما كانت ملكة إسبانيا ايزييلا تدعم مغامرة كولومبوس. وقصر الحمراء مثل قرص شمع العسل مليء بالساحات والمجرات؛ وأكثر مكان سرية في القصر” هو تلك القاعة التي تأتي إليها بنات الحريم بعد الاستحمام في الحمام حيث كن يضطجعن على الآرائك بينما كان الموسيقيون المكفوفون يعزفون الألحان الشجية في الرواق: والعبيد الخصيان يروحون ويجيئون, والملك يراقب من عل ثم يرسل تفاحة (مع أحد الخصيان) للفتاة التي وقع

موسيقا الأجسام

اللويحة ركم (2ة) حبال شييرا تيقادا ف جنوب [سبانيا “وأعاميا السغراء كن شرقاطة:

اختياره عليها يمضي تلك الليلة معه.

ولو كان ذلك في حضارة غربية لامتلآأت هذه القاعة بلوحات رائعة لأشكال أنثوية؛ أو صور مثيرة. وهذا ما لا نراه هنا. لأن تمثنيل جسد الإنسان (بالرسم أو النحت) محرم في الإسلام. لهذا السبب نجد - عوضا عن ذلك - أشكالا هندسية ملونة ضمن تصاميم بالغفة البساطة. وهكذا أصبح الفنان وعالم الرياضيات شخصا واحدا في الحضارة العربية» وأنا اعني ذلك حرفيا. وتمثل هذه النماذج الهندسية ذروة استكشاف العربي لأعماق الحيز ومستويات التماثيل فيه. والحيز ذاك هو الحيز ذو البعدين لما نسميه الآن المستوى التقليدي والذي كان فيثاغورس أول من حدد معالمه وعرفه.

ووسط هذه الثروة الهائلة من الطرز الزخرفية. أريد أن أبدأ بنموذج سهل بسيط. ففي هذا الطراز يتكرر شكل ذو ورقتين؛ إحداهما قاتمة اللون وأفقية والأخرى رأسية ذات لون فاتح: والتماثلات الواضحة هنا هي من النوع الانتقالي (أي نقل الطراز بشكل متواز) أي أن الطراز تكرار لصورة الشكل بصورة متوازية أو عمودية. ولكن لاحظوا نقطة دقيقة أخرى وهي أن العرب كانوا مغرمين بالتصاميم التي تكون فيها الوحدتان المتكررتان

1١09

ارتقاء الانسان

اللوحة رقم (23)

يعتبر قصر الحمراء آخر صرح للحضارة العربية في أورويا وآكثرها روعة. رواق

موسيقا الأجسام

القاتمة والفاتحة بنفس الشكل. وبذا نجد أن إدارة الورقة القاتمة زاوية قائمة يجعلها تتطابق مع الورقة فاتحة اللون المجاورة. ولذلك فان إدارة الشكل حول نقطة الاتصال نفسها يؤدي إلى انتقاله إلى الوضع التالي. وبإدارته مرة ثانية (حول ذات النقطة) ينتقل شكل الورفة إلى الوضع الثالث» وإدارته مرة أخيرة تعيد رسم الورقة إلى وضعه الأول. فالحركة الدورانية هذه تنقل النموذج كله بصورة دقيقة» إذ تأخن كل ورقة في النموذج موضع الورقة الأخرى, مهما كان يعد هذه الأوراق عن مركز الدوران. أي أن تكرار الملون. ومثل ذلك أيضا الانعكاس على الخط العمودي. ولكن إذا تجاهلنا الأثوان ترض أن هنالك تماكاذ رياعيا يتوه يعملية إدارة الشكل كاذل زاوية قائمة أربع مرات. وهي ذات الطريقة التي برهنا بواسطتها من قبل على تطرية فيحاقورين: ولذلك فاق الطراز كير انون مضي في تميافله فل اكريع القيناشررى:

والآن لننظر إلى طراز أكثر عمقاء فهذه المثلثات التي تبدو وكأن الريح عصفت بهاء بألوانها الأربعة تظهر نوعا واحدا بسيطاً من التماثل في اتجاهين. إذ بوسعك أن تنقل الطراز أفقيا أو عموديا إلى أوضاع متطابقة جديدة. وعدم استقامة أضلاع المثلثات كما لو عصفت بها الريح ليس أمرا

اللوحة رقم (24)

يلاحظ أن البياض (الفراغ) بين الأشكال الغامقة اللون يمثل نفس الشكل الغامق

ارتقاء الانسان

غير وارد أو غير هام. ذلك انه من غير المعتاد إيجاد نظام متماثل لا يسمح بانعكاس صورته؛ ولكن هذا الطراز لا يكرر انعكاس صورته لآن كل هذه المثلثات ذوات الأضلاع غير المستقيمة هي يمينية الاتجاه في حركهاء ولا يمكن انعكاسها (كما في المرآة) دون أن تصبح يسارية.

والآن افترض أنك أهملت الفرق بين الأخضر والأصفر والأسود والأزرق (الملكي) وفكر بأن تميز فقط بين المثلثات القاتمة اللون» والمثلثات فاتحته. عندئن تلحظ أن هناك تماثلا دورانيا: ركز اهتمامك - مرة أخرى - على إحدى نقاط الاتصال؛ فهناك تلتقي ستة مثلثات تتناوب بين القاتم والفاتح. وتلاحظ أنه يمكن إدارة المثلث القاتم إلى موضع المثلث القاتم التالي. ثم إلى الموضع الذي يليه. وأخيرا يعود إلى موضعه الأصليء أي أن هنالك تماثلا ثلاثيا يدير الطراز بآكمله.

وفي الحقيقة ليس من داع لأن تتوقف التماثلات الممكنة عند هذا الحد. فإذا تناسيت الألوان بالمرة يكون عندها هناك دوران أقل من السابق» به يمكنك تحريك مثلث قاتم إلى موضع المثلث الفاتح المجاور؛ لأنهما متطابقان في الشكلء وباستمرار عمليه الدوران هذه إلى المثلث القاتم فالفاتح فالقاتم فالفاتح: ثم تصل أخيرا إلى المثلث الأصلي القاتم؛ وهذا تمائل سداسي الحيّز يدير الطراز بأكمله. وهذا التماثل السداسي. في الحقيقة؛ هو النوع الذي نعرفه جيدا جميعاء لآنه هو نفس التمائل في بلورة الثلج.

وهنا يحق لغير المختص بالرياضيات أن يطرح سؤالا: وما أهمية كل ما سبق 5 وهل هذا كل ما تعنيه الرياضيات؟ وهل قضى أساتذنة الرياضيات العرب القدامىء والرياضيون المحدثونء أوقاتهم في هذا النوع من الألعاب الآنيقة 5 والرد غير المتوقع هو أنها ليست لعبة. إنها تضعنا وجها لوجه أمام شيء يصعب تذكره؛ وهو أننا نعيش في حيّز من نوع خاصء حيز منبسط أملس ذي ثلاثة أبعاد. وله خصائص لا يمكن الخروج عنها. فإذا ما تساءلنا عن العمليات التي تعيد الطراز إلى ذاته؛ نكون قد اكتشفنا القوانين الخفية التي تحكم حيّزنا . فهناك أنواع معينة فقط من التماثلات يمكن لحيّزنا أن يحملهاء وليس فقط في الطرز التي يصنعها الإنسان: بل في الانتظام الذي تفرضه الطبيعة نفسها على تراكيبها الذرية الأساسية.

اللوحة رقم (25)

والتراكيب التي تحتضن هذه الطرز الطبيعية الفراغية للحيز هي البلورات. وعندما ننظر إلى واحدة منهاء لم تمسها يد إنسان من قبل» مثل بلورة الكالسايت الأيسالندية الشفافة. سنصاب بصدمة الدهشة عندما ندرك أنه ليس هناك سبب واضح لكون هذه البلورات منتظمة الشكل. وحتى كون وجوه هذه البلورة سطوحا منبسطة ملساء أمر غير واضح السبب أيضا. إنها قضية مسلم بها أن تكون البلورات دوما ذات أشكال منتظمة متماثلة. ولكن لماذا 5 ذلك أن الإنسان لم يشكلها على ذلك النحوء؛ بل الطبيعة هي التي فعلت ذلك. فالوجه الأملس هو السبيل الذي تجمعت فيه الذرات بعضها مع بعض. فالنعومة والانتظام أمران فرضهما الحيز على المادة. بنفس الطريقة التي أضفى فيها الحيز على طرز الزخارف العربية الأندلسية تماثلاتها التي حللتها قبل قليل.

لنأخن الآن مكعبا جميلا من البيريت (وهو مكون من كبريت الحديد)؛ أو بلورة ثمانية الوجوه من الفلورايت النفيس وهو عندي أكثرها جمالا وروعة (وهو أيضا الشكل الطبيعي لبلورة الماس). إن تماثلات هذه البلورات مفروضة عليها بحكم طبيعة الحيز الذي نعيش فيه؛ فهو ثلاثي الأبعاد من جهة؛ ومنبسط من جهة أخرى. ولا يمكن لآأي تجمع من الذرات أن يخالف قانون الطبيعة الأساسي هذا. فالذرات في البلورة تترتب في جميع الاتجاهات. تماما مثل الوحدات التي تؤلف الطراز الزخرفي. وهكذا فالبلورة

ارتقاء الانسان

- مثل الطراز - يجب أن يكون لها شكل يمكن أن يمتد أو يكرر نفسه في جميع الاتجاهات إلى ما لا نهاية. وهذا هو السبب في أن وجوه البلورة يمكنها أن تأخن أشكالا معينة فقطء. فلا يمكنها أن تأخذ أشكالا غير التماثلات في الطرز. فمثلا نجد أن العمليات الدورانية الممكنة لإتمام دورة كاملة هي مرتان أو أربع مرات أو ثلاث أو ست مرات - لا أكثر وليس خمس مرات. ذلك أنه لا يمكن أن نجمع الذرات في نظام لتعمل مثلثات تنطبق مع انحن قعل مشلظه تكن باتمييلة نظام خباسي»

إن التفكير في أشكال هذه الطرز المتماثلة؛ التي تستنفذ عمليا أمانات خجائل الحيز زعلى الأقل هو يعدي كا الإنمارالضحو لترياضيات العربيق وكان لهذا الإنجاز صفه النهائية الرائعة التي عمرها ألف عام. فالملك والنساء العازياتوالعبيد النخصياة والوسيغيون النسيان كرترا ظرانا وسميا رائعا فيه استكشاف ما هو موجود كامل ولكنه لالأسفء لم يكن يتطلع إلى أي تغيير. فلم يكن هنالك من جديد في الرياضيات لأنه لم يكن هنالك جديد في الفكر الإنساني: حتى انتقل ارتقاء الإنسان إلى الأمام؛ في حركة مختلفة وجديدة.

كانت المسيحية قد بدأت تقوى من جديد في شمال أسبانيا حوالي عام 0 م. متسربة من عدد من مواقعها. كقرية سانتيلانا على الشريط الساحلي وهي مواقع لم يحتلها العرب أبدا . فالمسيحية هناك ديانة أرضية؛ منعكسة في كل هدر العرية البسيطة: كالقرر والحماد والسيل الشحية. إن سوه الحيوانات أمر لا يمكن تصوره أو التفكير فيه في الدين الإسلامي. ولم يقف الأمربالمسيحية عند حد رسو الشيوانات بل صداها إلتن الول ينان ابن الله طفل صغيرء وأمه امرأة ويجب أيضا أن تكون موضع عبادة شخصية. فعندما يُحمل تمثال العذراء في موكب ديني نصيع بالمقارنة مع الاسم في الم اخورؤياة شديدة الاخقلافه للا مح حيث الطرة اللجحردة: بل مم ديت الحياة الزائخرة الس لا يكن كم جفاجها:

وعندما عادت المسيحية لتستعيد أسبانيا كانت فروة الصراع الحضاري على الحدود . إ5 اختلظ هناك المسلمون مع اكسيحيين واليهود أيظناء وكونوا ثقافة غريبة غير عادية مكونة من ديانات مختلفة. وفي عام 1085 انحصر مركز هذه الثقافة المختلطة - فترة من الزمن - في مدينة طليطلة. وكانت

1 14

موسيقا الأجسام

هذه المدينة بمثابة الميناء الفكري الذي دخلت منه إلى أوروبا المسيحية جميع المؤلفات الكلاسيكية التي جلبها العرب معهم إلى أسبانيا من الشرق الأوسظ واليوتان وآسيا.

ونظن - نحن الغربيين - أن إيطاليا تمثل مولد عصر النهضة. ولكن بدء حمل الجنين كان في أسبانيا إبان القرن الثاني عشرء وقد تمثل ذلك وعبّر هنه بمدرسة الترااجمة يعدينة طليطلة, حي قحست الفشي الإلتريقية القديمة (وكانت قد نسيتها أوروبا) عن العربية والعبرية إلى اللاتينية. ومن بين الإنجازات الفكرية العديدة التي حققتها طليطلة مجموعة من الجداول الفلكية التي كانت تعتبر بمثابة موسوعة طلكية مواضع التجوم . ومن الصفات المميزة لتلك المدينة في ذلك العصر أن الجداول كانت مسيحية بينما الأرقام عربية؛ متطورة قليلا إلى الشكل العصري الذي نستعمله الآن...

وكان أشهر وألمع التراجمة آنذاك شخص يدعى جيرارد الكريموني 8 011 16:31:20 الذي قدم من إيطاليا خصيصا للبحث عن نسخة من كتاب علم الفلك لبطليموسء عنوانه «المجسطي». وقد مكث الكريموني في طليطلة ليقوم بترجمة أعمال أرخميدس وابيقراط وجالينوسء واقليدس» أي جهابذة العلم الإغريقي.

ومع ذلك فإنني اعتقد شخصيا أن أعظم شخص ترجمت أعماله؛ وعلى المدى البعيد كان أكثر شخص ذي أثرء لم يكن إغريقيا. ذلك لأنني مهتم بمفهوم إدراك الأشياء في الحيّز. وهو الموضوع الذي كان الإغريق مخطئين فيه كليا. ولم يفهم إلا حوالي عام 1000 م؛ وكان أول من فهمه عالم رياضي غريب الأطوار هو الحسن بن الهيثم. وهو العالم الآوحد الذي كان يملك تفكيرا علميا أصيلا مبتكراء من بين من أنجبتهم الحضارة العربية. فقد كان الإغريق يعتقدون بآن الضوء يخرج من العين إلى الجسم المرئي. لكن ابن الهيثم كان أول من أدرك بأننا نرى الآشياء لآن كل نقطة فيها توجه وتعكس شعاعا إلى العين. ولم تستطع وجهة النظر الإغريقية أن تفسر كيف أن جسما مثل يدي تبدو كما لو أن حجمها يتغير عندما تتحرك. أما وفق تفسير ابن الهيثم فالأمر واضح بأن مخروط الأشعة المنبعث من حدود اليد وشكلها يزداد ضيقا مع تحريك يدي بعيدا عنك. وعند تحريكها نحوك يتسع مخروط الآشعة الداخل إلى عينيك ويقابل زاوية اكبر وذاك؛ بل إن

ارتقاء الانسان

ذلك وحده هو الذي يعلل الفرق الذي يبدو في حجم اليد . وهي فكرة من السهولة والبساطة؛ بحيث إنه من المدهش حقا أن العلماء لم يعيروها أي انتباه لمدة ستة قرون بعد ابن الهيثم (باستثناء روجر بيكون). بيد أن الفنانين أولوا نظرية ابن الهيثم اهتمامهم قبل هذه المدة بوقت طويل: وطبقوها بطريقة عملية. وبذلك أصبح مفهوم المخروط الشعاعي المنبعث من الشيء المرئي إلى العين أساس المنظور. ومفهوم المنظور هو الفكرة الجديدة التي أعادت إحياء الرياضيات من جديد الآن.

وقد انتقلت إثارة فكرة المنظور إلى الفن في شمال إيطاليا - في فلورنسه والتتدقية خلال القرن الكاس عش وهتاك ترجمة اتخطوظ البصريات لابن الهيثم في مكتبة الفاتيكان بروماء علق عليها لورنزو غيبرتي :نط6 .1 . بحواشء وهو الفنان الذي صنع منظورات البرونز الشهيرة الخاصة بمععدائئة فلورنسة. ولم يكن غيبرتي الرائد الأول في فن المنظورء بل ربما كان فيليبو برونيللشي ناءوه1اءعمدم8 .1 وعلى كل حال فقد كان لهذه الحركة عدد من الاتباع يكفي لتكوين مدرسة يمكن تعريفها بمدرسة المنظوريين «ع لتاءءمدتهء5)». ولقد كانت تلك مدرسة فكرية ذلك أن هدفها لم يكن فقط عمل نماذج وأشكال تشبه ما في الحياة؛ بل خلق الإحساس بحركة الأشكال في الحيّز.

وتتضح هذه الحركة حالما تقارن عملا رسم بطريقة المنظور مع عمل سابق. فلوحة الفنان كارباشيو عن القديسة أو رسولاء وهي تغادر ميناء ويه التصكية وها سيدا :رسك عاد 1295و االكاكين الوااض لهيةذ اللويعة يكمن في إعطاء الحيز المرئي بعدا ثالثاء وكان ذلك في حوالي نفس الوقت الذي بدأت الأذن تسمع عمقا و بعدا آخر في تناغمات الرسيقي الأوربية الجديدة. ولكن التأثير النهائي لم يكن في العمق بقدر ما كان في الحركة. وكالموسيقى الجديدة نجد أن الصورة مع ما تصور من أناس تزخر بالحركة والحياة. وفوق ذلك كله نشعر بأن عين الرسام تتحرك أيضا.

وعلى النقيض من ذلك تقف لوحة قلورنسه الجدارية التي رسمت قبل مئة عام من لوحة كارباشيوء أي حوالي عام 1350 م. فهي تصور منظر المدينة من خارج الأسوارء حيث ينظر الرسام بسذاجة فوق الأسوار وفوق سطوح المنازل كما لو كانت قد رتبت في طبقات. ولكن هذا ليس مسألة نقص في المهارة الفنية؛ بل مسالة قصد من الرسام. ذلك أنه ليس هناك

16

موسيقا الأجسام

أية محاولة للرسم بالمنظور لأن الرسام كان يعتبر نفسه مسجلا للأشياءء لا كما تبدوء بل كما هي: أي بنظرة عين إلهية؛ أو خارطة للحقيقة الأبدية.

إن لرسام المنظور قصداً مختلفا. أو - متعمدا - يجعلنا نبتعد عن أي مشهد مطلق أو مجرد . ذلك أنه يثبت لنا لحظة زمنية اكثر من مجرد مكان:» واللحظة تلك عابرة: وجهة نظر في الزمان» كزمن كونها وجهة نظر في المكان. وقد تم إنجاز ذلك بوسائل رياضية دقيقة. وقد سجل جهاز هذه الطريقة بعناية الفنان الآلماني البرشت دورر 62تناظ .ث»: الذي سافر إلى إيطاليا عام 506! لتعلم «فن المنظور السري». وبالطبع ثبّت دورر نفسه لحظة من الزمنء ولو أننا أعدنا بناء المشهد ذاك لرأينا أن الفنان قد اختار اللحظة الدرامية؛ فقد كان بوسعه التوقف في اللحظات الأولى من تحركه حول النموذج المراد رسمه؛ أو كان بوسعه التحرك بتجميد الرؤية في لحظة تالية.

غير أنه اختار أن يفتح عينيه مثل مصراع عدسة آلة التصويرء تماما في اللحظة القوية المناسبة: عندما يرى النموذج مواجهة بالكامل. فالمنظور لا يعبر عن وجهة نظر واحدة. بل يشكل بالنسبة للفنان عملية نشيطة ومستمرة. وقد جرت العادة - في بداية استخدام فن المنظور في الرسم - على الاعتماد على جهاز تثبيت النظرة وعلى شبكة متصالبة للامساك بلحظة الرؤية. وقد جاء جهاز تثبيت الرؤية هذا من علم الفلك, وتعتبر الورقة ذات المربعات التي ترسم عليها الصورة شيئا احتياطيا للرياضيات الآن. فالتفاصيل الطبيعية التي كان يمر بها دورر ليست سوى تعبيرات لديناميكية الزمن (وحركته): مثل رسوم الثور والحمار وحمرة الصبا على وجنتي العذراء. في لوحة دورر«محبة حكماء الشرق الثلاثة»/"'2. التي تعلن أن حكماء الشرق الثلاثة قد وجدوا نجمهم.: وما أعلنه ذلك النجم هو ميلاد الزمن (1".

ويعتبر كأس خمرة القريان - الذي يحمله أحد هؤلاء الحكماء في لوحة دورر - نموذجا للاختبار في تعلم المنظور. وقد قام أوتشيلو بتحليل الطريقة التي يبدو فيها ذلك الكأسء ويمكننا أن نديره بوساطة الحاسب الإلكتروني كما فعل الفنان. إن عين الفنان كانت كأنها على قرص دوار لتتبع وتسبر غور شكل الكأس المتغير. مثل استطالة الدوائر إلى قطوع ناقصة: ولتمسك لحظة من الزمن كأثر في الحيز أو المكان.

117

ارتقاء الانسان

كان تحليل الحركة المتغيرة لجسم ماء بالشكل الذي نستطيع القيام به على الحاسب الإلكتروني. أمراً غريباً تماماً عن العقلين الإغريقي والإسلامي. فقد بحثا دوماً عما هو ساكن وغير متبدل؛ عن عالم بدون زمن ذي نظام كامل. وكانت الدائرة أكمل الأشياء بالنسبة لهم. فالحركة يجب أن تجري بسلاسة وانتظام في دوائر. ذلك كان تناغم الأجرام السماوية.

لهذا السبب بني النظام الفلكي البطليموسي على دوائر يجري فيها الزمن بانتظام ودون أي اضطراب. ولكن الحركات في العالم الحقيقي ليست منتظمة؛ فهي تنير اتجاهها وسرعاتها في كل لحظة. ولا يمكن تحليلها حتى يتم ابتكار رياضيات يكون فيها الزمن متغيراً. وهذه القضية مسألة نظرية:؛ بالنسبة للسماوات:؛ لكنها مسألة عملية وملحة على الأرض: في مسار قذيفة؛ وفي دفق نمو النبات؛ وفي سقوط قطرة واحدة من سائل حيث يمر عبر تغيرات فجائية في الشكل والاتجاه. ولم يكن لدى عصر النهضة الوسائل الذدية لانظانت حدووة من مبلدلة عبوو على كلم كتهرك لحظة بلحظة. ولكن عصر النهضة كانت لديه الأجهزة الفكرية: عين البصيرة النافذة للرسام: ومنطق العالم الرياضي.

وبهذا الآسلوب اقتنع يوهانس كبلر بعد عام 1600: بأن حركة كوكب ما ليست دائرية ولا منتظمة؛ بل هي حركة اهليلجية ادعنامناا1 يسير وفقها الكوكب بسرعات مختلفة. وهذا يعنى أن الرياضيات القديمة ذات الطرز الساكنة لم كن كافية: وكذنكم الأهن بالفيية لرناضيات الجركة التتظطمة : فآنت بحاجة إذن إلى رياضيات جديدة تحدد وتعمل بحركة فورية لحظية.

وقد ابتكر رياضيات الحركة الفورية الآنية عقلان جباران في نهاية القرن السابع عشرء هما إسحاق نيوتن وغوتفريد فلهلم لايبنتز 12هطاعآ. وقد أصبح هذا الأمر جد مألوف بالنسبة لناء لدرجة أننا الآن نتصور الزمن على أنه عنصر طبيعي في وصف الطبيعة. بيد أن الأمر لم يكن هكذا دائماً. و يعود الفضل لهذين العالمين في وضع فكرة المماس: والعجلة أو التسارع؛ والسطح المائل؛ واللامتناهي في الصغرء والتفاضل. وثمة كلمة نُسيت ولكنها في الحقيقة خير مدلول لدفق الزمنء الذي أوقفه نيوتن كمغلاق عدسة التصويرء والكلمة التي أطلقها نيوتن هي: الجريان أو التغير المستمر 5م1110. وهو الاسم الذي صار (نقلا عن ليبنتز) حساب التفاضل»

موسيقا الأجسام

كنا 1181م21116:6. ولو تصورناه على أنه مجرد أسلوب رياضي أكثر تقدماً لأفقدناه مضمونه. غفي حساب التفاضل تصبح الرياضيات أسلوباً ديناميكياً للتفكير. ويشكل ذلك خطوة عقلية رئيسية في ارتقاء الإنسان. والغريب في الأمر أن المفهوم الفني الذي يجعله قابلا للتطبيق هو مفهوم الخطوة المتناهية في الصغرء وقد تحقق هذا الإنجاز الفكري بإعطاء معنى دقيق ومحدد لمفهوم التناهي في الصغر. ولكن يمكننا أن نترك هذه المفاهيم الفنية للمختصين في الرياضيات و يكفينا أن نسميها «رياضيات التغيير».

وكانت قوانين الطبيعة توضع دوماً باستخدام الأعداد. منذ أن قال فيثاغورس بأن الأعداد هي لغة الطبيعة. ولكن لغة الطبيعة الآن أصبحت تتضمن أعداداً تصف الزمن, و بذا تصبح قوانين الطبيعة قوانين الحركة, وتغدو الطبيعة - بحد ذاتها - ليست مجرد سلسلة من الصور الساكنة. بل عملية متحركة.

اللوحة رقم (26) الثور والحمار» وحمرة الصبا المتألقة على وجنتي العذراء. لوحة دؤورر الشهيرة «محية حكماء الشرق الثلاثة» وهي موجودة في اوفيزي, بمدينة فلوريسة.

انا

ارتقاء الانسان

الهو امش

)١(‏ هنود حمر عاشوا في جنوب المكسيك من أمريكا ووصلت حضارتهم أوجها عام ١000‏ بعد الميلاد. (2) يشير إلى مسرحية العاصفة لشكسبير. )3( الإشارة هنا إلى قول المسيح عليه السلام «كلوا فهذا لحمي واشربوا فهذا دمي» (4) سورة النور؛ 37-35. (5) يلاحظ في الأرقام من -١‏ 9 وجود شبه في طريقة كتابتها بالعربية والأجنبية في الأرقام التالية. 3- | و 3 وهي (2) واقفة على حرفها و 3 وهى أيضا (3) واقفة على حرفها بدون عصا و 9: كما أن 6 تشبه (7) كتابة وان لم يكن مدلولا. اع 5 ىم 7 لاله )6( سورة العنكبوت. 7( سورة الصافات. )8( سورة الكهف. (9) مقص© 135 عل 5218 )١0(‏ أعد/! عط أه دسمتكهرملخ عط] (11) والزمن هنا استمارة بدلاً عن المسيح عليه السلام.

رسول إلى النجوم

كان علم الفلك؛ أول علم نشا في حضارة منطقة البحر الأبيض المتوسط وقق المفهوم الحديث للعلم. ومن الطبيعي أن يتوصل الإنسان إلى علم الفلك مباشرة من علم الرياضيات ذلك أن علم الفلك تطور أولاء وأصبح نمو نجاً لكل العلوم الأخرى؛ لا لشيء سوى أنه يمكن تحويله إلى أعداد دقيقة. وقولي هذا ليس بسبب صفة أو ظاهرة غريبة عندي (كرياضي) ولكن الغرابة في الموضوع هي أن اختار أن أبدأ قصة أول علم في البحر الأبيض المتوسط في العالم الجديد.

إن قليلا من مبادئ علم الفلك موجودة في كل الثقافات؛ وكانت بشكل واضح مجال اهتمام الشعوب قديماً في جميع أنحاء العالم؛ وهناك سبب واضح لذلك. ذلك أن الفلك هو المعرفة التي تدلنا على دورة الفصول عن طريق تتبع حركة الشمس الظاهرية: مثلا. وكذا يمكن تحديد الوقت الذي يترتب فيه على الإنسان أن يزرع: أو يحصدء أو كل حضارة مستقرة تقويم يوجه خطط الناس» و ينطبق هذا الأمر على العالم الجديد. مثلما كان

ارتقاء الانسان

مثال ذلك حضارة المايا التى ازدهرت قبل نهاية الآألف الميلادي الأول» في برزخ أمريكا الوسطى الواصل بين المحيطين الأطلسي والهادي. ولهذه الحضارة حق الادعاء بأنها أرفع الثقافات الأمريكية: ذلك أنه كان لها لغة مكتوبة؛ ومهارة في الهندسة وفنون أصيلة. وكان يقطن في مجمعات معابد المايا - بأهراماتها حادة الانحدار - بعض الفلكيين ولدينا لوحات لمجموعة منهم. منقوشة على حجر مذبح أحد هذه المعابد. مازال باقياً حتى الآن. والمذيح يسجل ذكرى اجتماع فلكي قديم عقد عام 776م: حيث حضر مئة عشر رياضياً إلى مركز علم المايا الشهير الواقع في مدينة كوبان في أمريكا الوسطى.

وكان لدى شعب المايا نظام حسابي أكثر تقدماً مما كان في أوروبا في ذلك الوقت فلقد كان عندهم على سبيل المثال رمز للصفرء وكانوا رياضيين أنواعها. وعوضاً عن ذلك فقد كانت طقوسهم الدينية مهووسة بفكرة مرور الزمن» وسيطر هذا الاهتمام الشكلي على علم الفلك عندهم مثلما سيطر

وعندما انعقد المؤتمر الكبير في كوبان: كان الهدف حل بعض الصعوبات التي واجهت الكهنة المشتغلين بالفلك. ومن المحتمل أن نفترض أن الصعوبة الكبرى التي تطلبت دعوة وفود العلماء للحضور من عدة مراكزء. لابد أن تكون مشكلة حقيقية من مشكلات المشاهدة أو الملاحظة. ولكن افتراضنا تقويم المايا كانت مصدر إزعاج دائم لمسئولي التقويم. إذ كان لديهم تقويمان» أحدهما مقدس والآخر دنيوي. ولكنهما لم يكون يستمران متوافقين فترة إيقاف الفجوة بين التقسيمين. ولم يكن لدى فلكيي المايا سوى بعض القواعد لآلية تلك الحركة. وكانت فكرتهم عن الفلك شكلية محضة: مسألة هدفها الحفاظ على تقاويمهم صحيحة. وكان ذلك هو كل ما أنجز عام 776 معو بعدها جلس أعضاء الوفود كي تنقش صورهم على حجارة المعيد.

رسول إلى النجوم

والمهم أن علم الفلك لا يتوقف عند التقويم؛ فثمة استعمال آخر لهذا العلم عند الأناس القدماء. غير أن ذلك لم يكن أمراً عاماً شائعاً عند الجميع. وذلك أنه يمكن أيضاً لحركة النجوم في السماء ليلاء أن تخدم كدليل للمسافر وبخاصة للمسافر بحراً وحيث لم تكن هناك علامات يستدلون بهاء وهذا ما كان الفلك يعنيه بالنسبة للبحارة في البحر الأبيض المتوسط في العالم القديم. ولكن تبعاً للمعلومات المتوفرة لدينا الآن لم يستعمل العالم الجديد الفلك كدليل علمي في رحلات اليابسة أو المحيطات. وبدون علم الفلك لم يكن من الممكن حقاً أن تجد طريقك لمسافات بعيدة: أو أن تكون نظرية عن شكل الأرض والبر والبحرء وعندما أبحر كولومبوس من العالم القديم: باتجاه الطرف الآخر من العالم كان يستخدم معلومات فلكية بدائية وفجة:؛ بالنسبة لنا الآن» فقد ظن مثلا أن الأرض أصغر بكثير مما هي عليه فعلاء ورغم ذلك فقد اكتشف كولومبوس العالم الجديد؛. وليس من الصدقة أن العالم الجديد لم يفكر أبدأ بأن الأرض كروية؛ وأنه لم يخرج أحد منهم مطلقاً للبحث عن العالم القديم؛ والذي حصل هو أن العالم القديم هو الذي أبحر حول الأرض لاكتشاف العالم الجديد.

وليس الفلك قمة العلم أو الابتكار. ولكنه اختبار للفكر والمزاج الكامنين في حضارة ما. فلقد كان لجوابي البحر الأبيض المتوسط منذ عهد الإغريق فضول علمي خاصء جمع روح المغامرة والفكر المنطقي والعمل التجريبي مع العمل الفكري ضمن نمط واحد من التقصي والبحثء أما العالم الجديد فلم يفعل شيئاً من ذلك.

إذن ألم يبتكر العالم الجديد أي شيء؟ والجواب هو بالنفي بالطبع. فالملاحظ أنه حتى الحضارة البدائية لجزيرة الفصح لهدا؟] معاكة8 الواقعة في قلب المحيط الهادي في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية حققت ابتكاراً هاماً. وهو نحت بعض تماثيل ضخمة متماثلة ليس لها مثيل على الأرضء والناس يتساءلون كالمعتاد بكل أنواع الأسئلة الهامشية وغير الواردة عنها مثل: لماذا عملت هكذا ؟ وكيف نقلت ؟ وكيف وصلت إلى هذه الأماكن؟ ولكن ذلك كله ليس المشكلة الهامة. فقد كانت هناك ستونهنج عع«0عراعم50 ذات حضارة أقدم من تلك وبها نصب حجرية إقامتها أصعب بكثير, وكذلك كانت ايفبري ناا476 إن كل الثقافات البدائية تتقدم ببطء خلال مشاريع

ارتقاء الانسان

والسؤال الهام حول هذه التماثيل هو: لماذا صنعت جميعها متشابهة ؟ وتبدو التماثيل لمن ينظر إليها كأناس متشابهين - مثل الفيلسوف الإغريقي ديوجينيس - في براميلهم؛ وهم ينظرون إلى السماء بمحاجر عيون فارغة: يرقبون الشمس والنجوم تجري من فوق رؤوسهم دون أية محاولة لإدراكها وفهمها . وعندما اكتشف الهولنديون هذه الجزيرة يوم أحد الفصح من عام قالوا إن في هذه الجزيرة الميزات التي تجعلها جنة الله على الأرض,. بيد أنها لم تكن كذلك؛ ففردوس الأرض لا يمكن أن يتكون من هذا التكرار الفارغ: الذي يشبه حيواناً في قفص يدور ويدور ويقوم دوماً بنفس العمل. فهذه الوجوه. وهذه الأطر المتجمدة: كأنها كلها صور فيلم متحرك أخذ سيره يتقطع تشير إلى حضارة فشلت في اتخاذ الخطوة الأولى لارتقاء سلم المعرفة الفكرية. وهنا يكمن سر فشل ثقافات العالم الجديد التي ماتت وهي في فبضة عصرها «الجليدي» الرمزي.

وتبعد جزيرة الفصح ما يزيد على ألف ميل عن أقرب جزيرة آهلة بالسكان» وهي جزيرة بتكارن غرباً. وتبعد أكثر من 1500 ميل عن أقرب موقع مأهول من الشرق؛ وهو جزر جوان فيرنانديز. حيث ألقت الأمواج الكساندر سلكيرك على شاطنٌ إحداها عام 1704 (وهو التجسيد الحقيقي الأول لشخصية روبنسون كروزو في القصة الشهيرة). وواضح أنه لا يمكن الإبحار عبر مسافات شاسعة كهذه إلا إذا كان لدى المرء نموذج عن السماوات ومواقع النجوم ليستطيع بواسطتها أن يهتدي إلى طريقه. و يتساءل الناس كثيراً عن جزيرة الفصح: كيف وصل الناس إليها ؟ إن الذي لا يمكن الشك فيه أنهم جاؤوا إلى هنا صدفة؛ ولكن السؤال الآهم هو: لماذا لم يتمكنوا من مغادرتها؟ والجواب أنهم لم يستطيعوا مغادرتها لأنه لم يكن لديهم حس بحركة النجوم التي يمكنهم بواسطتها معرفة طريقهم في خضم ذلك المحيط. ولماذا لم يكن لديهم ذلك الحس ؟ إن أحد الأسباب الرئيسية الواضحة هو عدم وجود النجم القطبي في سماء نصف الكرة الجنوبي. ونحن ندرك مدى أهمية ذلك النجم فهو يلعب دورا في هجرة الطيور التي تحدد طريقها بواسطته؛ ولعل ذلك هو السبب في أن معظم هجرات الطيور تحدث في النصف الشمالي من الكرة الأرضية؛ وليس في النصف الجنوبي.

1 4

رسول إلى النجوم

وقد يكون لغياب النجم القطبي محنى في نصف الكرة الجنوبي, إذ يبدو أن هذا الغياب لا يمكن أن يكون ذا مغزى بالنسبة لكل العالم الجديد, لأن هناك أمريكا الوسطى والمكسيكء. وهناك أماكن أخرى كثيرة؛ لم يكن لديها أيضا دراية بالفلك مع أنها تقع شمال خط الاستواء. (أي أن أهلها يرون النجم القطبي).

إذن ما الخطأ في العالم الجديد 5 لا أحد يعلم؛ وعلى ما اعتقد فقد كانت تنقصهم الصورة الديناميكية العظيمة التي حركت العالم القديم كثيراء وهى العجلة أو الدولاب. ولم تكن العجلة فى العالم الجديد سوى لعية ولكنها في العالم القديم كانت أعظم صورة للشعر والعلم؛ وعليها أسس كل شيء. وهذا الشعور بأن السماوات تدور حول مركزها ألهم كريستوفر كولومبوسء عندما أبحر في رحلته الشهيرة عام 1492: ومركز الدوران هذا هو الأرض. وقد اقتبس كولومبوس ذلك عن الإغريق الذين كانوا يعتقدون بأن النجوم مثبتة على كرات سماوية تعطي أنغاما موسيقية عندما تدور, عام.

وقبل أن يبحر كريستوفر كولومبوس بأكثر من ماثئة عام كان العالم بدقة الساعة. وقد صنعها جيوفاني دودئدي في بادوا حوالي عام 21350 وقد استغرق صنعها ست عشرة سنة؛ ومن المحزن أن الجهاز الأصلي قد تلف واختفى؛ ولكن - لحسن الحظ - أمكن صنع آلة هي صورة طبق الأصل من رسومات العمل التي صممها دودنئدي لهذه الآلة. وهذا النموذج الرائع من الفلك التقليدي معروض في متحف مؤسسة سيمشسونيان في واشنطون.

إن الأمر الذي يفوق الروعة الميكانيكية في هذه الآلة هو الإدراك الفكري الذي يعود في الأصل إلى أرسطو وبطليموس واليونان: فجهاز دودندي الشبيه بالساعة هو نظرتهم إلى الكواكب كما تشاهد من الأرض. فقد كان هناك سبعة كواكب,. أو هكذا اعتقد الأقدمون لأنهم كانوا يعتبرون الشمس كوكبا تابعا للأرضء لهذا كان لهذا الجهاز (الساعة) سبعة أوجه أو أقراص مُدَئجة وعلى كل قرص منها أحد هذه الكواكب. و يكون مسار الكوكب على قرصه تقريبا نفس المسار الذي نراه من الأرضء أي أن الجهاز ذلك كان

ارتقاء الانسان

اللوحة رقم (27) إن جنة الله على الأرض لا يمكن أن تتكون من تكرار فارغ. صف من الرؤوس الحجرية تطل على خليج في جزيرة الفصح.

دقيقا بقدر دقة الملاحظة كما كانت في ذلك العصر وهكذا فعندما يبدو مسار الكواكب دائرياً من الأرض يكون دائريا أيضا على قرص هذه الساعة الفلكية. وهو أمر سهل. أما عندما ينثني مسار الكوكب عائدا حول نفسه؛ كما يرى من الأرضء فقد ابتكر دودندي لتمثيل ذلك مجموعة ميكانيكية من العجلات تقلّد هذه العملية عن طريق تحريك دوائر ضمن دوائر أخرى

| 6

رسول إلى النجوم

أكبرء بنفس الطريقة التي وصفها بطليموس.

والقرص الأول للشمس وهي ذات مسار دائري كما بدت في ذلك الوقت»: ولذلك تمثل حركتها بقرص دائريء يلي ذلك فرص المريخ الذي تتمثل المشتري ولذلك مجموعة معقدة من العجلات المسننة المتداخلة في عجلات أخرىء ثم يلي ذلك زحل وهو أيضا ممثل بعجلات تتحرك ضمن أخرىء ثم نأتى :إلى القمر الذي يعطيه دودندي صورة أخاذة جميلة وتمثل حركته بقرص بسيط. لأنه كوكب تابع للأرضء ويدور حولها في مسار دائري حطيقةوأنخيرا كاقي إلى غرض الكوكبين الواقسين بين الأركن والشمسن, وما عطارد والزهرة وهنا نرى مرة أخرى الصورة ذاتها: فالقرص الذي يحمل كوكب الزهرة يجري داخل عجلة مسننة افتراضية أكبر.

إن تمثيل حركة الكواكب هذا عمل فكري رائع دون شكء لكنه شديد استطاعوا بعد ميلاد المسيح بقليل أن يتصوروا ذلك التركيب الرائع ويخضعوه للحسابات الرياضية. بعد كل ذلك يحق لنا أن نتساءل عن الخطأً الكامن فى هذا التصورء إنه شىء واحد فقط: هو وجود سبعة أقراص لبيان حركة آلة واحدة. ولكن تلك الآلة لم تكشف إلا بعد أن وضع كوبر نيكوس الشمس فى مركز السماء وكان ذلك عام 3.

وكان نيكولاس كوبر نيكوس رجل كنيسة بارزاً ومثقفاً بولندياً من أنصار في إصلاح التقويم» وقد كرس كوبر نيكوس ما لا يقل عن عشرين عاما من حياته تقريبا للبحث فى الفرضية التى كانت حديثة آنذاك وهى أن الطبيعة يجب أن تكون بسيطة. فلماذا كانت مسارات الكواكب معقدة لهذا الحد ؟ لأننا وفق ما قرره كوبر نيكوس ننظر إليها من المكان الذي تصادف أننا نعيش فيه؛ أي من الأرض. ومثل رواد مفهوم المنظور في الرسم طرح كوبر نيكوس على نفسه السؤال التالى: لماذا لا ننظر إلى الكواكب من مكان آخرة

127

ارتقاء الانسان

كونها فكرية - جعلته يختار الشمس الذهبية لتكون المكان الآخر.

«وسط الكون كله تترج الشمس على عرشها. فهل يسعنا داخل هذا المعبد الجميل جدا أن نضع هذا الجسم المضيء في موضع أفضل يستطيع منه أن يشع على الجميع مرة واحدة؟ لقد أطلقت على الشمس أسماء عديدة: المصباح المضيء. العقلء. حاكم الكون. و يسميه هرمس «تريستمجستوس» الإله المرئي. كما تسميه اليكترا سوفوكليس «الإله الذي يرى كل شيء»... وهكذا فان الشمس تجلس على عرش ملكيء تحكم أطفالهاء أي الكواكب التي تدور حولها».

ومن المعروف أن كوبر نيكوس فكر في وضع الشمس في مركز النظام الكوني منذ وقت طويلء؛ وربما كان قد وضع المخطط الأول المبدثئي لهذه الفكرة بشكلها غير الرياضي قبل بلوغه سن الأربعين؛ وعلى أية حال لم يكن وضع تلك الفرضية بالأمر السهل في عصر اضطراب ديني؛ وعندما بلغ كوبر نيكوس السبعين من عمره - حوالي عام 1543- كان قد أصبح مستعداً لنشر بحثه الرياضي في وصف السماوات: ودعاه «دوران الأجرام الكونية السماوية» دسدتاوعاءه0) سا0 كتناطتم ه1701 ويصف السماء حسب هذا البحث بأنها نظام فرد يدور حول الشمس. وقد توفي كوبر نيكوس في السنة ذاتها التي نشر فيها كتابه ويقال إنه لم ير كتابه إلا مرة واحدة عندما وضعت نسحة منه في يده وهو يعاني نزع الموت.

وكان انبثاق عصر النهضة دفعة واحدة في الدين: والفن: والأدب, والموسيقى والعلوم الرياضية - مما جعله يقف في صدام رأسي مباشر مع مجمل نظام العصور الوسطى. ونحن نرى أن مكان ميكانيكا أرسطو وفقلك بطليموس في نظام العصور الوسطى يبدو أمرا عرضيا. ولكن بالنسبة لمعاصري كوبر نيكوس كانا يمثلان نظام العالم الطبيعي والمرئي. لقد أصبح القرص - أو العجلة - الذي كان المثل الأعلى للحركة الكاملة عند اليونان إلها متحجرا جامدا بقدر ما كان عليه تقويم المايا أو التماثيل الحجرية التي نحتت على شاطنٌ جزيرة الفصح.

وقد بدا نظام كوبر نيكوس غير طبيعي في عصره حتى على الرغم من أن الكواكب مازالت - حسب رأيه - تسير في أغلاك دائرية: (ويعود الفضل إلى شاب أصغر من كوبر نيكوس - يدعى يوهانس كبلر عمل فيما بعد في

رسول إلى النجوم

مدينة براغ - في أنه أوضح أن أفلاك الكواكب اهليجية حقا وليست دائرية كما ظن كوبر نيكوس). ومع ذلك لم يكن نظام كوبر نيكوس مثار قلق رجل الشارع أو رجل الكنيسة؛ فقد كانوا ملتزمين بعجلة السماوات. أي أن الأجرام السماوية يجب أن تدور حول الأرض» وكان هذا التصور قد أصبح ركنا من أركان الإيمان كأنما الكنيسة قد وطدت - رأيها على أن نظام بطليموس لم يبتكره إغريقي من الشرق الأدنى بل هو من صنع الله جل جلاله نفسه. ومن الواضح أن القضية لم تكن موضوع مبدأً بقدر ما كانت موضوع سلطة. ولم يبرز هذا الموضوع إلى مقدمة الأحداث إلا بعد سبعين عاماء في مدينة البندقية.

وضي عام 4 ولد رجلان عظيمان: الأول وليم شكسبير في انكلتره والآخر غاليلو غاليلي. في إيطالياء وعندما كتب شكسبير عن صراع السلطة في عصره: نجده يجعل جمهورية البيندفية - مرتين - مسرحا لأحداث مسرحياته: الأولى في مسرحية تاجر البندقية؛ والأخرى في مسرحية عطيل. ذلك أنه - في عام 1600 - كان البحر الأبيض المتوسط لا يزال مركز العالم» وكانت البندقية بمثابة مركز البحر الأبيض المتوسطء والى تلك المدينة أتى الرجال الطموحون للعملء لأنه كان لهم مطلق الحرية للعمل دون أية قيود. وهكذا احتشد في شوارع البندقية التجار والمغامرون والمثقفون والفنانون والحرفيون المهرة» تماما كما يفعلون الآن.

وكان أهالي البندقية مشهورين بأنهم شعب مراوغ كثير الأسرارء كما كانت البندقية ميناء حرا بالمعنى الحديث؛ ويمكن القول إن هواءها كان يحمل بعضا من جو التآمر الذي يطوف بالمدن المحايدة مثل لشبونة وطنجة؛ ففي مدينة البندقية أوقع نصير مزيف بجبوردانولرونو عام 1592: وسلمه لمحاكم التفتيش التي أحرقته في روما بعد ثماني سنوات.

وبالتأكيد كان أهالي البندقية شعبا عمليا. وصحيح أن غاليلو أنجز أعمالا هامة في العلوم الأساسية في مدينة بيزا بيد أن الأمر الذي حدا بأهالي البندقية لاستخدامه كأستاذ لعلم الرياضيات في جامعة بادوا كان موهبته فى مجال الاختراعات العملية؛ ولا يزال بعض هده الابتكارات محفوظا ضمن المجموعة الهامة لأكاديمية شيمنتو في فلورنساء وهي مخترعات أبدع في فكرتها وتنفيذها. فهنالك جهاز من أنابيب زجاجية

120

ارتقاء الانسان

ملتفة لقياس تمدد السوائل: يشبه لحد ما مقياس الحرارة؛ وكذلك هنالك ميزان مائي يعمل بقاعدة أرخميدس لتعيين كثافة الأجسام المتينة» وثمة جهاز أسماه غاليليو يما عرف عنه من قدرة على التسويق البوصلة العسكرية: رغم أنها ليست بوصلة بل آلة حاسبة تشبه كثيرا المسطرة الحاسبة الحديثة, وكان غاليليو يصنعها و يبيعها في (ورشته) الخاصة. وكان غاليليو قد ألف كتانب 'تغليفات بخاضة لبيان.ظريقة استغمال هذة التوضلة: وظبغه وتشرمه في بيته الخاص. وكان ذلك الكتاب واحدا من أوائل ما طبع من كتب غاليليو وكان ذلك عملا علميا تجاريا سليماء وهذا ما أثار إعجاب أهالي البندقية.

وهكذا لا عجب في أنه عندما اخترع عام 1608: بعض ضيتاع النظارات من الفلاندرز (جزء من بلجيكا الآن) شكلا بدائيا من أشكال المنظار المقرب؛ جاؤوا إلى جمهورية البندقية لمحاولة بيعه. ولكن كان في خدمة الجمهورية في شخص غاليليو عالم ورياضي أقوى بكثير جدا من أي عالم آخر في شمال أوروباء وفوق ذلك كان أمهر في الدعاية والإعلان: إذ أنه عندما صنع منظارا مقربا هرول بأعضاء مجلس الشيوخ إلى برج الجرس العالي في البندقية ليعرض ذلك المنظار ويريهم به السفن عن بعد.

كان غاليليو رجلا قصير القامة؛ مربوع القد. نشيطاء أحمر الشعرء أعزب ذا علاقات غرامية متعددة؛ وكان في الخامسة والأربعين من عمره عندما سمع بأنباء الاختراع الفلمنكي للمنظار المقرب. وقد ألهب هذا الاختراع حماسه وفي ليلة واحدة استطاع فهم سره. وسر صنع آلة تماثله في الجودة. تكبّر ثلاث مرات وتشبه المنظار الذي يستعمله النظارة في دار الأوبرا. ولكن غاليليو استطاع قبل أن يأتي بأعضاء مجلس الشيوخ إلى بناء برج الجرس ليريهم هذا المنظار أن يزيد قوة تكبيره إلى ثماني أو عشر مرات. وبذا اخترع التلسكوب الحقيقيء وتستطيع بواسطة ذلك. المنظار - إذا وقفت على قمة الكامبانيل حيث يبعد الأفق حوالي عشرين ميلا - أن تشاهد ليس فقط السفن في البحرء بل ويمكنك أيضا أن تراها وتتعرف عليها وهي ما تزال على بعد إبحار ساعتين أو أكثرء وهو أمر يساوي الكثير من المال بالنسبة للمضاربين والتجار في مدينة البندفية.

وقد وصف غاليليو تلك الأحداث برسالة بعثها إلى أخي زوجته في فلورنسه؛ يعود تاريخها إلى 29 آب (أغسطس) عام 1609 :

رسول إلى النجوم

«لا بد أنك تعلم انه قد مضى شهران على انتشار الأنباء هنا بأنه في الفلاندرز قد قُدُم للكونت موريس منظار مقرب. صنع بحيث تبدو الأشياء البعيدة جدا قريبة كثيراء بشكل يمكن معه رؤية رجل على بعد ميلين بوضوح. وقد بدا لي ذلك رائعا جدا وجعلني أفكر بالموضوع ملياء وقد بدا لي أن هذا الاختراع يقوم على علم المنظورء. ولذلك فقد عقدت العزم على تصنيع مثل ذلك الجهازء وقمت بذلك بالفعل وكان المنظار الذي صنعته كاملا لدرجة أن سمعته فاقت المنظار الفلمنكي بكثير. وبعد أن وصل خبر هذا المنظار مدينة البندقية» دعاني منذ ستة أيام مجلس المدينة التنفيذي وكان علي أن أريهم مع جميع أعضاء مجلس الشيوخ ذلك المنظار الذي أثار دهشة الجميع بدرجة لا حد لهاء وجاء العديد من السادة وأعضاء مجلس الشيوخ الذين - رغم كبر سنهم - قامرا بارتقاء سلم أعلى برج جرس في البندقية كي يشاهدوا الأشرعة والمراكب في البحر وهي بعيدة إلى حد أنها وهي ناشرة أشرعتها ومقبلة بأقصى سرعتها كان الفرق ساعتين أو أكثر بين رؤيتها بمنظاري ورؤيتها بالعين المجردة. ذلك أن هذه الأداة - في الحقيقة - تريك جسما يبعد حوالي خمسين ميلا كما لو كان - حجما وقربا - على بعد خمسة أميال فقط».

ويعتبر غاليليو خالق الطريقة العلمية الحديثة. وقد حقق ذلك خلال الأشهر الستة التي تلت انتصاره على برج الجرس. ذلك الانتصار الذي كان يمكن أن يكتفي به أي شخص آخر. فقد خطر له عندها أنه لم يكن كافيا أن محول الدمية الفلمنكية إلى آلة تستعمل في الإبحارء بل يمكن تحويلها أيضا إلى أداة للبحث العلميء. وهي فكرة كانت جديدة تماما في ذلك العصر. وهكذا زاد غاليليو نسبة التكبير في منظاره إلى ثلاثين مرة» ووجهه شطر النجوم. وبهذه الطريقة توصل فعلاً ولأول مرة إلى ما نسميه بالعلم العملي؛ أي: صناعة الجهازء وإجراء التجربة؛ ثم نشر النتائج. وهو الشيء الذي فعله غاليليو في الفترة ما بين شهري سبتمبر (أيلول) عام 1609 ومارس (آذار) من عام 1610: عندما نشر في البندقية كتابا رائعا تحت عنوان «رسول إلى النجوم» قدم فيه بحثا موضحا برسوم عن ملاحظاته الفلكية. وقد قال فى ذلك الكتاب:

«لقد شاهدت عددا لا يحصى من النجوم: لم يرها أحد من قبل» وتفوق

ارتقاء الانسان

«عدداً» النجوم المعروفة سابقا بأكثر من عشرة أضعاف».

«بيد أن الأمر الذي سيثير دهشة أعظم بكثيرء والذي دفعني بشكل خاص لأن ألفت انتباه جميع الفلكيين والفلاسفة, هو أني اكتشفت أربعة كواكب جديدة: لم تكن معروفة ولم يالاحظها أي من الفلكيين من قبل».

وكانت تلك «الكواكب» التي رآها غاليليو أول مرة هي أقمار المشتري الأربعة. وكذلك يخبرنا كتاب «رسول إلى النجوم» كيف وجه غاليليو منظاره المكبر نحو القمرء وكان غاليليو أول إنسان ينشر خرائط عن القمرء ولدينا خرائطه الآصلية بالألوان المائية. و يقول عن ذلك في الكتاب:

«إن أجمل مشهد وأبدعه هو أن ترى سطح القمر... أو بكل تأكيد ليس سطحا ناعما أو مصقولا. لكنه سطح وعر وغير مستوء ومثل سطح الأرض نفسهاء ملىّ في كل مكان بالنتوءات والهوات العميقة والتعرجات».

وقد كتب السفير البريطاني لدى بلاط رئيس البندقية - السير هنري ووتن - إلى حكومته يوم نشر كتاب «رسول إلى النجوم» يقول:

«لقد اكتشف عالم الرياضيات في بادوا... أربعة كواكب جديدة تدهور حول كوكب المشتري إلى جانب العديد من النجوم الثابتة الأخرى غير المعروفة من قبل؛ كما وجد أن القمر ليس كرويا أملسء بل مكسو بنتوءات... إن هذا المؤلف إما أن يصبح شهيرا شهرة عريضة أو موضع سخرية كبيرة. وسأبعث إلى سعادتكم - على الباخرة التالية - إحدى المناظير التي أبدعها ذلك الرجل».

كانت الأنباء مثيرة؛ وقد أدت إلى شهرة غاليليو شهرة تعدت النصر الذي أحرزه في المجتمع التجاري في البندقية؛ ولكن ذلك لم يصادف ترحيبا لدى الكثيرين لآن ما رآه غاليليو في السماء؛ وكشفه لكل من يرغب في مشاهدته يعني أن نظام بطليموس الفلكي - بكل بساطة - لا ينطبق على الواقع. وهكذا تبين أن تخمين كوبر نيكوس كان صحيحا وثابتا وواضحا للعيان؛ وكالكثير من النتائج العلمية الحديثة لم يرض ذلك البتة تحامل السلطة القائمة في ذلك العصر.

وقد اعتقد غاليليو بأن كل ما كان عليه عمله هو أن يبين أن كوبر نيكوس كان على صوابء وبذا سوف يصغفي إليه الجميع ويوافقونه. تلك كانت غلطته الأولى: إنه كان ساذجاء ولم يدرك حوافز الناس. وهي غلطة

رسول إلى النجوم

يرتكبها العلماء في كل عصرء وظن غاليليو أيضا أن شهرته كانت كبيرة إلى حد أن يصبح بوسعه العودة إلى بلدته فلورنسه. وترك عمله غير المبهج (التعليم في جامعة بادوا)؛ الذي أصبح ثقيلا على نفسه؛ وبذا يترك الحماية التى كانت توفرها له جمهورية البندقية: وكانت فى ذلك الوقت بشكل اباس ادية لنظاع الكنيسة وعائك هذه غاطليه إنخانيةة الف كان كن غاية الآأمر غلطة مميتة. ولقد أدت نجاحات حركة الإصلاح البروتستانتي الدينية في القرن السادس عشر إلى فيام الكنيسة الكاثوليكية بشن هجوم عنيف ضد تلك الحركة؛ وكان رد الفعل ضد لوثر على أشده؛ وكان الصراع فى أوروبا على السلطة مريراً» وفى سنة 1618 بدأت حرب الثلاثين عاما. عن عام ١622‏ أسس الفاتيكان سس مهمتها نشر الكاثوليكية والدعاية لها""". ودخل البروتستانت والكاثوليك في حرب شبيهة بما نسميه اليوم الحرب الباردة؛ وفي تلك الحرب الباردة - لو عرف غاليليو - لم يكن هناك مكان لرجل عظيم أو صغير وكان الحكم على الناس غاية في البساطة عند كلا المعسكرين: فكل من ليس معنا مرتد كافر. ونجد أن شخصا يتفهم الدين والإيمان بتسامح غير دنيوي مثل الكاردينال بلارمين لم يستطع إلا أن يجد تخمينات جورد انو برونو الفلكية غير محتملة؛ فأمر بإعدامه حرقا (وكان هذا عقاب المرتدين عند الكاثوليك). وعلينا أن نذكر أن الكنيسة كانت - بالإضافة لسلطتها الدينية - سلطة دنيوية قوية؛ وكانت تخوض - فى تلك الحقية الاريرة + نحرب جهاد سيان كبرو فيها القاية كل واسظة ووسيلة - وتلك هي أخلاقيات الدولة البوليسية. ويبدو لي أن غاليليو كان - لدرجة مثيرة للغرابة والدهشة - كطفل بريء في عالم السياسة؛ كما كان أكثر براءة لدرجة السذاجة لظنه بأنه كان بوسعه أن ينجو من هذا الصراع بذكائه. وهكذا - وعلى مدى عشرين عاما - سار غاليليو على طريق أدى في النهاية إلى إدانته» وبالرغم من أن التغلب عليه اقتضى وقتا طويلاء إلا أنه لم يكن ثمة شك أبدا في أنهم سينجحون في إسكاته. لأن الخلاف بينه وبين من بيدهم السلطة كان خلافا مطلقاء فقد كانوا يعتقدون أن السيطرة يجب أن تكون للايمان: أما غاليليو فقد كان يؤمن بأن الحقيقة يجب أن تقنع الجميع. وهكذا ظهر للعيان صراع المبادئّ - وكذلك بالطبع صراع الشخصيات - يوم محاكمة غاليليو عام ١633‏ . غير أن لكل محاكمة سياسية

ارتقاء الانسان

تاريخا مستترا حول ما كان يجري في الخفاء. إن القصة الدفينة وأسرار ما جرى قبل جلسات هذه المحاكمة العلنية مدون فى السجلات السرية المحفوظة لدى الفاتيكان: وبين ممرات المكان الذي 56 فيه هذه السجلات هنالك خزانة فولاذية متواضعة. يحتفظ فيها الفاتيكان بالوثائق التي يعتبرها ذات أهمية خاصة:؛ فهنا نجد - مثلا - طلب هنري الثامن الطلاق» والذي أدى رفضه آبى دخول حركة الإصلاح إلى إنكلترا وبالتالي إنهاء ارتباطها مع روماء وهناك القليل من وثائق محاكمة جيوردانو برونو ذلك أن معظمها كان قد أتلف أثناء المحاكمة. وهنالك أيضا ملف الوثائق الشهيرة الذي يحمل رقم 181١‏ والمتعلق بالإجراءات ضد غاليليو غاليلي في محاكمته التي جرت عام 1633: وأول شيء يثير الانتباه هو أن أولى تلك الوثائق ترجع إلى عام ١|6اء‏ لحظة إحراز غاليليو انتصاره العلمي في البندقية وفلورنسة؛ بينما هنا في روما كانت تقدم ضد غاليليو معلومات سرية إلى مكتب البابا المختص بمحاكم التفتيشء, وهنالك وثيقة قديمة غير موجودة ضن هذا الملف. تفيد بان الكاردينال بلارمين أمر بإجراء تحريات ضده؛ وهناك نجد تقارير ضد غاليليو كتبت في أعوام 1613 , 1614 و5١16.‏ وفي ذلك الوقت بدأ يغمر غاليليو الخوف والذعرء ولهذا ذهب إلى روماء من تلقاء نفسه. كي يقنع أصدقاءه من الكرادلة بعدم حظر النظام الفلكي الكوبرنيكي.

بيد أن الآوان كان قد فات. ففي شهر شباط (فبراير) من عام 21616 نجد النص الرسمي التالي كما هو مسجل في ملف القضية:

«الآراء التي يجب حظرها:

أن الشمس ثابتة لا تتحرك في مركز السماءء

وأن الأرض ليست مركز الكونء وأنها غير ثابتة:

وأنها تتحرك بحركة مزدوجة»

ويبدو أن غاليليو استطاع أن ينجو من التوبيخ الشديد وقتهاء وعلى أية حال فقد دعي للمثول أمام كبير الكرادلة بيلارمين وأقنع بعدم التمسك بالنظام الكوبرنيكي والدفاع عنه. وهنالك في الملف ما يشير إلى أن بيلارمين أعطاه رسالة بهذا المعنى؛ على أن هناك في الملف وثيقة - ويا للأسف - تذهب إلى أبعد من ذلك؛ وهي الوثيقة التي اعتمدت عليها المحاكمة يعد سبع عشرة سنة. وفي هذه الأثناء عاد غاليليو إلى فلورنسه مدركا أمرين:

1! 4

رسول إلى النجوم

أولها أن وقت الدفاع عن كوبر نيكوس علانية لم يحن بعد . وثانيهما اعتقاده بأنه سيكون بوسعه نصرة كوبر نيكوس عندما يحين الوقت؛ وكان مصيبا بالنسبة للأمر الأول ولكنه كان مخطنًا بالنسبة للثاني؛ ومهما يكن من أمر فقد انتظر غاليليو الوقت المناسب ولكن متى 5 لقد رأى غاليليو أن الوقت المناسب قد حان عندما انتخب أحد الكرادلة المثقفين لمنصب البابوية: مافيو باربريني. حدث ذلك في عام 1623 عندما أصبح مافيو باربريني البابا أوربان الثامن؛ وكان البابا الجديد محبا للفنون» فقد أحب الموسيقى, وكلف المؤّلف الموسيقي غريغوريو الليغري أمع116ى مترمعء:0 بنظم مقطوعة موسيقية كنسية لتسعة أصوات؛ احتفظ بها الفاتيكان لنفسه مدة طويلة. كما أحب البابا الجديد الهندسة المعمارية» وأراد أن يجعل كنيسة القديس بطرس مركز روماء ولهذا عين النحات المهندس المعماري جيان لورنتزو برنيني ليكمل كنيسة القديس بطرس من الداخل. وقد صمم ببرنيني مظلة طويلة لتوضع فوق كرسي عرش الباباء وهي الإضافة الوحيدة - التي تستحق الذكر - إلى تصميم مايكل انجلو الأصلي. وعندما كان شابا كتب هذا البابا الموقف بعض القصائد الشعرية؛ كانت إحداها خاصة بالثتاء على غاليليو لكتاباته الفلكية. وكان البابا أوربان الثامن يعتبر نفسه مجددا ومبدعاء وكان ذا عقل وثاب لا يصبر على جمود وعلى ثقة من قدرته. وقد كتب يقول باعتزاز وكبر:

«إنني أدرك الأمور أفضل من كل الكرادلة مجتمعين! وان جملة واحدة من بابا حي أكثر قيمة من كل قرارات مائة بابا ميت».

ولكنه اتضح - في الحقيقة - أن باربريني عندما أصبح البابا ظهر رجلا مبالغا وغير مستقرء إذ كان شديد المحاباة والتحيز لأقاريه. مسرفاء مستبداء قلق التفكير؛ متقلب الرأي ! ولا يعير أية أذن صاغية لآراء الآخرين» حتى انه أمر بقتل الطيور التي تملا حدائق الفاتيكان لأنها كانت تزعجه.

وجاء غاليليو متفائلا إلى روما عام 1624: وأجرى ست محادثات مطولة في حدائق الفاتيكان مع البابا الجديد. وكان يأمل بأن يلفي هذا البابا المثقف - أو يغض الطرف على الأقل - الحظر الذي فرضته الكنيسة عام 6 على آراء كوبر نيكوس حول الكون؛ ولكن اتضح أن البابا أوربان الثامن كان يرفض التفكير في ذلك؛ ومع هذا ظل غاليليلو يأمل - وكذلك كان

ارتقاء الانسان

المسؤولون في بلاط البابا يتوقعون - بأن يسمح البابا أوربان الثامن للأفكار العلمية الجديدة بالانسياب بهدوء إلى الكنيسة:؛ إلى أن تحل - دون أن يُلحظ ذلك - عل الأفكار القديمة؛ ولم يكن مثل ذلك بجديد . بهذا الأسلوب نفسه تسربت آراء بطليموس وأرسطو الوثنية وأصبحت جزءا من العقيدة المسيحية. وهكذا ظل غاليليو يعتقد بأن البابا كان إلى جانبه. ضمن الحدود التي يخولها له منصبه؛ إلى أن حان وقت الاختبار. وعندها اتضح أن غاليليو كان مخطأ أعظم الخطأ وأعمقه. وفي الحقيقة كانت وجهات نظرهما منن البداية متعارضة بحيث لم يكن ممكناً التوفيق بينهما فكرياء إذ كان غاليليو يقول دوما بأن البرهان الحقيقي والنهائي لأية نظرية يجب أن يوجد في الطبيعة.

واعفقد أنه في مناقشة المسائل الفيزيائية. لا يجب أن نبدأ من سلطة نصوص ما ورد في التوراة؛ بل من التجارب الحسية والمشاهدات الضرورية... وليس جلال الله وعظمته بأقل جلاء ووضوحا في العمليات الطبيعية مما تبينه العبارات المقدسة في الإنجيل».

وقد اعترض أوربان الثامن على ذلك بالقول بأنه لا يمكن أن يوجد اختبار نهائي مطلق لخلق الله تعالى» وأصر على أن يذكر غاليليو ذلك في كتابه؛ وقال البابا:

«إنه لمن الجرأة المفرطة لأي إنسان أن يحد القدرة والحكمة الإلهية ويقصرها على تخمين خاص من عنده».

وكان هذا الشرط - بصورة خاصة - عزيزا على قلب الباباء ونتيجة لذلك فقد منع ذلك غاليليو من إقرار أية نتيجة محددة (حتى ولو خلص إلى النتيجة السلبية بأن بطليموس كان مخطتا): لأن في ذلك اعتداء على حق الله شي إذارة الكون بالممجزات بدلا من القاتون الطبيعي:

وعان رقع الاختبار عام ١632‏ عندما طبع كالبلين فاده هوا يقول الأنظمة العالمية الكبيرة». فقد غضب - البابا أوريان الثامن غضبا شديداء وكتب إلي سفير جمهورية توسكاني في روما بتاريخ 4 أيلول (سبتمبر) من ذلك العام يقول:

«لقد تجرأ صاحبكم غاليليو على التدخل بأمور لا تعنيه. وكان عليه ألا يتدخل فيهاء وهي أهم المواضيع وأخطرها التي يمكن أن تثار في مثل هذه

36

رسول إلى النجوم

الأيام».

وفي نفس ذلك الشهر أصدر البابا قراره المصيري التالي:

«يكلف قداسة البابا رئيس محكمة التفتيش في فلورنسا بإبلاغ غاليليو باسم قداسته بأن عليه المثول بأسرع ما يمكن خلال شهر تشرين الأول (أكتوبر) أمام السكرتير«العام لمكتب قداسة البابا».

وهكذا سلم البابا - أوربان الثامن - شخصيا صديقه القديم غاليليو إلى السلطة القديمة المختصة بمحاكم التفتيشء والتي كانت أحكامها وإجراءاتها غير قابلة للنقض.

وكانت المحاكمة تجرى فى دير القديسة ماريا سوبرا منيرفا. حيث كانت تعقد محكمة التففيشن الرومانية والعالية المقدسة جلساتها للنظر في قضايا من يشك في ولائهم. وكان قد أنشاً هذه المحكمة البابا بولص الثالث عام 2 ليوقف انتشار مبادئٌ حركة الإصلاح: ولذا خولت صلاحية رسمية لمكافحة الانحطاط نحو الهرطقة في جميع أرجاء الدول التي تدين بالمسيحية, وبعد عام 157١‏ منحت هذه المحكمة سلطة الحكم على الآراء والمبادئ المكتوبة, وبدأت بوضع قائمة بالكتب الممنوعة. وكانت أنظمة الإجراءات صارمة ودقيقة؛ وقد حُوّلت إلى قوانين رسمية عام 1588ء علما بأنها لم تكن أنظمة قضائية للمحاكم, إذ لم يكن لدى السجين نسخة أو علم لا عن التهمة ولا عن الأدلة المتوفرة ضدهء كما لم يكن لديه محام يدافع عنه.

وكان هناك عشرة قضاة في محاكمة غاليليو. جميعهم من الكرادلة وجميعهم من الدومينيكان". وكان أحدهم أخا الباباء والآخر ابن أخيه. وأدار المحاكمة الأمين العام لمحاكم التفتيشء والقاعة التي حوكم فها غاليليو هي الآن جزء من مكتب البريد في روماء ولكننا نعرف كيف كان شكلها عام 3 غرفة لجنة مخيفة في أحد أندية الرجال.

ونعلم بدقة المراحل والخطوات التي وصل بها غاليليو إلى هذا المأزق؛ لقد بدأت أثناء تجواله ونقاشه مع البابا الجديد في حداتق الفاتيكان عام 4.. وكان واضحا أن البايا لن يوافق على الاعتراف علنا بالنظام الكوبرنيكي. لكن غاليليو ظن أن هناك طريقا آخرء وفي العام التالي للقائه مع البابا بدأ غاليليو يكتب بالإيطالية كتاب «حوار حول الأآنظمة العالمية الكبرى». وفي هذا الكتاب يقدم أحد المتحدثين اعتراضات على نظام كوبر

]7

ارتقاء الانسان

نيكوسء فيرد عليه المتحدثان الآخرانء وقد جعلهما غاليليو أذكى من المعترض وأقدر. وذلك لأن نظرية كوبر نيكوس لم تكن واضحة بذاتها . إذ كيف يمكن أن تسبح الكرة الأرضية حول الشمس مرة كل سنة؟ وكيف تدور حول محورها مرة كل يوم؛ دون أن نتطاير من على سطحها ؟ كما أنها لا توضح كيف يمكن أن يسقط وزن ما من برج عال و ينزل عموديا على الأرض التي تدور حول نفسهاء وقد أجاب غاليليو على جميع هذه الاعتراضات التي أثيرت»؛ نيابة عن كوبر نيكوس الذي توفي منذ عهد بعيد. وهنا يجب أن لا يغيب عن ذهننا أن غاليليو قد تحدى كل الكيان الكهنوتي عام 1616: وتحداه أيضا عام 1633 دفاعا عن نظرية ليست نظريته؛ بل نظرية إنسان ميت. لا لشىء سوى أنه اعتقد أنها كانت صحيحة.

كر عاليايو سوم فى الكناب جد التي لامر لقيية <ذنات الإدراك الذي يوضحه لنا علمه منذ أن كان شاباً يافعا في مدينة بيزاء عندما وضع يده لأول مرة على نبضه وهو يراقب (بندول) أو رقاص ساعة يتحرك. ذلك الإدراك بأن القوانين الطبيعية على الأرض تصل إلى نطاق الكون كما تخترق الكرات البلورية. وأن القوى الفاعلة في السماء هي من ذات النوع الفاعل على الأرضء وهذا هو ما يجزم به غاليليو في كتابه. ولذلك فان التجارب الميكانيكية التي نجريها هنا يمكن أن تعطينا معلومات عن النجوم: فبتوجيه منظاره نحو القمر والمشتري والبقع الشمسية وضع غاليليو حدا للاعتقاد الديني السائد آنذاك بأن السماوات كاملة ولا يحدث فيها أي تغييرء وأن الأرض فقط تخضع لقوانين التبدل والتغير.

وقد انتهى غاليليو من تأليف كتابة عام 1630؛ ولم يكن من السهل على غاليليو الحصول على ترخيص بطبعه:؛ ورغم أن الرقابة كانت متعاطفة معه. إلا أنه سرعان ما اتضح أن ثمة قوى هائلة تعارض إصدار الكتاب, على أنه في النهاية جمع غاليليو ما لا يقل عن أربع موافقات على النشرء ونشر الكتاب في أوائل عام 1632 في فلورنسه. ولاقى هذا الكتاب نجاحا فورياء أما بالنسبة لغاليليو فقد كان كارثة فورية أيضا. فعلى الفور أرعدت روما بقوة صارخة: أوقفوا المطابع؛ واستعيدوا جميع النسخ المباعة. ولكن هذه النسخ كانت قد نفدت جميعهاء أما غاليليو فعليه أن يحضر قورا إلى روما ليحاسب على نشره الكتاب. ولم تكن هناك من قوة تستطيع أن تعفيه

رسول إلى النجوم

من ذلك: لا عمره المتقدم (كان في حوالي السبعين من عمره آنذاك) ولا مرضه الحقيقيء ولا رعاية دوق توسكاني الأكبر له: فلم يكن لأي شيء وزن: وكان عليه الحضور إلى روما.

ويبدو أن البابا نفسه كان شديد الامتعاض من الكتاب؛ فقد وجد فيه على الأقل مقطعا واحدا يمثل رأيه الذي أصر على غاليليو أن يذكره؛ ولكنه أورده على لسان الشخص الذي يعطي الانطباع بأنه أبله أو مغفل. وقد أوضحت اللجنة التحضيرية للمحاكمة هذا الأمر بوضوح عندما قالت: بأن الشرط الذي ذكر سابقاء والذي كان عزيزا على البابا. قد وضع على لسان الشخص المدافع عن التراث التقليدي الذي سماه غاليليو «الساذج». ومن المحتمل أن البابا شعر أن هذا الشخص الساذج يرمز إليه بشكل هزلي؛ ومن المؤكد أن البابا شعر بالإهانة المباشرة موجهة إليه. واعتقد البابا أن غاليليو قد خدعه وأن هيئة الرقابة قد خذلته.

وهكذا أحضر غاليليو في ١2‏ نيسان (أبريل) عام 1633 إلي هذه القاعة؛ وجلس مقابل منضدة المحقق؛: وأجاب على الأسئلة التي وجهها اله. وقد وجهت الأسئلة إليه بأدب ولطف في جو فكري كان يسود جلسات محكمة التفتيش. وكانت الأسئلة باللغة اللاتينية وموجهة بصيغة الغائب المفرد: كيف تم إحضاره إلى روما؟ وهل هذا هو كتابه؟ وكيف ولماذا كتبه؟ وماذا في كتابه؟ وقد توقع غاليليو كل هذه الأسئلة. كما توقع أن يدافع عن كتابه؛ ثم فوجئ بسؤال لم يتوقعه أبدا.

المحقق: هل كان في روما عام 1616 على وجه التحديد؛ ولأي هدف5

غاليليو: لقد كنت في روما عام 1616؛ لأنني سمعت بوجود شكوك حول آراء نيكولاس كوبر نيكوسء وقد أتيت بحثا عن وجهات النظر التي يكون من المناسب تبينها.

المحقق: دعوه يقل ما الذي تم إقراره وما الذي أبلغ به آنذاك.

غاليليو: في عام 1616 ذكر لي الكاردينال بيلارمين أن تبني مبدأ كوبر نيكوس كحقيقة ثابتة أمر يناقض التعاليم المقدسة. لذلك لا يمكن التمسك بهذا المبدأ ولا الدفاع عنه. إنما يمكن اعتباره واستعماله كفرضية. وتأكيداً لذلك لدي شهادة بهذا المعنى من الكاردينال بيلارمين مؤرخة في 262 أيار (مايو)16!6.

36

ارتقاء الانسان

المحقق: هل قدم له أي رأي آخر خلال ذلك الوقت من أي إنسان آخرة

غاليليو: لا أتذكر أي شيء آخر بلغ إلي.

المحقق: إذا كان قد ذُكرت له - بحضور شهود - تعليمات توجب عليه عدم التمسك بال مبداً المذكور أو الدفاع عنه؛ أو القيام بتدريسه بأية طريقة مهما كلف الأمرء فليقل لنا فيما إذا كان يذكر ذلك أم لا8

غاليليو: ذكر أن التعليمات التي وردت نصت على وجوب عدم تمسكي أو دفاعي عن المبدأ المذكور أما عن أمر تدريسه أو النظر فيه بأي شكل من الأشكال فهذا ما لم يرد في نص الشهادة التي اعتمد عليها.

المحقق:بعد ما تبين له الأمر السابق. هل حصل على ترخيص بتأليف الكتاب؟

غاليليو:لم أطلب إذنا لتأليف هذا الكتاب, لأنني اعتبرت أن ذلك لا يتعارض مع التعليمات الموجهة إلي.

المحقق:عندما طلب الإذن بطبع الكتاب. هل كشف عن تعليمات المجمع المقدس التي تحدثنا عنها ؟

غاليليو:لم أذكر أي شيء عندما طلبت إذن النشر لأنه لم يرد في الكتاب أي شيء بشأن التمسك بذلك الرأي أو الدفاع عنه.

وبالفعل كان لدى غاليليو وثيقة موقعة تقول بمنعه فقط من تبني نظرية كوبر نيكوس أو الدفاع عنها كحقيقة ثابتة مبرهن عليها. وهذا حظر كان قد فرض على كل كاثوليكي في ذلك الحين. ولكن محكمة التفتيش تدعي بوجود وثيقة تحظر على غاليليو - وغاليليو وحده - تدريس تلك النظرية بأي شكل كان حتى ولا عن طريق المناقشة أو التخمين أو باعتبارها فرضية. ولم يكن على محكمة التفتيش إبراز هذه الوثيقة: لآن ذلك لم يكن جزءا من قواعد الإجراءات في تلك المحاكمة. ولدينا الآن تلك الوثيقة؛ فهي موجودة ضمن الملفات السرية للفاتيكان. ولكنها بوضوح مزورة: أو - على أحسن الاحتمالات - مسودة اقتراح مقدم لاجتماع وقد تم رفضه؛ كما أنها غير موقعة من الكاردينال بيلارمين؛ ولا من الشهود, ولا من الكاتب العدل أو الموثق العام. وهي أخيرا غير موقعة من غاليليو لتبين أنه كان قد استلمها .

والسؤال الذي يخطر بالبال هو: هل كان على محكمة التفتيش أن تنحط إلى استعمال المماحكات القانونية والتلاعب بالعبارات بين «التمسك

1] 10

رسول إلى النجوم

والدفاع» و«التدريس بأي شكل من الأشكال» في وثائق لا يمكن قبولها ضفي أية محكمة قانونية؟ والجواب بالإيجاب. إذ لم يكن ثمة سبيل آخر لإدانة غاليليو. فلقد تم نشر الكتاب. وقبل ذلك أجازه عدة رقباء. وكان بوسع البابا الآن أن يثور ويغضب على هؤلاء الرقباء, كما أنه طرد أمين سره الذي ساعد غاليليو ولكن كان لابد من عمل عرض للجمهور لإظهار أن الكتاب تجب إدانته. (ظل على قائمة الكتب المحظورة مدة مائتي عام). وكانت حجة الإدانة أن غاليليو مارس بعض الغشن والخداع: ولهذا السبب تحاشت المحكمة البحث في مادة الكتاب أو مادة النظام الكوبر نيكي؛ وانكبت - بدلا من ذلك - على التلاعب بالصيغ القانونية والوثائق. وكان الهدف من ذلك إظهار غاليليو بمظهر الشخص المخادع الذي غش الرقابة؛ والذي تصرف ليس فقط بتحد وإنما أيضا بشكل غير شريف. ولم تجتمع هيئّة المحكمة مرة أخرىء فقد أنهت المحاكمة هناء وهذا ما يدهشنا. ويمكن القول إن غاليليو أحضر مرة أو مرتين بعد ذلك إلى هذه القاعة. وسمح له بأن يدافع عن نفسه؛ ولكن لم يوجه أحد إليه أي سؤال. أما الحكم فقد صدر عن اجتماع مجمع الكرادلة الخاص يشكون منتضب: البابا وتراسة البايا بتقمية .وقد حدد الحكم بشكل دقيق لا نقض له (وكانة حكم مطاق) ها يجب أن يعمل: يجب أن يهان ويذل ذلك العالم المنشق؛ ويجب أن تظهر السلطة كبيرة ليس بالعمل قط بل وفي المقصد أيضا. ويجب على غاليليو أن يسحب أقواله ويخطى آراءه؛ فإذا رفض فيجب أن يعذب بعد أن يرى وسائل التعذيب وأجهزته. ويمكن أن يحكم على ما عناه ذلك التهديد لرجل بدأ حياته كطبيب؛ من شهادة لأحد معاصريه كان قد عذب بجهاز شد الجسم ولكنه نجا من الموت. وكان ذلك الرجل هو وليام ليثفو. وهو إنجليزي تعرض للتعذيب بهذه الآلة سنة 1620 على يد محاكم التفتيش الأسبانية:

«بعد ما أحضرت إلى غرقة التعذيب» وضعت فوق جهاز الشد, ومّدّت رجلاي خلال جانبي الجهاز. وربط حبل حول كاحلي. وعندما التوت الروافع إلى الأمام اصطدمت ركبتاي 5 فوة بلوحي الجهاز وأدى ذلك إلى تمزق أوتار عضلات الفخذين: كما تهشمت عظمتا غطاء الركبتين. عندئنذ جحظت مني العينان وامتلاً فمي بالزيد. واصطكت أسناني بشدة. وكانت شفتاي ترتجفان: وأنيني يشتد بينما كان الدم ينفر من ذراعي وأوتار عضلاتي

لملا

ارتقاء الانسان

الممزقة و يدي وركبتي؛ وعندما خففت عني أسباب الألم هذه رميت على الأرض و يداي مغلولتان؛ وكانت أصوات المنفذين تلح علي بالقول: اعترف! اعترف

لم يُعدّب غاليليوء بل هُدّد بالتعذيب مرتين؛ وترك لمخيلته أن تفعل الباقي وكان ذلك هدف المحاكمة. أي أن يتبين للرجال ذوي الخيال أنهم ليسوا فوق عملية الخوف الحيواني البداتي التي لا تنعكس. وكانت النتيجة أن وافق غاليليو على التراجع وسحب كل ما قال:

«أنا الموقع أدناه غاليليو غاليلي بن المرحوم فنسنزو غاليلي؛ من فلورنسه. والبالغ من العمر سبعين عاماء الماثل شخصيا أمام هذه المحكمة أركع أمامكم يا أصحاب الغبطة والإجلال السادة الكرادلة أعضاء محكمة التفتيش ضد الانحطاط المرتد في جميع أرجاء الجمهورية المسيحية؛ وأقسم وأنا أنظر بعيني إلى الكتاب المقدس والمسه بيدي أنني كنت أؤّمن دائماً وأؤمن الآن وساظل يدوق اللهامويها هى الستهبل يكل تماليم الكتاب القدنى وما يفل به ويعلمه وفق مذهب الكنيسة الكاتوليكية المقدسة,؛ والكنيسة الرومانية الحوارية. ولكنني - رغم تسلمي أمرا من قداسة البابا مفاده أن أتخلى كليا عن الراي الغاذب القاكل بان الشمس مركو الكون واثها خين متصركة وآن الأرض متحركة وليست مركز الكون؛ وأن علي أن لا أتمسك بهذه العقيدة أو أدافع عنها أو أعلمها بأية طريقة كانت مشافهة أو كتابة؛ وبعد أن علمت أن العقيدة المذكورة مخالفة لما جاء في الإنجيل المقدس - قمت بتأليف كتاب وطباعته وفيه بحثت في هذه العقيدة المدانة. ذكرت فيه حججا قوية لإثباتها دون تقديم أي حل صحيح: ولهذا السبب اتهمني مكتب قداسة البابا بأن هناك اشتباها قويا بأنني مرتد كافر. وذلك لأنني تبنيت رأيا يقوم على الاعتقاد بأن الشمس ثابتة وهي مركز العالم» وأن الآأرض متحركة وليست مركزا لهذا العالم.

«بناء عليه ولآنني راغب في أن أزيل من تفكيركم يا أصحاب القداسة والغبطة ومن عقول جميع المسيحيين المؤمنين ذلك الشك القوي الذي تتصورونه بحق ضديء وبقلب مخلص وإيمان صادق أرفض وألعن وأحتقر الأخطاء والهرطقات السالقة الذكر وبشكل عام كل خطأ آخر أو أية طائفة أيا كانت إذا كانت مضادة للكنيسة المقدسة؛ وأقسم بأنني لن أذكر أو أؤكد

1 2

رسول إلى النجوم

في المستقبل شفهيا أو تحريريا أي شيء يمكن أن يؤدي إلى احتمال حصول شبهة مماثلة نحويء كما أعد بأن أبلغ مكتب قداسة البابا أو محكمة التفتيش أو المحاكم العادية في مكان إقامتي عن أي شخص يشتبه في ارتداده وهرطقته».

وفوق ذلك أقسم وأعد أن أنفذ بشكل كامل ودقيق كل العقوبات الدينية التي فرضها أو سيفرضها مكتب قداسته علي. وفي حال نكوصي (لا سمح الله) عن أي من هذه الوعود والاعترافات وما أقسمت عليه فإنني اقدم نفسي طواعية لكل الآلام والعقوبات التي فرضتها وأعلنتها التعليمات الكنسية المقدسة والدساتير الأخرى العامة والخاصة ضد من يقترف مثل هذا الإثم؛ - فليساعدني الله وهذا الإنجيل المقدس الذي ألمسه بيدي. أنا المدعو غاليليو غاليلي قد اعترفت بأخطائي وأقسمت ووعدت وتعهدت كما هو في أعلاه. وشهادة بصدق ذلك قد كتبت بخط يدي هذه الوثيقة المتعلقة بإعلان تنصلي من تلك الآثام وتلوتها كلمة كلمة في روماء دير منيرفا في هذا اليوم الثاني والعشرين من شهر (يونيو) حزيران عام 1633.

«أنا غاليليو غاليلي قد اعترفت بأخطائي علانية كما في أعلاه ودونتها بيدي».

وقد وُضع غاليليو بقية حياته رهن الإقامة الجبرية المشددة في منزله الكائن في أركيتري التي تبعد بعض الشيء عن فلورنسه. وظل البابا صلبا في موقفه لا يلين ولا يخفف من غلوائه فلم يسمح بنشر أي شيء.؛ أو بمناقشة عقيدة كوبر نيكوس المحظورة: كما منع غاليليو حتى من التحدث مع البروتستانت. وهكذا كانت النتيجة أن كمت أفواه العلماء الكاثوليك في كل مكان منذ ذلك الحين. وتوقف معاصر غاليليو رينيه ديكارت عن النشر في فرنسا حتى ذهب في النهاية إلى السويد . وصمم غاليليو على القيام بعمل أخيرء فقد أراد إتمام الكتاب الذي بدأه قبل المحاكمة ولم يكمله بسببهاء وهو كتاب عن «العلوم الجديدة» التي عنى بها الفيزياء لا الفيزياء في النجوم: بل الفيزياء المختصة بالمادة هنا على الأرض. وقد انتهى منه عام 1636؛ أي بعد مضي ثلاث سنوات على المحاكمة؛ وكان قد بلغ من العمر عندئن الثانية والسبعين. وبالطبع لم يستطع نشره؛ إلى أن طبعه بعض البروتستانت بعد مضي عامين في بلدة ليدن بهو لنده. وضي ذلك الوقت كان

|] 05

ارتقاء الانسان

غاليليو قد فقّد بصره كلياء فكتب عن نفسه إلى أحد أصدقائته: دوا أسفاه... لقد أصبح غاليليو صديقك وخادمك المخلص - منذ شهر - كفيف البصر كليا بشكل لا يرجى شفاؤه. بحيث إن هذه السماء وهذه الأرض وهذا الكون؛ التي كبرتها بمشاهداتي الرائعة وعروضي الواضحة مئة مرة لا بل ألف مرة فوق الحدود المقبولة عالميا من الرجال العلماء في العصور السابقة, قد تقلصت الآن وانكمشت بالنسبة لي إلى حجم ضيق يساوي الحجم الذي تملؤه أحاسيس جسمي الخاصة».

وكان من بين هؤلاء الذين قدموا لزيارة غاليليو في أركيتري الشاعر الإنكليزي الشاب جون ميلتون: الذي كان يحضر عمله الخالد في حياته. وهو ملحمة شعرية كان قد خطط لهاء ومن سخرية القدر أنه عندما كتب ميلتون ملحمته الشعرية العظيمة بعد ثلاثين عاماً كان قد أصبح ميلتون أعمى؛ واعتمد على أولاده من اجل إتمام تلك الملحمة الشعرية. وفي أواخر حياته. شبه ميلتون نفسه بشمشون الأغونسطي أي شمشون بين الفلسطينيين «كفيف في غزة.. أعمل في الطاحونة مع العبيد» وكما هو معروف فقد انهارت إمبراطورية الفلسطينيين القديمة لحظة موت شمشون. وهذا تماما ما فعله غاليليو رغما عنه. فلقد كانت نتيجة المحاكمة والإقامة الجبرية التي فرضت عليه؛ توقف النشاط العلمي في حوض البحر الأبيض المتوسط نوكتا ثاماء ويدءا من كلك الفخرة فصباعدا انتغلت الكورة العلمية إلق شما أوربا. ومات غاليليو. وهولا يزال سجينا في بيته؛ عام 1642 . وفي يوم عيد الميلاد من ذلك العام نفسه ولد اسحق نيوتن في إنجلترا .

114

رسول إلى النجوم

الهو امش

)١(‏ استعملت كلمة دهنادعدم2:0 فى مهمة المؤسسة بمعنى النشر ومنها اشتقت كلمة 2لسدعدممم بمعنى الدعاية. ذا حرم إحدى اشرق العاتركية قرم اكرايها بالفتشير والامسشجداء,

1 75

ألكون كساعة معسه الاضظام

عندما كتب غاليليو الصفحات الأولى من كتابه «حوار حول الأنظمة العالمية الكبيرة» حوالي عام 0 ذكر مرتين أن هناك خطرا في أن يسبق علم الفاضنين الشماليين (اتعازتيم) + علم الايطاتيين (وتجارتهم) وكم كانت نبوءته صحيحة . والعالم الذي عناه غاليايويذلك اكخرمى غيره هو الفلكي يوهانس كبلر الذي جاء إلى مدينة براغ عام 600)| وهو في الثامنة والعشرين من عمره ليمضي معظم سنواته الخلاقة هناك. فقد وضع كبلر القوانين الثلاثة التي حولت نظام كوبر نيكوس من وصف للشمس والكواكب بشكل عام إلى معادلة رياضية دفيقة.

بك كرلره أولات سور الوكرعي ليس داريا تماماً: بل إنه عبارة عن قطع ناقص عريض وفيه كوع الشسن مده كلياذ عن ترك أي ]انها في إحدى بؤرتيه؛ وأوضح ثانيا أن الكوكب لا يجري يغطى بها الخط الواصل بين الكوكب والشمس المساحة الواقعة بين مداره وبينها . وثالثا برهن كبلر على أن الزمن الذي يستغرقه دوران كوكب ما لإتمام

17

ارتقاء الانسان

مداره - أي سنته - يزداد بازدياد معدل بعده (مسافته) عن الشمسء بطريقة محدودة ودقيقة تماما.

هكذا كانت حالة العلم عندما ولد اسحق نيوتن يوم عيد الميلاد من عام 2. وكان كبلر قد توفي قبل ذلك باثنتي عشرة سنة, بينما توفى غاليليو في السنة ذاتهاء ولم يكن هذا التاريخ نقطة تحول بالنسبة للفلك فقط بل بالنسبة كل العلوم: فقد شهدت تلك السنة ولادة عقل جديد حقق الانتقال الحاسم من المرحلة الوصفية؛ التي أدت دورها في الماضيء إلى المرحلة الديتامركية مترجلة تعليل الاستقيل وتفسيزه سيييا :

وبحلول عام 1650 تحول مركز ثقل العالم المتحضر من إيطاليا إلى أوربا الشمالية: والسبب الواضح لذلك أن طرق العالم التجارية قد تغيرت منذ اكتشاف أمريكا واستغلالها فلم يعد البحر الأبيض المتوسط مركز أو وسط العالم كما يعنيه اسمه؛ إذ انتقل وسط العالم كما حذر غاليليو إلى حافة المحيط الأطلسي. ومع حلول أنماط تجارية جديدة ظهرت تطلعات وأفكار سياسية محتلفة؛ بينما كانت إيطاليا ودول البحر الآبيض المتوسط لا تزال ترزح تحت الحكم الفردي.

وهكذا تطورت قدما أفكار ومبادئ جديدة عند الآمم البروتستانتية البحرية فى الشمال مثل إنكلترا والأراضى المنخفضة:؛ وكانت إنكلترا فى تلك الفخرة تنجه تحو الجمهورية والبروتستانتية ذات التزعة النقية. ا

وجاء الهولنديون عبر بحر الشمال لتجفيف المستنقعات الإنكليزية؛ وبذا أضحت تلك المستنقعات أراضي صلبة؛ ونمت روح استقلالية في أراضي لنكولنشاير المنبسطة نحو الأفق ووسط ضبابهاء حيث جِنَّد أوليفر كرومويل فرسانه المتمرسين بالحربء وفي عام 1650 أصبحت إنكلترا جمهورية بعد أن قطعت رأس ملكها الذي كان يجلس على العرش آنذاك.

وعندما ولد نيوتون في بيت أمه في وولز ثورب عام 1642؛ كان أبوه قد توفي قبل ذلك بعدة أشهرء وبعد فترة وجيزة تزوجت والدته مرة ثانية, وثّرك نيوتون في رعاية جدته؛ ورغم أنه لم يكن محروما من بيت يأوي إليه بالمعنى الدقيقء إلا أنه عاش - منن ذلك الحين - دون حنان الوالدين. وكان طوال جياتة يعطي الانطباع بأنه لم يكن محبوياء ولم يتزوج أبداء ولم يبند عليه قط أنه كان قادراً على الانفتاح على الصداقة والمحبة اللتين تجعلان

1 8

الكون كساعه مهيبه الانتظام

النجاح والإنجاز نتاجاً طبيعياً للفكر الذي تشحذه رفقة الناس وصداقتهم, بل على العكس من ذلك كانت إنجازات نيوتن فردية حققها بنفسه وحده في عزلة تامة؛ وكان نيوتن يخشى دائما أن يسلبه الآخرون هذه الإنجازات كما سلبوه (حسبما كان يتصور) أمه. وليس لدينا علم عنه عندما كان طالبا في المدرسة أو في الجامعة.

وكانت السنتان اللتان تلتا تخرج نيوتون من جامعة كامبردج 1665 - 6! سنتي طاعون. ولذلك قضى نيوتون وقته في البيت في الأيام التي أغلقت فيها الجامعة أبوابها (بسبب الطاعون). وفي تلك الأثناء ترملت والدته مرة ثانية وعادت إلى وولز ثورب. وهنا وجد نيوتنء «كنزه:< الرياضيات. والآن؛ وبعد الاطلاع على كل أوراقه. نجد من الواضح أن نيوتن لم يكن قد كلوجيداء وا نه توصل إلى ترهنة ما غرف من وناضيات بنفسه.؛ ثم انطلق من ذلك إلى تحقيق كشف أصيلء فقد ابتدع فكرة معدل دفق التغير المستمر في الرياضيات؛ وهو ما يسمى اليوم بحساب التفاضل والتكامل: وقد احتفظ نيوتن بهذا الاكتشاف لنفسه واستخدمه فى الوصول إلى نتاكجه وتكنه كان يكفب تلك التتاكي بالرياضيات التقليدية "

وفي هذه الفترة أيضا تبلورت في ذهن نيوتن فكرة الجاذبية الكونية, واختبرها في الحال بحساب حركة القمر حول الأرضء وكان القمر رمزا قويا بالنسبة لنيوتن وكان تسلسل فكره كالتالي: إذا كان القمر يتبع مداره خول الآرض بسنب جاذبيتها له؛ قللابد آن القمر يشيه الكرة (أو التفاحة) التي قذفت بعنف؛ فالقمر يسقط نحو الأرض باستمرار ولكنه يدور بسرعة فائقة لدرجة تمنع سقوطه نحوهاء وهكذا يستمر القمر في الدوران حول الأرض لأنها كروية فكم يجب أن تكون قوة جذبهاة.

«لقد استنتجت أن القوى التي تُبقي الكواكب ضمن مداراتها يجب أن تتناسب 5 مع مربع المسافة 59 وبين المراكز التي تدور حولهاء وعلى هذا الأساس قارنت القوة اللازمة لإبقاء القمر في مداره بقوة الجاذبية على سطح الأرضء فوجدت أن هاتين القوتين تتفقان مع النتيجة السابقة إلى حد كبيين».

وهذه العبارة المتسمة بالتواضع وعدم الكبر من صفات نيوتن المميزة, ولقد أعطت حساباته المبدثية التقريبية الأولى مدة دورة القمر بشكل قريب

1] 0

ارتقاء الانسان

جدا من القيمة الحقيقية: حوالي 25 ر27 يوما.

وعندما تتطابق الأرقام وتتفق مع الواقع بهذا الشكلء تدرك كما أدرك فيثاغورس من قبلء: أن سرا من أسرار الطبيعة بات في راحة يدك؛ أي أن قانونا كونيا يحكم نظام الكون وكأنه ساعة مهيبة الانتظام؛ وما حركة القمر فيه سوى حدث متناسق في ذلك النظام. إن هذا القانون أشبه بالمفتاح الذي يوضع في قفل الطبيعة ويدار فإذا بالطبيعة تنفتح وتخرج في صورة عددية مفصحة عن أسرار بنيتها وتكوينها. ولكنك لو كنت نيوتن فانك لا تنشر ذلك.

وعندما عاد نيوتن إلى كامبردج عام 1667 عين أستاذا زميلا في كليته ترينيتي؛ وبعد عامين استقال أستاذه من أستاذية الرياضيات وربما لم تكن الاستقالة قد تمت بهدف خدمة نيوتن: كما كان يظنء ولكن النتيجة كانت نفس الشيء. إذ غُيّن نيوتن مكانه. وكان حينذاك في السادسة والعشرين من عمره.

ونشر نيوتن أول أعماله في علم البصريات. وكان هذا فكريا كبقية أعمال فكره العظيمة: إذ أنه كما قال «خلال عامي وباء الطاعون 1665 و 6 كنت في أوج عمري المنتج في مجال الابتكار والاختراع». وفي تلك الأثناء لم يكن نيوتن في بيته. بل عاد إلى كلية ترينيتي لفترة وجيزة عندما كان الطاعون في حالة انحسار.

ومن الغريب أن نجد أن الإنسان الذي نعتبره سيد التعليل والتفسير في أمور الكون المادية قد بدأ بالتفكير في الضوءء وثمة سببان لذلك؛ الأول أن إنجلترا كانك هالم يعان تغلت فيه عل النشول النجزة يكل المشكلات الت نجمت عن الرحلات البحرية. ولم يعتبر الرجال - أمثال نيوتون - أنفسهم أنهم بذلك إنما يقومون بأبحاث تقنية إذ أن ذلك تعليل بالغ السذاجة لاهتمامهم. فواقع الأمر أن الموضوعات التي كان كبار السن من معاصريهم يتجادلون حولها قد جذبتهم: كما هو الحال عند الشباب دائما . وكان المنظار المقرب (التلسكوب) المشكلة البارزة في ذلك العصرء والحقيقة أن نيوتن وعى أول مرة مسألة الألوان الموجودة في الضوء الأبيض بينما كان يصقل عدسات لمنظاره.

إلا أن هناك بالطبع تحت السطح سببا أساسيا اكثر أهمية: وهو أن

الكون كساعه مهيبه الانتظام

الظاهرة الطبيعية تتكوّن دوما من تفاعل الطاقة مع المادة» فنحن نرى المادة بواسطة الضوءء كما نحس بوجود الضوء عن طريق وجود المادة في طريقه. وهذه الفكرة تكوّن عالّم كل فيزيائي عظيم يجد أنه لا يستطيع تعميق فهمه لأي منهما دون فهم الآخر.

ففي عام 1666 بدأ نيوتن بالتفكير في سبب ظهور ألوان متداخلة على حواف العدسات. وأخذ ينظر في هذه الظاهرة بإحداثها بمنشور زجاجي. ذلك أن في كل عدسة - عند كل حافة من حوافها - منشوراً صغيراً. وبالطبع كانت الحقيقة بأن المنشور يعطي ألوانا أمرا معروفا للجميع منذ أرسطو على أقل تقدير وكذلك كان - للأسف - تفسيرها الخاطيٌ الذي كان سائداً حتى ذلك الوقت؛ ويرجع السبب في ذلك إلى أنهم لم يقوموا بأي تحليل ذي مستوىء فقد قالوا بكل بساطة إن الضوء الأبيض يمر عبر الزجاج؛ فيغمق قليلا عند الحافة الرقيقة وبذا يصبح أحمر اللون» ويصبح اكثر غمقا عندما يمر عبر زجاج اكثر سمكا فيصبح أخضر.ء ثم يصبح قاتما إذا مر بزجاج أشد سمكا فيصبح أزرق اللون. شيء عجيب !! ذلك أن كل هذا الشرح لا يفسر شيئاً البتة» مع أنه يبدو معقولاء والشيء الواضح الذي لا يفسره هذا الشرح - كما أشار نيوتن - ظهر للعيان لحظة امراره ضوء الشمس خلال فتحة ضيقة ثم امراره عبر منشوره. وهذا الأمر هو التالي: إن أشعة الشمس تدخل المنشور كقرص دائريء لكنها تخرج منه بشكل ممتد . وكان كل إنسان يعلم أن الطيف ممتدء. وقد كان ذلك معروقا منذ ألف عام بشكل ما لأولئك الذين كانوا مهتمين بالموضوع. ولكن الأمر يحتاج إلى عقل قوي كعقل نيوتن ليجهد نفسه في تفسير ما هو واضح. وبالفعل فقد ذكر نيوتون أن الأمر الواضح هنا هو أن الضوء لا يتحول من لون لآخر بل ينفصل طبيعيا للأجزاء المؤلفة له !.

إن هذه الفكرة جديدة تماما في التعليل العلمي» وغير واردة بتاتا بالنسبة لمعاصريه؛ وقد تجادل معه في هذا روبرت هوك وكل الفيزيائيين الآخرين؛ إلى أن ضجر نيوتن من كل هذه المناقشات فكتب إلى لايبنتز يقول:

«لقد اضطهدت بال مناقشات التي أثارها نشر نظريتي عن الضوء؛ لدرجة أنني أخذت ألوم نفسي لقلة حرصي وتبصري بالنتائج عندما أقدمت على ترك الهدوء الذي كنت أنعم به جريا وراء أشباح».

و8

ارتقاء الانسان

ومنذ ذلك الحين رفض نيوتون فعلا أن تكون له أية صلة بالمجادلة والمناظرة؛ و بخاصة مع مناظرين من أمثال هوك ورفض أن ينشر كتابه عن علم البصريات حتى عام 1704, أي بعد وفاة هوك بسنة كاملة؛ ولكنه حذر رئيس الجمعية الملكية بقوله: -

«لقد عقدت النية على أل أشغل نفسي بعد الآن بالأمور الفلسفية, ولذلك آمل ألا تعتبرني مسيئًا إذا وجدت أنني لن أعود لمثل ذلك بعد الآن».

ولكن دعونا نبداً من البداية؛ بكلمات نيوتون نفسه؛ التي دورا عام 1666 :

«حصلت على منشور زجاجي مثلث الشكلء كي أجري بواسطته تجارب حول ظاهرة الألوان المشهورة. ولذلك جعلت غرفتي مظلمة,. ثم فتحت ثقبا صغيرا في ستارة نافذتي كي تدخل كمية ملائمة من ضوء الشمس. ثم وضعت المنشور عند مدخل الضوء بحيث ينكسر إلى الجدار المقابل» وكانت في البداية تسلية ممتعة: أن أشاهد الألوان الناتجة حية وقوية؛ ولكن بعد أن أمضيت فترة أراقب هذه الألوان وأفكر فيها بدقة وإمعان دهشت عندما لاحظت أنها اقرب إلى الشكل الأسطواني منها إلى الشكل الدائري الذي توقعته حسب ما وصل إلينا من قوانين الانكسار.»

«ولاحظت أيضا أن الضوء القريب من إحدى نهايتي انكساره ينكسر بشكل أشد من الضوء القريب من النهاية الأخرىء وهكذا كان السبب الحقيقي في استطالة شكل انكسار الضوء يكمن في أن الضوء يتألف من أشعة قابليتها للانكسار متباينة: وتظهر على أقسام مختلفة من الجدار وفق درجة انكسارهاء بغض النظر عن زاوية سقوطها على المنشور».

وهكذا تمكن نيوتن من تفسير سبب استطالة الطيف. إذ يعود ذلك إلى انفصال الألوان المؤلفة له وتباعدها عن بعضها. فالآزرق ينثني أو ينكسر بقدر أكثر من الأحمرء وتلك خاصة مطلقة لكل لون.

«بعد ذلك؛ وضعت منشورا آخر, بحيث يمر الضوء خلاله أيضاء وينكسر مرة ثانية قبل وصوله إلى الجدار. ثم أخذت المنشور الأول بيدي وأدرته ببطء جيئة وذهابا حول محوره بشكل جعل أجزاء الطيف تمر تباعا خلال المنشور الثاني ورحت أراقب على الحائط أين سيكسر المنشور الثاني هذه الأجزاء. وقد وجدت أنه عندما ينفصل أي من هذه الألوان عن بقية الأشعة (المؤلفة للضوء الأبيض) فانه يحتفظ بلونه (أي يبقى منفصلا)؛: رغم كل

الكون كساعه مهيبه الانتظام

المحاولات والجهود التي قمت بها لتغييره».

وبذلك هزمت وجهة النظر التقليدية هزيمة نكراءء لأنه إذا كان الضوء يتغير لمجرد عبوره زجاج المنشور؛ وجب على المنشور الثاني أن يعطي ألوانا جديدة: كأن يقلب الأحمر إلى أخضر أو أزرق مثلا. وقد دعا نيوتن هذه التجربة بالحاسمة؛ لأنها برهنت على أن ألوان الطيف بعد أن تنفصل عن بعضها بواسطة الانكسار لا يمكن أن تتغير بعد ذلك أبدا .

«لقد جعلت الضوء ينكسر بالمناشير الزجاجية؛ ثم عكست به أجساما لها ألوان مختلفة في ضوء النهار. واعترضت طريقه بطبقة هوائية ملونة محصورة بين صفيحتين زجاجيتين؛ وأمررته بعد ذلك عبر أوساط ملونة. وكذلك عبر أوساط أخرى أنيرت بأنواع أخرى من الأشعة؛ وأنهيت التجربة عدة مرات بأشكال مختلفة: ولم استطع إنتاج لون جديد من أي من هذه العمليات.

بيد أن التركيب الأكثر غرابة والأشد روعة هو تركيب الضوء الآأبيض؛ فليس ثمة نوع وحيد من الأشعة يستطيع وحده أن يعطي ذلك اللون: فالضوء الأبيض ضوء مركب يتألف من كل ألوان الطيف ممزوجة بنسب معينة, وكثيرا ما شاهدت بإعجاب كيف أنه إذا ما تلاقت ألوان الطيف في نقطة واحدة امتزجت وأنتجت ضوءا كامل البياض. ولذا فمن الواضح أن البياض هو اللون العادي للضوء ذلك أن الضوء العادي مجموعة أشعة مختلطة مفعمة بكل أنواع الألوان التي تنعكس متمازجة عن الأقسام المختلفة من الأجسام المضيئة.

وكانت هذه الرسالة قد كتبت للجمعية الملكية: بُعيد انتخاب نيوتن زميلا بها عام 1672 وكان آنذاك في الثلاثين من عمره. وكان قد برهن على أنه عالم تجريبي من نوع جديدء عالم يفهم كيف يضع النظرية وكيف يثبتها بشكل قاطع في وجود البدائل الأخرى. وكان نيوتن فخورا بمنجزاته.

«قلما يتوقع العالم الطبيعي أن يرى علم الألوان وقد أصبح في قالب رياضيء ورغم ذلك أتجرأ على الجزم بأن في علم الآلوان من الدقة والتأكيد ما في أي جزء آخر من علم البصريات».

وكان نيوتن قد بدأ يكتسب سمعة وشهرة في لندن كشهرته في الجامعة (كامبردج).: و يبدو أن الشعور باللون بدأ ينتشر في عالم «العاصمة», كما لو

ارتقاء الانسان

أن الطيف قد نشر ألوانه على الحرير والتوابل التي كان التجار يحضرونها إلى العاصمة.

وهكذا بدأت اللوحة التي يمزج عليها الرسامون ألوانهم تصبح اكثر تنوعاء وعم ذوق يميل نحو الأشياء ذات الألوان الصارخة المستوردة من الشرقء كما أصبح من الشائع استخدام العديد من الكلمات الدالة على الآلوان.

ويتضح ذلك من خلال شعر تلك المرحلة؛ فقد كان الشاعر الكسندر بوب في السادسة عشرة من عمره عندما نشر نيوتون كتابه عن البصريات؛ ومع أن صوره الحسية كانت أقل من صور شكسبيرء إلا أنه استخدم كلمات لونية أكثر بثلاث أو أربع مرات مما استعمل شكسبير وكرر استعمالها عشر مرات اكثر منه. فمثلا نجد الكسندر بوب في قصيدته التي يصف فيها السمك في نهر التايمز يستعمل في خمسة أبيات فقط كلمات وعبارات مثل: المتألق والمصبوغ بصباغ آت من مدينة صورء والفضي. والمشع؛ والأصفرء والذهبي وأخيرا القرمزي. ولا يمكن تفسير هذا الأمر إذا لم نفهمه على أنه تدريب (شعري) بالآلوان.

وقد نجم عن شهرة نيوتن في العاصمة لندن مناظرات ومناقشات مضادة جديدة. فقد كان يكتب نتائج أبحاثه بشكل مختصر في رسائله إلى علماء لندن الذين كانوا يعلقون عليها بكلمات نقد حادة وغاضبة.. وكان ذلك السبيل الذي أدى إلى بدء نزاع طويل مرير بينه وبين جوتفريد لايبنتز بعد عام 1676 حول من كانت له الأسبقية في رياضيات التفاضل والتكامل؛ ذلك أن نيوتن لم يقتنع قط بأن لايبنتزء رغم أنه كان رياضيا متينا في مادته؛ قد توصل إلى عقل مفهوم التفاضل والتكامل وحده وبشكل مستقل (أي دون إيحاء أو مساعدة من أحد).

ونتيجة ذلك فكر نيوتن بترك العلم واللجوء إلى حمى كلية ترينيتي؛ التي كانت تعطي العالم الأستاذ مكانا رحبا وظروف معيشة مربحة. فقد كان لنيوتن مختبره الصغير الخاص به وحديقته الخاصة.. وكان المهندس كريستوفر رن يشيد في تلك الأثناء مكتبة عظيمة في فناء تلك الكلية؛ وقد تبرع نيوتن بمبلغ أربعين جنيها لذلك المشروع؛ وكان يبدو كما لو أنه أخذ يتطلع نحو حياة التدريس وتكريس بقية أوقاته للدراسات الخاصة؛ ولكن

54

الكون كساعه مهيبه الانتظام

القوم لم يتركوه وشأنه؛ فإذا كان قد رفض أن يجادل ويشارك في مناقشات علماء لندن فقد جاءوا هم إلى كامبردج: لمناقشته ومقارعته بحججهم.

وكان نيوتن قد أخن يبلور فكرة وجود جاذبية عامة شاملة أثناء سنة الطاعون (1666) واستعملها بنجاح كبير في تلك الفترة في وصف حركة القمر حول الأرض. ومن الغريب أن تنقضي فترة تقرب من عشرين عاما بعد ذلك دون أن يقوم نيوتن بأية محاولة لنشر أي شيء عن المعضلة الكبرى, وهي حركة الأرض حول الشمسء وليس هنالك أي شيء مؤكد عن العقبة التي حالت دون ذلك. بيد أن الحقائق واضحة:؛ ففي عام ١684‏ جرت مناقشة بين المهندس السير كريستوفر رن وروبرت هوك وعالم الفلك الشاب ادموند هالي. كان من نتيجتها أن جاء هالي إلى كامبردج ليجتمع بنيوتن.

«بعدما أمضيا معا بعض الوقت طرح الدكتور هالي على نيوتن سؤالا حول شكل المسار الذي ستتخذه الكواكب في حركتها حول الشمسء على فرض أن قوة الجاذبية نحوها تتناسب عكسيا مع مربع المسافة بينها وبين الكواكب. فأجاب السير اسحق على الفور بان المدار سيكون اهليلجيا أي له شكل القطع الناقص. فسأله الدكتور هالي والفرحة والدهشة تغمرانه عن كيفية معرفته ذلك؟ قال نيوتن: كيف؟ لقد حسبت ذلك. وعندها طلب الدكتور هالي الاطلاع على هذه الحسابات: فبحث السير اسحق بين أوراقه. بيد أنه لم يستطع أن يجد أوراق الحسابات: فوعده بأن يعيد الحسابات من جديد ويرسلها إليه.»

واستغرق الأمر ثلاث سنوات؛ من 1684 إلى 1687: حتى أتم نيوتن كتابة برهانه مرة أخرىء ولكن البرهان جاء طويلا - بطول كتاب «المبادىّ «13مأعمتءط». وقد بذل هالي الكثير من الجهود في سبيل نشر ذلك الكتاب,» حتى أنه مول عملية النشرء كان أن صموئيل بيبس قبل الكتاب كرئيس للجمعية الملكية عام 1687.

وبالطبع كانت تلك النظرية - كنظام للعالم - مثيرة منذ لحظة نشرهاء ذلك أنها تقدم وصفا رائعا للعالم كجزء متناسق ضمن مجموعة واحدة من القوانين» والأهم من ذلك أن هذه النظرية كانت علامة بارزة تشير إلى منعطف هام في الأسلوب العلمي؛ فقد كنا نظن العلم سلسلة من الفرضيات, الواحدة تلو الأخرى. مستمدة من رياضيات اقليدسء وهكذا كان العلم,

ارتقاء الانسان

ولكن الأسلوب العلمي الحديث لم يبدأ حقا في أن يكون دقيقا دقة شديدة إلا عندما أتى نيوتن وحول ذلك الأسلوب العلمي إلى نظام فيزيائي عن طريق تحويل الرياضيات من الوصف الساكن إلى الوصف الديناميكي المتحرك. ا

ونستطيع أن نرى في الكتاب أين كانت بالفعل العقبات التي أعاقت نيوتن عن تكملة برهانه عن الشمس وبقية الكواكب؛ بعد أن نجح في وضع مدار القمر بشكل رياضيء فعلى سبيل المثال: لدي قناعة بأن العقبة كانت في آن نيوتن لميستطع حل الشكلة التى.وردت. في القسم +3 .- .من الكتاب, المتعلقة بمعرفة كيفية حساب التجاذب بين كرة وجسيم (نقطة مادية). ذلك أنه عندما كان في وولز ثورب افترض أن الآأرض والقمر جسيمان أو نقطتان ماديتان: وقام بحساب تقريبي على هذا الآأساس.

ولكنهما في الواقع كرتان كبيرتان: وكذلك الأمر بالنسبة للشمس والكواكب الأخرىء فالسؤال المطروح في هذا المجال: هل يمكن حساب التجاذب بين كرتين وكأنه تجاذب وبين جسيمين أو نقطتين ماديتين وعلى أنه تجاذب بين مركزيهما؟ والجواب هو بالإيجاب؛. لكن فقط في الحالة التي تكون فيها قوة التجاذب تتناسب عكسيا مع مربع المسافة بين الكرتين, ونستطيع في هذا تبيّن الصعوبات الرياضية الهائلة التي كان على نيوتن أن يتغلب عليها قبل أن ينشر نظريته حول التجاذب الكوني.

وعندما كان خصوم نيوتن يجابهونه بتحد بأسئلة من مثل: «إنك لم تعلل لماذا تفعل الجاذبية الأرضية فعلهاء كما لم تعلل كيف يمكن أن يقع هذا التجاذب على البعد»» أو: «إنك لم تشرح حقا لماذا تتصرف أشعة الضوء على هذا النحو». وكان لنيوتن على كل هذه الأسئلة رد واحد: «إنني لا أقدم فرضيات». وكان يعني بذلك أنه لا دخل له بالتكهنات الميتافيزيقية؛ «إنني أضع قاقر قاو اسنظيعك معه لكاو اغرو كلك ما كاله تاها كقدها مسف م علم البصريات؛ وهو الشيء الذي لم يفهمه معاصروه على أنه نظرة جديدة في هذا العلم.

والآن لو أن نيوتن كان إنسانا عاديا جدا ومثيرا للضجر والملل ورجلا محبا للأمور الواقعية؛ لكان رده هذا يكون سهل التفسير. ولكنه لم يكن كذلك. فلقد كان في الحقيقة إنسانا غير عادي إلى أبعد الحدود: كان

56

الكون كساعه مهيبه الانتظام

شخصية غير مدجنة. فقد مارس السيمياء.. كتب سيرا مجلدات ضخمة حول ذلك الجزء من الكتاب المقدسء المسمى «سفر الرؤيا». وكان مقتنعا بأن قانون مقلوب المربعات موجود في رياضيات فيثاغورس. وانه لأمر غريب حقا ٠بالنسبة‏ لإنسان يؤّمن سرا بهذه التكهنات الميتافيزيقية والتخيالات الصوفية الغيبية: أت يقف بوجه جامد أمام الملا ويقول «أنا لا أضع أية ويليام رودزورث عن ذلك أحسن تعبير في قصيدة يقول في أحد مقاطعها :

«نيوتن» بمنشوره ووجهه الصامت»

وهي عبارة تصف الواقع بدفة تامة.

وعلى أية حال» كان وجه نيوتن العلني يت يتمتع بالشهرة ةوالتنجاح. ٠‏ ورغم هذه الشهرة والإنجازات الرائعة لم يستطع الحصول على ترقية فى الجامعة: وكان الغلماء في تلك الفترة يشعرون بالحرج من ميدأ الثالوث هذاء ولذا لم يكن بوسع نيوتن أن يصبح قسيساً وبالتالي لم يكن من الممكن أن يصل إلى متنصب رئيس الكلية. ولهذا توجه نيوتن عام 1696 إلى دار سك النقود في لندن وأصبح مديرا لها بعد ذلك. وبعد وفاة روبرت هوك قبل منصب رئيس 5 وظل مسيطرا حتى وفاته عام 7 على رحاب الفكر فى لندن. وهكذا أفلح الطفل القروي.

على أن المحزن - وفق ما اعتقد - أن نيوتن لم يفلح وضق معاييره هوء بل وفق معايير مجتمع القرن الثامن عشرء وانه لمحزن أن ذلك كان المجتمع القن قن لمعازرء عكري رضي أن يصبح دكتاتورا في المجالس التي كانت تؤلفها السلظة واعتير ذلك يحد :ذاته نجاها وشهزة:

إن العانه آوالخقف الذى يتصرف بالدكتادورية لبن إسباناً عطوفاء حدس ولو كان قد نشاً من أصول متواضعة؛ ورغم ذلك لم يكن نيوتن على هذا القدر من الغطرسة في كتاباته الخاصة: كما كان يحكم عليه من قسمات وجهه التي صورت كثيرا وبأوضاع مختلفة.

«إن تسين الطبيعة يكل ما فيه آفوجائغ الغصرية على اق إتضاف أن حتى على أي عصرء وان أفضل ما نقوم به أن ننجز القليل بثقة ويقين,

]57

ارتقاء الانسان

ونترك ما تبقى للآخرين الذين سيخلفونناء بدلا من أن نحاول تفسير كل سي ع2 .

ويأتي نيوتن في واحدة من عباراته الشهيرة بنفس المضمون ولكن بدقة أقل وبلهجة عاطفية شجية:

«لست أدري كيف أبدو بالنسبة للعالم» بيد أنني أبدو لنفسي كطفل يلهو على شاطيٌ البحرء يتسلى بين الفينة والأخرى باكتشاف حصة أنعم أو صدفة أجملء بينما يقف محيط الحقيقة بأكمله غامضا غير مكتشف أمام ناظري.»

وعندما أصبح نيوتن في السبعينات من عمره.ء كانت المنجزات الحقيقية للجمعية الملكية ضئيلة. فقد كانت إنكلتراء إبان حكم الملكين جورج الأول والثاني مشغولة بالمال (سنوات البحار الجنوبية) والسياسة والفضائح.: وكان من المعتاد رؤية رجال الأعمال في المقاهي وهم يؤسسون شركات لاستثمار اختراعات وهمية؛ كما كان الكتاب يسخرون من العلماء و يرسلون النكات عنهم: وكان ذلك في جزء منه بسبب النكاية واحد. وفي جزء آخر بسبب دوافع سياسية. ذلك أن نيوتن كان شخصية هامة في مؤسسة السلطة.

وفي شتاء عام ١713‏ كونت جماعة من الكتاب الناقمين التابعين لحزب المحافظين جمعية أدبية. وحتى وفاة الملكة آن في صيف العام التالي؛ كانت هذه الجمعية تعقد جلساتها في القصر الملكي (سانت جيمس) وبالذات في الغرف المخصصة لطبيب الملكة الخاص الدكتور جون آريوثنوت. وقد سميت هذه الجماعة «بنادي الخربشين» إذ كان هم أعضائها الاستهزاء والسخرية بالجمعيات العلمية في ذلك العصر. وليس الجزء الثالث من كتاب جوناثان سويفت الشهير «رحلات غوليفر» الذي يتضمن هجوما على المجتمع العلمي؛ إلا من نتاج مناقشات أعضاء ذلك النادي. وقد ساعدت هذه الجماعة من المحافظين الكاتب جون غاي فيما بعد على السخرية من الحكومة في مسرحيته الثنائية «أوبرا المتسول». كما ساعدته أيضا محام ١717‏ فى كتاية مسرحية «ثلاث ساعات بعد الزواج». وكانت السخرية في هذه المسرحية مركزة على شخص عالم كبير السن أطلق عليه في المسرحية اسم الدكتور فوسيل (أي الدكتور المتحجر). و يظهر ذلك جليا في الحوار التالي الذي يجري بينه وبين مغامر اسمه بلوتول الذي كان على علاقة مع ربة المنزل:

الكون كساعه مهيبه الانتظام

«موضوع تبادل الآراء الأول؛ بالطبع؛ هو السيمياء: أي تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب: -

فوسيل: من أية جامعة تخرجتم يا سيدي ؟

بلوتول: من جامعة كاركوف الشهيرة.

فوسيل: وفي أي حقل تخصصتم ؟

بلوتول: في حقل علبة النشوق!

فوسيل: هل قلت «علبة النشوق» ؟

بلوتول: نعم علبة النشوقء, ذلك هو الذهب الحقيقي.

فوسيل: وماذا عن الذهب؟

بلوتول: ماذا تقول ؟ إنني أصنع الذهب بنفسي من رصاص كنيسة كاركوف اليد

فوسيل: وكيف ذلك ؟

بلوتول: بالتكليس والانعكاس والتقنية والتسامي والملغمة والترسيب والتبخير.

فورسيل: لي إذ أن تبخير للزئبيق ليس عملية أكيدة.

بلوتول: لا أعتقد أن من الضروري أن أذكر الدكتور فوسيل المعروف بعلمه الواسع أن كل المعادن ذهب لم ينضج بعد!

فوسيل: انك تتكلم كفيلسوف. ولذلك يتوجب على البرلمان أن يضع قاتونا يمنع استثمارمناجم الرضاص: تماما كما مع قطع الأشجار الغضة

تتوالى الإشارات للمواضيع العلمية بسرعة: فيتطرق الحديث إلى مشكلة

5 خطوط الطول في البحر واختراع حساب التفاضل والتكامل: -

وفوسيل) قا الست هيالا لإلخراء التجاريبه اللأن.

بلوتول: هل تتعامل بخطوط الطول يا سيدي ؟

فوسيل: أنا لا أتعامل مع المستحيلات: بل أبحث عن إكسير الحياة العظية.

بلوتول: ما رأيك بالطريقة الرياضية الجديدة القائمة على معدل التغير المكير ‏

فوسيل: أنا لا أعرف إلا تغير الزئبق

يلوتول: ها.. ها. فصدت تغير الكميات.

56

ارتقاء الانسان

فوسيل: أعظم كمية رأيتها في حياتي هي ثلاثة أرباع جنيه في اليوم!

بلوتول: هل هنالك أي سر في علم المياه. علم الحيوان: علم المعادن, التغال السواكل: الصوكياته شبقط الفازاكه اللوشاريتم.وخريد أن سرهم لك ؟

فوسيل: هذا كله خارج نطاقي»

ويبدو في هذا شيء من قلة الاحترام أن يتعرض نيوتن للسخرية والهزء خلال حياته. وكذلك للأتتفاد الحاد .رتك الواقم أن كل فظرية مهما كانت جليلة - تتضمن بعض الافتراضات الخفية المعرضة للتحديء الأمر الذي ودس إلى آنسعدل بها نظرية افضل فى الوشم الثاسي: ونظرية نيوان + رغم جمالها وإبداعها كتقريب للطبيعة - كان لابد أن تحوي نفس النقص ذاك. وقد اعترف نيوتن بذلك. فالافتراض الرئيسي الذي اتخذه نيوتن هو أنه قال سنك البذاية «إنتي افترطن أن يكون العيزمطلقاء.:وعنى يذلك أن العيؤه كل مكان منيسط ولا ثياتى كما هنش حواركا على الأرض :وقد انعقد لايينتز ذلك منذ البداية: وكان على حق؛ ذتك أن هذا الأمر غير سحتو بح وق تحريسا ال10تية تسن نكا درن على العيش فى بين متبسظ: ولكن خانم ثاقي نظرة شاملة على الأرطن درك آن الأمر ليس كذلك في كل أرجائها.

فالأرض كروية؛ وهذا هو السبب في أن مراقبين مختلفين واقفين في مكانين متباعدين على خط الاستواء؛ يمكن أن ينظرا إلى نقطة في القطب الشماتي ويقول كل متيها إلى انر ياقساة الشمالوولا موعن لإتسان تصور هذا الوضع لو أن الأرض كانت منبسطة:؛ أو لإنسان يعتقد أن الأرض برمتها منبسطة كما تبدو بجواره. وكان نيوتن يتصرف حقاً كانسان أرض منبسطة؛ ولكن على مستوى كوني: يبحر في الفضاء حاملا متر القياس في يد وساعة الجيب في اليد الأخرىء راسما خريطة الفضاءء كما لو كان في كل مكان مثلما هو هنا على سطح الأرضء وليس الأمر بالضرورة كذلك.

إن هذا لا يعني أن الفضاء كروي بصورة حتمية في كل مكان: أي أنه ذو منحنى إيجابي دوماء بل يمكن أن يكون الفضاء - في مواضع منه - متكتلا أو متموجا. وبمكن أن نتصور نوعا من الفضاء به نقاط لها شكل سرج الحصان: وعن هذه تنزلق الكتل الضخمة في بعض الاتجاهات بشكل أسهل

1600

الكون كساعه مهيبه الانتظام

7 اسع لسر عساح مشصري

/ ةا ا سس ١‏ ل موس لماي 1 ابي

يبدو من مظاهر قلة الاحترام: بالنسبة لناء أن يكون نيوتن قد تعرض للهزء والسخرية خلال حياته.

لوحة كاريكاتورية ساخرة عن نظرية نيوتن في الجاذبية الأرضية. ذاتها بالطبع؛ فنحن نرى هذه الأجرام: وكل تعليل نقدمه يجب أن يكون ملائما لهذه الحركة.

ولكن التعليلات تكون عندئن مختلفة الأنواع» إذ ستكون القوانين التي

١‏ ذا

ارتقاء الانسان

تتحكم بالقمر والكواكب قوانين هندسية وليست قوانين جاذبية. وكانت هذه الأمور في ذلك الوقت مجرد تكهنات للمستقبل البعيد. وحتى لو طرحت هذه الأفكار للتداول فان رياضيات ذلك العصر لم تكن قادرة على معالجتها . بيد أن أصحاب العقول المفكرة والفلسفية كانوا يدركون أن تصور نيوتن للفضاء على صورة شبكة مطلقة كان مجرد تبسيط غير حقيقي لإدراكنا للأشياء. وبالمقابل قال الفيلسوف لايبنتر الكلمات التنبئية التالية: إنني اعتبر أن الفضاء شيء (نسبي بحت كما هو الزمن).

والزمن هو المطلق الآخر في نظام نيوتن. إن الزمن أمر حاسم إذا أردنا رسم خريطة الكون: فنحن - في الدرجة الأولى - لا نعرف مقدار بُعد النجوم؛ وكل ما نعرفه هو فقط اللحظة التي يمر بها كل نجم عبر خط نظرنا. وهكذا تطلبت دنيا البحارة إتقان صنع مجموعتين من الأجهزة اتقاناً بعيد المدىء المناظير المقربة والساعات.

وهكذا تم أول الأمر إدخال تحسينات على المنظار المقرب. وقد تركز ذلك في مرصد المراقبة الملكي الجديد. في غر ينتش. وقد خطط لذلك روبرت هوك عندما شرع مع كريستوفر رن في إعادة بناء مدينة لندن بعد الحريق الكبير الذي عصف بهاء وهكذا اصبح البحار الذي يريد تحديد موقعه - خطي الطول والعرض - نسبة لشاطى بعيد. يقارن قراءته لمواقع النجوم بالقراءات التي تتم في غرينتش. وبذلك أصبح خط طول غرينتش علامة ثابتة في دنيا كل بحار يبحر عبر بحر عاصف هائج: وكذلك الأمر بالنسبة لخط الزوال وتوقيت غرينتش.

وكان الأمر الثاني الهام بالنسبة لتحديد الموقع إدخال تحسينات على الساعة فقد أصبحت الساعة رمز ذلك العصر ومشكلته الرئيسية؛ ذلك أنه لا يمكن تطبيق نظريات نيوتن عمليا أثناء الإبحار إذا لم يكن بالوسع جعل الساعة تضبط الوقت على ظهر السفينة:؛ والمبدأ غاية في البساطة:؛ فبما أن الشمس تعود لنفس النقطة على الأرض مرة كل أربع وعشرين ساعة؛ فان كل درجة من 360 درجة من خطوط الطول تقابل أربع دقائق زمنية. فالبحار الذي يقارن وقت زوال الظهر على سفينة (أي وقت وجود الشمس في كبد السماء في أعلى موقع لها) مع ساعة تعتمد على توقيت غرينتش» يستطيع أن يعرف أن كل أربع دقائق تفرق بين التوقيتين تمثل بعد درجة

162

الكون كساعه مهيبه الانتظام

واحدة عن خط زوال غرينتش.

ولهذا عرضت الحكومة جائزة مقدارها 000 20 جنيه إسترليني لمن يستطيع أن يصنع ساعة تحدد الوقت بصورة دقيقة؛ مع التسامح بخطأً قدره نصف درجة خلال رحلة تستغرق ستة أسابيع: وقام صناع الساعات في لندن (ومنهم جون هاريسون كمثال) بصنع الساعة تلو الأخرى التي تستطيع تحقيق ذلك الشرطء وقد صممت هذه الساعات بحيث تعوض بندولاتها المتعددة فما بينها الخطأ الناتج عن تمايل السفينة أثناء الإبحار

وقد أدت هذه المشكلات الفنية إلى «انفجار» عدد ضخم من الاختراعات: كما وطدت الاهتمام بمفهوم الزمن الذي سيطر على العلم وعلى حياتنا اليومية منذ ذلك الحين وفي الواقع فان السفينة في البحر هي نوع من النموذج لنجم السماء؛ فكيف يسير النجم خلال الفضاءة وكيف نعرف أي وقت يسير بموجبه ؟ وهكذا كانت السفينة نقطة الانطلاق للتفكير في مفهوم الزمن النسبي.

وكان صناع الساعات في تلك الأيام يشكلون نخبة (أرستقراطية) متميزة بين العاملين تماماً كما كان البناؤون الأحرار في العصور الوسطى:؛ ولعله تصور جميل أن الساعة كما نعرفها اليوم حاكمة متحكمة في حياتنا الحديثة سواء أكانت ملتفة على معصمنا أم في جيبنا هي نفسها التي أوقدت شعلة مهارة الحرفيين منذ العصور الوسطى بأسلوب هادئ؛ وعلينا أن نذكر أن ما أراده صانعو الساعات الأوائل في تلك الأيام لم يكن معرفة التوقيت اليومي؛ بل تقليد الحركات في السماوات المرصعة بالنجوم.

وبقي عالم نيوتن ينبض بالحياةء ودون أي توقف لفترة تقدر بحوالي مائتي عام. ولو زار شبحه سويسرا في أي وقت قبل عام 1900 لهللت له جميع الساعات مبجلة معا.

ومع ذلك فبعد عام 1900 بقليل في برن؛ على بعد يقل عن مائتي ياردة من برج الساعة في المدينة. عاش هناك شاب يافع كتب له أن يضبط هذه الساعات كلها بالسماع: ذلك هو ألبرت آينشتاين. ففي مطلع القرن العشرين بدأ مفهوما الزمن والضوء بعدم التوافق مع الفكر السائد.

ففي عام ١88١‏ أجرى ألبرت مايكلسون تجربة (كررها مع إدوارد مورلي بعد ست سنوات) أطلق فيها الضوء في اتجاهات مختلفة وقد أخذته الدهشة

|0605

ارتقاء الانسان

عندما وجد أنه كيفما حرك الجهاز خلص إلى نفس سرعة الضوء وكانت هذه النتيجة تتعارض مع قوانين نيوتن؛ وكان ذلك مصدر تلك الهمهمة الصغيرة في قلب الفيزياء التي جعلت العلماء في أول الأمر شديدي الاهتمام متسائلين: وكان ذلك حوالي عام 1900.

وليس من المؤكد أن الشاب الصغير آينشتاين كان آنذاك مظلعا على آخر المعلومات في هذا الموضوع. إذ لم يكن تلميذا جامعيا شديد الانتباه لدراسته. ولكنه من الثابت أنه كان قد سأل نفسه: - في الوقت الذي ذهب فيه إلى برن ومنذ أن كان صبيا دون العشرين - كيف يمكن أن تبدو تجربتنا لو نظر إليها من وجهة نظر الضوء؟

إن الجواب على هذا السؤال مليء بالمفارقات المتضادة؛ الأمر الذي يجعله صعباء ومع ذلك وكما هو الحال في المفارقات المتضادة فان الجزء الأصعب في هذا الموضوع ليس الجواب بل أدراك السؤال ! وهنا تكن عبقرية رجال مثل نيوتن وآينشتاين: ذلك أنهما يطرحان أسئلة شفافة بريئة يتضح أن إجاباتها تحمل في طياتها الكوارث!. وقد سمى الشاعر وليام كاوبر نيوتن «الحكيم الذي يشبه الطفل» بسبب تلك الخاصة فيه كما أن هذا الوصف يلائم تماما نظرة الدهشة من العالم التي كانت مرتسمة على قسمات وجه آينشتاين. فخلال حديثه عن ركوب حزمة من الضوء أو عن السقوط خلال الفضاء كان لدى آينشتاين دائما الكثير من الأمثلة والإيضاحات الجميلة والبسيطة التي توضح تلك المبادئ»ء وسأحاول أن أعيش لمحة من حياة آينشتاين: أذهب إلى قاعدة برج الساعة في برن واركب حافلة الترام التي كان آينشتاين معتاداً أن يركبها كل يوم في طريقه إلى عمله كموظف في إدارة براءات الاختراع.

إن الفكرة التي كانت تلح على آينشتاين ضي سني مراهقته هي: «كيف يمكن أن يبدو العالم لو امتطيت شعاعا من الضوء6» وإذا افترضنا أن هذه الحافلة تبتعد عن تلك الساعة بسرعة ذلك الشعاعء؛ الذي نرى بواسطته الوقت الذي تدل عليه الساعة ذاتها فماذا تكون النتيجة 5 عندئذ ستجمد الساعة بالطبع. فأنا والحافلة التي تسير بسرعة الضوء سنكون ثابتين زمانيا أي أن الزمن سيتوقف بالنسبة لنا.

دعوني أوضح ذلك؛ لنفترض أن الساعة التي ورائي تدل على الثانية

1 4

الكون كساعه مهيبه الانتظام

عشرة ظهرا عندما تبدأ الحافلة بالانطلاق. فأنا الآن ابتعد عنها بسرعة 0 300 كيلومتر في الثانية (أي بسرعة الضوء). والنظرة للساعة تستغرقني قالية واحدة ولعن لومخ الذي كل هليه السافة كما آراد القافية شر لان الشعاع الضوئي الذي يأتي من الساعة إلى عيني سيستغرق نفس الوقت الذي تستغرقه رحلتي في الحافلة مبتدئاً من الساعة. وبالنسبة للساعة كما أراها وبالنسبة للعالم داخل الحافلة ونتيجة لاستمراري في الانطلاق بسرعة الضوء أكون قد فصلت نفسيا عن مرور الزمن؛ أي أنه توقف تماما بالنسبة لي.

وتلك مفارقة غير عادية. ولا أود الخوض فيما يمكن أن ينتج عن تلك المفارقة وغيرها من المفارقات التي عني بها (آينشتاين) وسأركز فقط على هذه الناحية: وهي أنني إذا امتطيت شعاعاً ضوئياً فسوف يتوقف الزمن بالنسبة لي. هذا يجب أن يعني أنه كلما اقتربت من سرعة الضوء (وهو ما أريد تمثيله بهذه الحافلة) أصبح وحيداً في صندوق الزمن والمكان وأكثر ابتعاداً عن المعايير والنواميس من حولي.

وتوضح هذه المفارقات الغريبة شيئين الأول جلي واضح: وهو أنه لا يوجد زمن كوني (أو ساعة واحدة للكون كله). أما الثاني فأعمق وأكثر غموضاً وهو أن الخبرة بأمرما يختلف بين المسافر وبين الإنسان القابع في بيته. وبالتالي بالنسبة لأي منا إذ يسير في طريقه الخاص. إن تجاربي داخل الحافلة متسقة: ذلك أني أكتشف نفس القوانين ونفس العلاقات بين الزمن والمسافة والسرعة والكتلة والقوة التي يكتشفها أي مراقب آخرء ولكن قيمة كل من الزمن والمسافة وبقية تلك المتغيرات التي أصل عليها بالقيان القعلئ وانا ستحرلة ذال الحاظلة السيرعة إلى قرب سرعة الصو تختلف عن قيمة لك التغيرات ألتى يحصدل عليها بالقياس أيضاً الشخصض الواقف على الرصيف. ا

ذلك هو جوهر مبدأ النسبية. ولكن السؤال الذي يخطر بالبال بوضوح هو: «ما الذي يجمعني وأنا بهذه السرعة مع هذا المراقب الواقف دون حراك والجواب هو: «مرور الضوء». فالضوء هو حامل المعلومات التى تريطناىوهذ! هو السبب:فى سيرة الثائن هيا الحطيعة القعريبيية الت تأتت عن تجربة واكلسون ضاد ١8١‏ : وهي أنه عندما نتبادل الإشارات

65

ارتقاء الانسان

الضوكية نكتشف أننا نتبادل المعلومات دائماً بنفس السرعة ونتوصل تكراراً إلى أن سرعة الضوء ثابتة دوماً: ومن الطبيعي نتيجة لذلك أن يكون الزمن والحيز والكتلة أمور مختلفة بالنسبة لكل منا لأنها يجب أن تعطي نفس القوانين لي هنا داخل الحافلة وللشخص الموجود خارجها دائماً ودون استثناء نفس القيمة لسرعة الضوء.

إن الضوء والإشعاعات الأخرى عبارة عن إشارات تتولد من حدث ما وتنتشر كالأمواج خلال الكون: وليس هنالك من طريقة يمكن بها أن تنتشر أخبار هذا الحدث إلى خارجه بأسرع من السرعة التي تتحرك بها فالضوء وأمواج الراديو أو أشعة رونتجن (الأشعة السينية) هي الناقلات الرئيسية للأنباء أو الرسائل؛ وتشكل شبكة للمعلومات تربط الكون المادي بعضه ببعض فحتى لو كانت الرسالة التي نريد إرسالها هي عبارة عن الزمن فقط فلن نستطيع بثه من مكان لآخر بأسرع من الضوء أو موجات الراديو التي تحمله. وهكذا نتوصل إلى أنه ليس ثمة «زمن كوني» بالنسبة للعالم كله. كما أنه لا يمكن أن تضبط ساعاتنا على دقات ساعة غرينتش دون أن تكون سرعة الضوء مرتبطة بها ارتباطاً لا فكاك منه.

في هذه الازدواجية لابد أن ينقطع شيء لأن مسار شعاع من الضوء (مثل ستار الرصاصة) لا يبدو بنفس الشكل لشخص واقف مشاهد عابر كما يبدو فيه للرجل الذي أطلقه وهو يتحرك, فالمسار سيبدو أطول بالنسبة للشخص الأول؛ وعلى ذلك فان الزمن الذي سيستغرقه الضوء في مساره يجب أن يبدو أطول بالنسبة لهذا الشخصء مادامت سرعة المرء ثابتة.

هل هذا حقيقي ؟ نعم: فنحن نعرف الآن قدراً كافيا حول العمليات الكونية والذرية ترينا أن ذلك صحيح في حالة السرعة العالية. فلو كنت أتحرك فعلا بنصف سرعة الضوء وسجلت ساعتي أكثر قليلا من ثلاث دقائق خلال تلك السرعة:؛ فان الزمن يكون أطول بنصف دقيقة بالنسبة للرجل الواقف على الرصيف.

لنفترض الآن أننا زدنا سرعة الحافلة وبلغنا بها سرعة الضوءء لنرى كيف تبدو مظاهر الأمورء إنه من ناحية الأثر النسبي يتغير شكل الأشياء (كما أن هنالك تغيرات في اللون ولكنها ليست بسبب النسبية) فسطوح المباني تبدو مائلة إلى الداخل والى الأمام؛ كما تظهر الأبنية ذاتها متقاربة

| 6

الكون كساعه مهيبه الانتظام

ومتزاحمة معاً. ذلك أنني أتحرك بسرعة فائقة أفقياً. ولذا فان المسافات الأفقية تبدو أقصرء ولكن الارتفاعات تبقى كما هى فى هذه الحالة. وكذلك يتقير مشطر السيارات والبكتر يتف الأسلوب«فييدو القاس يلين طوالة: وكذلك السيارات تبدو قصيرة وعالية. وما هو صحيح بالنسبة لي عندما أنظر إلى الخارج من داخل الحافلة صحيح أيضا بالنسبة للشخص في الخارج الذي ينظر إلى الحافلة بسرعتها المذهلة؛ فعالم العجائب في النسبية متمائل. ولذا يرى المراقب من الخارج الحافلة مضغوطة إلى بعضها: قليلة الطول وعالية الارتفاع.

ومن الواضح أن هذه صورة مغايرة تماماً لصورة العالم التي كانت عند نيوتن. فالزمن والحيز كانا بالنسبة له إطارا مطلقاً تجري ضمنه الأحداث المادية وفق نظام ثابت مستقرء فنظام نيوتن بمثابة نظرة بعين الله إلى العالم؛ فالأمور تبدو بنفس الشكل لكل مراقبء أينما كان وكيفما تحرك. وعلى النقيض من ذلك كانت وجهة نظر آينشتاين: نظرة بعين الإنسان حيث إن ما تراه وما أراه أنا نسبي لكل مناء أي أنه نسبي لمكاننا وسرعتناء ولا يمكن التخلص من هذه النسبية؛ فنحن لا يمكن أن نعلم كيف يبدو العالم حقاً بحد ذاته؛ وكل ما يمكننا عمله هو مقارنة كيفية ظهور العالم لكل مناء وذلك عن طريق تبادل الاتصالات والمعلومات. فأنا في حافلتي وأنت في كرسيك لا نستطيع أن تكون لدينا معاً نظرة مقدسة أو علوية وآنية للأحداث, وكل ما نستطيع عمله هو تبادل نظراتنا للأحداث فيما بيننا.

وتبادل وجهات النظر ليس عملية فورية؛ فنحن لا نستطيع أن نزيل منه الفارق الزمني الذي تعيّته سرعة الضوء.

وبالطبع لم تبلغ الحافلة سرعة الضوءء بل توقفت بهدوء قرب مكتب براءات الاختراع. وهناك نزل آينشتاين وقام بعمله اليومي المعتاد. وعند المساء كان غالباً ما يقضي بعض الوقت في مقهى بول فيرك؛ ولم يكن العمل في هذا المكتب كثيراً بحيث يستنزف قواه؛ وفي الحقيقة تبدو الآن طلبات تسجيل الاختراعات التي قدمت آنئذ غاية في السخفء فقد كان هناك تسجيل اختراع يتعلق بتحسين بندقية هوائية. وطلب لتسجيل اختراع للتحكم في التيار المترددء وقد كتب آينشتاين على ذينك الطلبين تعليقه المختصر: «إنه غير صحيح. وغير دفيق وغير واضح».

167

ارتقاء الانسان

وفي المساء كان آينشتاين يتحدث قليلا عن الفيزياء مع زملائه أثناء تواجده في مقهى بول فيرك. وكان من عادته شرب القهوة وتدخين السيجار ولكنه كان إنسانا يفكر لنفسه بنفسه؛ وكان يتجه إلى جوهر السوّال الذي كان: «كيف يتفاهم بنو البشر - لا الفيزيائيون فقط - بعضهم مع بعض ؟ وما هي الإشارات التي نتبادلها 5 وكيف نتوصل إلى المعرفة لا هذه التساؤلات وأمثالها كانت المحور في كل أبحاثه التي نشرهاء لقد سعى فيها للوصول إلى لب الحقيقة خطوة خطوة؛ كمن كان يكشف عن قلب زهرة بإزالة وريقات الكأس والتويج الواحدة تلو الأخرى.

وهكذا نجد أن بحثه العظيم الذي نشر عام 1905 لم يقتصر على البحث في الضوءء أو في «الديناميكيات الكهربائية للأجسام المتحركة» كما يشير عنوان البحث. بل يذهب إلى أبعد من ذلك. إذ ذيّل آينشتاين ذلك بحاشية في العام ذاته؛ ذكر فيها علاقته الشهيرة التي تشير إلى تكافؤٌ الطاقة والكتلة. وهي المعادلة التي تقول بأن الطاقة تساوي الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء وبالنسبة لنا نجد أنه من الروعة بمكان أن يتضمن أول عركن لنظرية التسبية تتبؤٌاً عمليا ومدمرا عن الفيزياء الذرية. أما بالتسبة لآينشتاين فقد كان الأمر بكل بساطة جزءاً من تصور كلي للعالم.

فآينشتاين» مثل نيوتن وكل المفكرين العلميين. كانت لديه نظرة عميقة موحدة للكون. وهذه النظرية تنجم عن تبصر وإدراك عميقين لعمليات الطبيعة نفسهاء وبشكل خاص فهم العلاقات بين الإنسان والمعرفة والطبيعة, فالفيزياء ليست أحداثاً ولكنها مشاهدات والنسبية هي فهم العالم لا كأحداث دل كاذ كاك

وكان آينشتاين يستعيد ذكريات تلك السنوات بمتعة وسرورء وقد ذكر لصديقى ليو زيلارد بعد مرور عدة سنوات «لقد كانت هذه السنوات أسعد سنوات بحرااتى و كف ظللك لياح وله يفركم اد مني أن أنتج بيضات ذهبية». وبالطبع ورغم ذلك استمر آينشتاين في وضع البيضات الذهبية مثل أبحاث: تأثيرات الكم والنظرية العامة في النسبية ونظرية الحقل. ومع هذه الأعمال جاء التأكيد بصحة نتائج أبحاث آينشتاين الأولى. وكانت حصاداً لتوقعاته وتنبؤاته. قفي عام 1915 تنبا آينشتاين في النظرية النسبية العامة أن حقل الجاذبية بالقرب من الشمس يسبب انحناء شعاع الضوء المار قربها نحو

168

الكون كساعه مهيبه الانتظام

الداخل وكأنه تشوه في الفضاءء وقد أرسلت الجمعية الملكية بعثتين إلى البرازيل والساحل الغربي الإفريقي للتأكد من هذه النبوءة خلال كسوف الشمس الذي حدث في 29 مايو/ أيار عام 1919. وقام آرثر اديغتون - المسؤول عن البعثة الإفريقية - بالقياسات الآولى للصور المأخوذة هناك. وذكر فيما بعد أن تلك القياسات ستبقى في ذاكرته كأعظم لحظة في حياته. وأبرق بالنتيجة إلى الرياضي ليتلوود 11168000 الذي كتب بدوره كلمة سريعة إلى برتراند راسل:

«عزيزي راسل: لقد تأكدت نظرية آينشتاين بصورة كاملة؛ إن مقدار الإزاحة التي تنبأ بها هي 72 را بينما كانت الإزاحة المشاهدة 75 را + - 06 ر» وتناقل زملاء الجمعية الملكية تلك الأخبار بسرعة ولهفة.

وهكذا أصبحت نظرية النسبية ضيقة واقعة؛ بفرعيها الخاص والعام. أما العلاقة بأن الطاقة تساوي الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء فقد تم التحقق من صحتها - بالطبع - فيما بعد. وحتى الفكرة القائلة بأن الساعات تتحرك ببطء في حالات قد تميزت أخيرا بقدر صعب. ففي عام 5 كتب آينشتاين مازحا عن تجرية مثالية لاختبار النظرية:

«إذا كانت لدينا ساعتان تشيران إلى نفس الوقت عند النقطة (أ) وتحركت إحداها على منحنى مغلق بسرعة ثابتة حتى تعود إلى نفس نقطة (أ) وهي عملية نفترض أنها تستغرق عدداً من الثواني فإن هذه الساعة عند وصولها إلى نقطة البداية (أ) ستكون قد تأخرت عدداً صغيرا من الثواني بالمقارنة مع الساعة التي لم تتحركء؛ ونستنتج من ذلك أن ساعة مثبتة على خط الاستواء ستكون أبطأ يزمن قليل جداً من ساعة مماثلة مثبتة فى أحد قطبي الأرض.» () ا

توفى آينشتاين عام 1955 أي بعد نصف قرن من نشر بحثه العظيم عام 5 . ولكن عند وفاته كان بإمكان المرء قياس الزمن بدقة تصل إلى جزء من ألف مليون جزء من الثانية وبذا أصبح من الممكن التحقق من هذا الاقتراح الغريب: فكر في وجود شخصين. الأول عند القطب الشمالي والثاني عند خط الاستواء. وحيث إن الأخير يدور بسرعة تفوق سرعة دوران الشخص الأولء فإن النتيجة كون أن ساعته ستتأخر قليلا. وهو ما حصل بالفعلء؛ وأمكن التأكد منه.

69

ارتقاء الانسان

وقد قام بهذه التجربة شاب يدعى ه. ج هاي في هارول ببريطانيا. فقد تخيل الأرض وقد ضغطت من الأعلى فأصبحت مسطحة كالصحن, بحيث يصبح القطب الشمالي في مركز الصحن, وخط الاستواء يمتد على حافته. وضع هاي ساعة دقيقة تقوم على مبدأ النشاط الإشعاعي عند حافة الصحنء؛ وأخرى في مركزه؛ ثم أدار الصحن بسرعة:؛ فالساعتان تقيسان الزمن إحصائياً عن طريق عد الذرات المشعة التي تتحلل. وقد وجد بالنتيجة أن ما تنب به آينشتاين صحيح. إذ أن الساعة الموجودة على حافة الصحن أبطأ من الساعة الموجودة في المركزء وهو أمر صحيح بالنسبة لكل صحن دوار أو كل قاعدة دوارة أيضا. وهكذا فإن الزمن يتقدم بالنسبة لمركز كل اسطوانة تدور على قرص الحاكي أكثر مما تتقدم به أطراف الإسطوانة.

ويمكن القول بأن آينشتاين قد خلق نظاما هو في الحقيقة فلسفي أكثر من كونه رياضياً . وكان يتمتع بعبقرية خاصة تمكنه من إيجاد الأفكار الفلسفية التي تؤدي إلى وجهة نظر جديدة في التجربة العملية. أو لم ينظر إلى الطبيعة كنظرة الله إليهاء بل كنظرة باحث عن طريق أي كإنسان داخل فوضى الظواهر الطبيعية؛ آمن بوجود طراز عام يمكن إدراكه إذا نظر المرء إلى هذه الظواهر نظرة جديدة. قد كتب يقول في كتابه «العالم كما أرام»:

«لقد نسينا ما هي الملامح في عالم التجربة التي جعلتنا نكوّن مفاهيم (غير علمية) ونتيجة لذلك نجد صعوبة ضخمة في أن نمثل لأنفسنا عالم التجربة دون الاستعانة بتلك المفاهيم وتفسيراتها التي سبق أن تكونت وصارت تراثاً قديما. وثمة صعوبة أخرى في أن لغتنا مرغمة على استخدام كلمات لا يمكن فصلها عن تلك المفاهيم البدائية. تلك هي العقبات التي تواجهنا عندما تحاول وضف الطبيفة الأساسية يمتموفها السابق غير العلمن عن الفضاء أو الحيّز».

وهكذا ربط آينشتاين خلال حياته بين الضوء والزمن: والزمن والمكان أو الحيزء والطاقة والمادة» والمادة والمكان أو الحيزء والحيز والجاذبية. وضي أواخر حياته كان لا يزال يعمل على إيجاد وحدة بين الجاذبية والقوى الكهربائية والمغناطيسية. ولا أزال أذكره وهو يحاضر في قاعة مجلس الجامعة في كامبردج مرتديا صدرية صوفية قديمة وخفا منزليا دون جوارب.

]70

الكون كساعه مهيبه الانتظام

ويخبرنا عن نوع الترابط الذي كان يحاول إيجاده في هذا الموضوع الأخيرء والصعاب التى كانت تجابهه.

لم تكن تلك الصدرية وذلك الخفء وكذلك عدم ميله لاستعمال الجوارب والحزام مظاهر تكلف أو تصنع عنده إذ أن آينشتاين كان يبدو - إذا رآه أحد - تعبراً لقول وليم بليك: «اللعنة على الأحزمة:؛ والبركة في الثياب المريحة». ولم يكن يعباً بالنجاح والشهرة والتبجيل؛ كما لم يهتم بأن يبدو منسجما مع الناس. وفي أغلب الأوقات لم يكن على علم بما يتوقع من رجل في مكانته. وكان يكره الحرب والقسوة والنفاق» وفوق كل شيء كان يكره التعصب للرأي. غير أن كلمة الكراهية ربما لا تكون الكلمة المناسبة التي تعطي معنى الاشمئزاز الممزوج بالحزن الذي كان يشعر به آينشتاين تجاه ذلك التعصب. فقد كان يفكر بالكراهية؛ على أنها نوع من أنواع التعصب. وقد رفض أن يصبح رئيسا لإسرائيل لمثل تلك الاعتبارات والأسباب الإنسانية. وهذا معيار متواضع. لو تبناه الرؤساء الآخرون لما بقى أكثرهم على كراسي الحكم.

ويكاد يكون من الوقاحة التحدث عن ارتقاء الإنسان فى حضرة شخصين: نيوتن وآينشتاين اللذين يبدوان وكأنهما نبيان: نيوتن من العهد القديم أما آينشتاين فيبدو كنبي العهد الجديد. لقد كان آينشتاين مفعما بالإنسانية والرحمة والتعاطف. وكانت نظرته إلى الطبيعة هي نظرة إنسان إلى شيء خلقه الله فأبدع خلقه؛ وهو الأمر الذي كان يكرره دائماء فقد كان مولعا بالحديث عن الله كقوله: «الله لا يلعب النرد» ودالله ليس حقوداً» وغير ذلك كثير حتى إن عالم الفيزياء الدانمركي نيلز بور قال له ذات مرة «كف عن إبلاغ الله بما يفعله». ولم يكن هذا القول عادلا. ذلك أن آينشتاين كان وأعماله وأبحاثه هو أنه عندما تكون الإجابات بذات السهولة: فإننا نسمع قول الله تعالى.

17

ارتقاء الانسان

الهو امش

(1) 2/ا تصف الزمن مضرويا في مربع (سرعة حركة الساعة مقسومة على سرعة الضوء). 0/2 002/2 (2) أي أن الله تعالى لا يخلق الأشياء عبثاً أو صدفة.

172

الأفطلاق نحو الفوة

إن الثورات لا تصنعها الأحداث بل يصنعها الرسال. وأحياقا يكوتون روجالا عباكرة يععلون بمفردهم. ولكن الثورات العظيمة التي حدثت في القرن الثامن عشر قام بها أناس أقل شأنا عملوا معا كفريقء والدافع لهم كان الاعتقاد بأن كل إنسان هو المسئول عن مصيره وإنقاذ نفسه.

إن من المسلم به الآن أن للعلم مسؤولية اجتماعية. ولكن هذه الفكرة لم تكن لتخطر على يال غاليليو أوثيوكن ققد كان ظديها آن العلم مجرد وصف للعالم كما هوء وأن المسئولية الوحيدة التي التزما بها هي أن يقولا الحقيقة: أما مفهوم العلم كمؤسسة اجتماعية فهو شيء حديث بدأ منذ الثورة الصناعية. ونستغرب عدم وجو أثر للمعنى الاجتماعى قبل ذلك؛ لأننا نظن واهمين أن الثورة الصناعية أنهت عصرا ذهبياً.

إن الثورة الصناعية سلسلة طويلة من التفيرات؛ بدأت حوالي عام 1760 . وهي ليست الثورة الوحيدة: فهي إحدى ثلاث ثورات وكانت الثورتان الأخريان, الثورة الأمريكية التىيدات عام 5 والثورة الفرنسية التي بدأت عام 1789 . وقد يبدو غريبا أن نجمع في نفس الحزمة ثورة صناعية مع ثورتين

|]

ارتقاء الانسان

سياسيتين؛ ولكن واقع الأمر أن هذه الثورات الثلاث جميعا كن ثورات اجتماعية؛ وكل ما في الأمر أن الثورة الصناعية - ببساطة - كانت الأسلوب الإنجليزي في تحقيق تلك التغيرات الاجتماعية؛ ولذلك فإنني أفكر بها كما تركافت الاررة الاتجليؤية, ا

ما الذي يجعل هذه الثورة إنجليزية السمة بشكل خاص ؟ من الواضح أولا إنها انطلقت من إنجلتراء التى كانت الدولة الصناعية الرئيسية فى ذلك الوقس ولكن المستافة تلك كان صفافة متوكية: والكيية الصفاهية تبدأ في القرى. والرجال الذين يقومون بها هم حرفيون: كالغني الذي يبني الطواحين؛ وصانع الساعات. وباني القنوات: والحدادء إن الذي يجعل الثورة الصناعية ذات صفة إنجليزية مميزة هو أن جذورها بدأت في الريف.

فخلال النصف الأول من القرن الثامن عشر كان نيوتن عجوزاً هرماً: وكانت الجمعية الملكية في حالة انحلال وكانت إنجلترا تنعم بنتاج ازدهار الصناعة القروية وتجارة التجار المغامرين فيما وراء البحار. وخبا ذلك الازدهار؛ إذ أصبح التنافس شديداً في مجال التجارة؛ وفي نهاية ذلك القرن أصبحت متطلبات الصناعة أكثر شدة وإلحاحاً فلم يعد نظام العمل في المنازل الريفية ذا مردود كاف. وخلال جيلين - وبوجه التقريب بين عام 0 و1820 - تبدلت الطرق التقليدية في إدارة الصناعة؛ فقبل عام 0 كان من المعتاد أن تذهب بالعمل إلى القرويين في بيوتهم» ولكن مع حلول عام 1820 أصبح الأمر المعتاد إحضار العمال إلى المصانع والإشراف عليهم.

إننا نحلم أن الريف الإنجليزي كان موثل السرور في القرن الثامن عشرء مثل فردوس مفقود كما في «القرية المهجورة» التي وصفها أوليفر غولد سميث عام 1770:

«قرية اوبورن الحلوة؛ أجمل قرية في السهل,

حيث الصحة والوفرة تثير سرور الفلاح المجهد»

وما ذلك إلا خرافة كبيرة - فقد عرف جورج كراب الذي كان قسيسا ريفيا - حياة القرويين معرفة مباشرة وثيقة؛ وقد أثارت قصيدة غولد سميث غضبه العنيف حتى انه كتب قصيدة واقعية مليئة بالتهكم رداً عليها:

«نعم؛ هكذا تغني جنيات الشعر عن الفلاح السعيد,

174

الانطلاق نحو القوة

لأنهن لم يعانين آلامه أبدأ . فالعمل يضنيه ويهزمه والزمن

يحني ظهره فهل تشعرون أنتم بالإطراء الفارغ في

كلام موزون

لقد كان الريف مكانا يعمل فيه الناس منن الغسق حتى الظلام. ولم يكن العمال يعيشون تحت الشمس.ء بل في الظلام والفاقة والفقر. كما أن الأدوات المساعدة التي قد تخفف من عبء العمل كانت قديمة جداء كالطاحونة التي كانت قديمة حتى في أيام الشاعر شوسرء والثورة الصناعية بدأت بآلات كهذه. فقد كان فنيو الطواحين وبناتها مهندسي المستقبل. وبدأ جيمس بريندلي - من أهالي ستافورد شاير - مهنته التي تعلمها بنفسه عام 21733 وذلك من خلال عمله في عجلات الطاحونة: وكان عمره آنذاك سبعة عشر عاماء قروي ولد فقيرا.

وكانت التحسينات التي أدخلها بريندلي عملية: فقد حسن أداء العجلة الماكية كآلة!'): وأصبحت بهذا التحسين أول آلة متعددة الأغراض تستعمل في الصناعات الجديدة. كما عمل بريندلي أيضا على تحسين شحذ صخور الصوان التي استعملت في صناعة الفخاريات وكانت قد بدأت تزدهر في ذلك الوقت.

وبحلول عام 1750 كان هنالك في الجو تحسين أكبر. فقد أصبحت المياه عنصراً هاماً بالنسبة للمهندسينء اخن بها كثير من الناس أمثال بريندلي: وكانت هذه المياه تتدفق وتجري في كل أنحاء الريفء ولم يكن هذا الماء مجرد مصدر للطاقة؛ بل كان موجة جديدة من الحركة: وكان جيمس بريندلي أيضا أحد الرواد في مجال بناء القنوات؛ أو في علم «الملاحة» كما كانت

بدا بريندلى دون أن يكلفه أحد. ومدفوعا ياهتمامه الشخصىء فى سبح اكرات المائية الك كان ينكل عيرها كن متابمةه لشاريع: الهتدسبية المتعلقة بالمطاحن والمناجم؛ وطلب منه دوق بلدة بردج - واتر أن يبني قناة لتقل الحم من متانجم الدوق فى ورسلي إلى مديثة مبانكسكر | الثامية. وقد كان تصميم تلك القناة مدهشاً وسابقاً لعصره كما يتبين من تقرير ورد في صحيفة مانشستر مير كوري عام 1763: ا

«لقد كنت أشاهد في الفترة الأخيرة العجائب الصناعية في لندن

]715

ارتقاء الانسان

والعجائب الطبيعية في بيك ولكن أيا مما لم يدخل السرور إلى نفسي مثلما فعلت ممرات الدوق المائية في بردج واتر. فلقد أدخل مصممها الفذ السيد بريندلي تعديلات وتحسينات مذهلة على هذه الطريقة في النقل؛ إذ أقام ممراً مائياً عند جسر بارتون معلقاً في الهواء؛ يرتفع حتى قمم الأشجار. وبينما كنت أتفحصه بمزيد من الدهشة والبهجة مرت فيه أربعة مراكب نقل مائية خلال فترة لا تزيد عن ثلاث دقائق. وقد ربط اثنان منهما بسلسلة مع بعضهما. وكان يجرهما حصانان يسيران على ضفة القناة حيث لم أكن أجرؤٌ على السير لأنني كنت أرتجف خوفا لمجرد النظر إلى النهر الزاخر بالمياه الذي يسير من تحتي. وعند التقاء كورئر بروك بقناة الدوق, على بعد ميل من مانشسترء. صنع عمال الدوق رصيفاً يبيعون عليه الفحم بسعر (5ر3) بنس للسلة الواحدة.. وهم عازمون على نقل ذلك الفحم إلى مانشستر في الصيف القادم.»

وبعد تلك العملية قام بريندلي بوصل مانشستر مع ليفربول بطريقة أكثر جرأة. وكان مجموع ما أنشأه بريندلي من الممرات المائية النهرية المنتشرة في جميع أرجاء إنجلترا يبلغ حوالي أربعماتة ميل.

وثمة أمران بارزان في عملية خلق نظام الممرات المائية الإنجليزي, يميزان الثورة الصناعية بمجموعهاء أولها أن الناس الذين صنعوا الثورة كانوا أناسا عمليين: فهم - مثل بريندلي - لم يتلقوا سوى القليل من التعليم: وفي الواقع لم يكن للتعليم المدرسيء - كما كان آنذاك - من أثر سوى جعل الفكر المخترع المبدع بليداً . فالمدارس الثانوية التي كانت تعد الطلبة للجامعات لم يكن بوسعها - بحكم القانون - أن تعلم سوى المقررات التقليدية التي أنشئت من أجلها. أما الجامعات (ولم يكن هنالك سوى اثنتين: في أوكسفورد, وكامبردج) فلم تكن لتهتم بالدراسات الحديثة أو العملية, كما أنها كانت لا تقبل طلبة من غير أتباع الكنيسة الإنجليزية.

أما السمة المميزة الأخرى فهو أن الابتكارات الجديدة كانت للاستعمال اليومي. فلقد كانت القنوات بمثابة شرايين المواصلات؛ فهي لم تتشأ من أجل قوارب المتعة والنزهة بل لنقل البضائع والمواد . ولم تكن قوارب الشحن التي تستعمل هذه الممرات المائية مخصصة لنقل الكماليات؛ بل لنقل القدور وآنية الطبع واثواب القماشن وصتاديق الأشرظطة وكل الأشياء العادية

ما

الانطلاق نحو القوة

الرخيصة الثمن التي يشتريها الناس. فقد كانت هذه الأشياء تصنع في القرى التي أخذت تنمو إلى بلدان ومدن صغيرة؛ بعيداً عن لندن؛ لقد كانت تجارة شاملة كل أرجاء إنجلترا .

نشأت التكنولوجيا وتطورت في إنجلترا بهدف استعمالها في كل أنحاء البلاد بعيداً عن العاصمة. وهذا ما لم تكنه التكنولوجيا في قاعات القصور حذقا وإبداعاً منهم) في صنع الألعاب العلمية؛ لكنهم أسرفوا في تركيز ذلك الحذق الدقيق على صناعة لعب لعملائهم الأغنياء والأمراء والملوك. وتعتبر الدمى المتحركة - التي قضوا سنوات في صنعها - أروع ما صنعه الإنسان في ميدان الحركة الانسيابية. وكان الفرنسيون أول من اخترع تحريك جهاز حركة آلية ذاتية؛ أي فكرة جعل كل مرحلة من مراحل الحركة المتتابعة تتحكم في التي تليهاء وحتى الأسلوب الحديث في التحكم بالآلات عن طريق البطاقات المثقبة, كان قد صممه الفرنسي جوزيف مارى جاكار حوالي عام 1800 من أجل أنوال حياكة الحرير في مدينة ليون. ولكن هذا الاختراع القديم ذبل ولم يزدهر حينئذ بسبب استعماله في خدمة الرفاهية.

وكان من الممكن لمهارة دقيقة من هذا النوع أن تسبب ارتقاء صاحبها وتقدمه ولكن في الفترة التي سبقت الثورة في فرنساء فصانع الساعات للملكة ماري أنطوانيت؛ وارتفع شأنه في البلاط وأصبح الكونت بومارشيه. وكان يتمتع بمواهب أدبية وموسيقية أيضاء وكتب فيما بعد مسرحية بنى الموسيقار موزارت على أساسها أوبرا «زواج فيغارو» ومع أن مسرحية هزلية كهذه لا تبدو مصدرا يعتمد عليه في معرفة التاريخ الاجتماعي لأمة ماء إلا أن المؤامرات والدسائس التي حيكت في هذه المسرحية وحولها تبين مبلغ النجاح الذي حققه أصحاب المواهب فى «بللاطات أوربا» فى تلك الفترة.

وتبدو مسرحية زواج فيغارو, - لأول وهلة - مثل مسرح عرائس فرنسي مليء بآلات وأجهزة سرية؛ ولكن واقع الأمر أنها إشارة عاصفة مبكرة للثورة. وكان للكونت بومارشيه حس سياسي لما يمكن أن يحدثء؛ كما كان حريصا على ألا يلوث اسمه. واستخدمه وزراء المملكة في عمليات مزدوجة

177

ارتقاء الانسان

بغية مساعدتهم في حريهم ضد الإنجليزء وكان الملك يعتقد أنه كان يتبع سياسة ميكيافيلية: وتوقع أن يكون بوسعه الحفاظ علي مثل هذه الخطط السياسية للتصدير فقط. بيد أن بومارشيه كان اكثر حساسية ودهاء إذ استطاع أن يشم رائحة الثورة متجهة نحو فرنساء والإيحاء الذي ضمنه شخصية قيغارو الخادم؛ إنما هو فكر ثوري.

إن أغنية موزارت الشهيرة:؛ «أيها الكونت الصغيرء. يمكنك أن ترقص ولكنني سأآعزف موسيقى الرقص» تعتبر تحديا. وبكلمات بومارشيه تقول الأغنية على لسان فيغارو:

«كلاء يا سيدي الكونت؛ لن تستطيع الحصول عليهاء لن تستطيع! ألأنك نبيل عظيم تعتقد بأنك عبقري ؟ إن نبل المحتد والثروة: والأمجاد. ومكاسب المنصب. كل ذلك يجعل المرء فخوراً جداً. ولكن ماذا عملت كي تحل عليك كل هذه النعم؟ لاشي أكثر من أنك تجشمت عناء النزول من رحم أمك. وما عدا ذلك فأنت شخص عادي».

«لقد بدأت مناظرة عامة عن طبيعة الثروة. وربما إنه ليس من الضروري للمرء - كي يشترك في هذه المناظرة - أن يملك شيئاً. وبما أنني مفلس تماماً. فقد كتبت عن قيمة النقود والفائدة. وفي تلك اللحظة.. وجدت نفسي أنظر إلى بوابة السجن. فالكلام الفارغ عندما يطبع لا يكون خطراً إلا في البلاد التي تكون فيها قيود على التداول الحر للمطبوعات؛ فبدون الحق في الانتقاد يصبح المديح: والإعجاب أو التقدير. عديمي القيمة.»

إن هذا نموذج لما كان يجري تحت مظاهر الأناقة والثراء في المجتمع الفرنسيء الذي كان يتمسك بالشكليات الرسمية إلى حد كبير.

ويبدو اليوم أن من غير المعقول أن يعتبر في ذلك الزمن مشهد الحديقة في المسرحية الغنائية «زواج فيغارو» والآغنية التي ينعت فيها فيغارو سيده بالكونت الصغير أمراً ثورياً. ولكن علينا أن نأخذ بعين الاعتبار متى كتبت تلك العباراتء فقد أنهى بومارشيه كتابة مسرحية «زواج فيغارو» حوالي عام 1780. ثم احتاج أربع سنوات من النضال ضد عدد كبير من رقباء المطبوعات على رأسهم لويس السادس عشر نفسه؛ حتى سمح بتقديمها على المسرح؛ وعندما قدمت لأول مرة؛ كانت فضيحة عمت أوربا كلها . ولم يستطع موزارت أن يقدمها في فيينا عام 1786 إلا بعد أن حولها إلى مسرحية

178

الانطلاق نحو القوة

غنائية (أوبرا)؛ وكان موزارت في ذلك الوقت في الثلاثين من عمره. وبعد ثلاث سنوات - أي في عام 1789 - اندلعت الثورة الفرنسية.

هل خلع لويس السادس عشر من عرشه؛ ثم قطع رأسه بسبب «زواج فيغارو»؟ كلا بالطبع. فالآدب الساخر ليس قنابل اجتماعية؛ ولكنه مؤشر اجتماعي: فهو يبين أن ثمة أناسا جددا يقرعون الباب. فما الذي جعل نابليون يسمي الفصل الأخير من المسرحية «الثورة فعلا» 5 إنه بومارشيه شميه متقيضا شخصية فينارو ومشيراً إلى الكونت بغوله ولأنك من كدة النبلاء العظام: تظن أنك عبقري عظيم. انك لم تقم بأي جهد في سبيل أي أمر سوى ولادتك.»

كان بومارشيه يمثل أرستقراطية مختلفة ذات موهبة عاملة كصناع الساعات في عصره. والبنائيين غي الماضيء والطباعين. ترى ما الذي أثار حماس موزارت حول هذه المسرحية5 إنه ذلك الحماس الثوري؛ الذي كان يتمثل بحركة البنائين الأحرار التي كان ينتمي إليهاء والتي مجدها في مقطوعته الشهيرة «الناي السحري» وكانت حركة البنائين الأحرار آنذاك جمعية ناهضة وسرية؛ وكانت أهدافها غير المعلنة العمل ضد السلطة وضد رجال الدين. وبما إنه كان معروفا أن موزارت عضو فيها فقد كان من الصعوبة بمكان إحضار كاهن إليه وهو على فراش الموت عام .179١‏ وكان أعظم هؤلاء البنائين - في ذلك العصر - هو الطباع بنجامين فرانكلين. وكان مبعوثا أمريكيا في فرنسا كسفير لدى بلاط لويس السادس عشر عام 4 عندما مثلت مسرحية زواج فيغارو لآول مرة. ويمثل بنجامين فرانكلن؛ - أكثر من أي شخص آخر - أولثك المتطلعين دوما إلى الأمام: ذوي الشخصيات القوية والمؤثرة في الأحدات,. الواثقين من أنفسهم والمندفعين, الذين صنعوا العصر الجديد.

كان بنجامين فرانكلين يتمتع بحظ عجيبء فعندما ذهب لتقديم أوراق اعتماده إلى البالاط الفرنسي عام 1778 تبين في اللحظة الأخيرة أن الملابس الرسمية والشعر المستعار الخاص بتلك المناسبة ضيقة عليه ولا يستطيع ارتداءها. ولذا ذهب بجرأة إلى القصر بشعره الطبيعي. حيث رحب به على أنه ابن الطبيعة القادم من الغابات المتخلفة! ا

وكانت كل تصرفاته تحمل طابع الإنسان الذي يعرف رأيه وفكره ويستطيع

170

ارتقاء الانسان

أن يعبر عنهما بكل جرأة ووضوح:؛ وكان ينشر تقوما سنويا دعاه «تقويم ريتشارد الفقير» كان مليئا بالمقولات التى أصبحت فى المستقبل أمثالا كالمقولات التالية: «الجوع لا يعرف كيو ميقا ببإذا أردث أن قفرف قبية المال فحاول أن تستدين بعضاً منه». وقد كتب بنجامين غرانكلين عن هذا التقويم يقول: «لقد نشرت هذا التقويم أول مرة عام 1732.. وتابعت نشره لمدة خمس وعشرين سنة وحاولت أن أجعله مسليا ومفيداً معاً. ولهذا فقد اشتد الطلب عليه. فجنيت من ذلك أرباحاً جيدة: إذ كنت أبيع منه حوالي عشرة آلاف نسخة سنويا. ومن النادر أن تجد حياً في المقاطعة ليس فيه نسخة منه؛. وأعتبر هذا التقويم وسيلة مناسبة لبث التعليم والإرشاد بين عامة الناسء الذين نادراً ما اشتروا أي كتاب آخر».

وبمناسبة ارتفاع أول بالون يملأ بالهيدروجين في باريس عام 1783؛ رد بنجامين فرانكلين على أولئك المشككين فى الاختراعات الجديدة: قائلا: وها ظائدة العال غنوه بوكداك كى هذا امراب لتقي كرك طياكة فرانكلين: التفاؤل؛ الواقعية: البلاغة في القول: وأجوبة كهذه تبقى في الذاكرة لفترة طويلة: لدرجة أن عالما اكبر هو مايكل فإرادي استعمل العبارة السابقة ذاتها في القرن التالي؛ وكان فرانكلين شديد الاهتمام بطريقة التعبير في القول. فقد صنع أول نظارة ذات عدستين (لكل منهما بعده البؤري)؛ وذلك بنشر عدساته إلى نصفين: النصف الأسفل للقراءة والأعلى للرؤية» لأنه لم يكن يستطيع متابعة الحديث باللغة الفرنسية في البلاط إلا إذا كان ب,سعه مراقبة التعبيرات التي تبدو علي وجه المتحدث.

وكان لفرانكلين وأمثاله هوى للمعرفة الفكرية. وعندما ينظر المرء إلى هذا العدد الضخم من منجزاته الرفيعة التى امتدت خلال حياته كمنشوراته ورسوماته الساخرة الهادفة والأطر الثابتة في المطابع. يذهل من اتساع عقله المبتكر وخصوبته. وفي ذلك الوقت كانت الكهرباء تسلية العصر العلمية. وكان فرانكلين يحب اللعب واللهو والمزاح الدرجة أنه كان يعتبر غير مؤدب), بيد أنه كان يتعامل مع الكهرباء بجدية؛ لإدراكه أنها إحدى القوى في الطبيعة. وقد اقترح أن البرق ذو طبيعة كهربائية؛ ثم برهن على ذلك عام 2 وكيف يمكن لرجل مثل فرانكلين أن يثبت فرضية كهذه؟ بتعليق مفتاح حديدي في أسفل الحبل الذي يربط الطائرة الورقية التي يلعب بها الأولاد

الانطلاق نحو القوة

عادة. وإجراء التجربة في يوم اشتدت فيه العواصف الرعدية! وبما أن المجرب هو فرانكلين المحظوظ فلم تقتله الصاعقة؛ ولكن الذين أعادوا التجربة لاقوا حتفهم. وبالطبع فقد حول نتيجة هذه التجربة إلى اختراع عملي تمثل في مانعة الصواعقء. وجعلها تلقى الضوء على نظرية الكهرباء أيضاء وكان رأي فرانكلين أن الكهرياء كلها من نوع واحد وليست - كما كان يعتقد آنذاك - مكونة من «سائلين» مختلفين.

وثمة ملاحظة هامشية حول اختراع مانعة الصواعقء تذكرنا مرة أخرى أن التاريخ الاجتماعي يكن أحياناً في أماكن غير متوقعة. فلقد توصل فرانكلين بفكره - وكان محقا - إلى أن هذه المانعة تقوم بدورها على أحسن وجهء إذا كانت نهايتها رفيعة حادة؛ ولكن بعض العلماء خالفوا ذلك مدعين أن النهاية المكورة أفضل. وطلب إلى الجمعية الملكية في إنجلترا أن تكون حكما في ذلك الخلاف. ولكن هذه المجادلة العلمية سويت على مستوى أرفع واكثر بدائية؛ فقد أمر الملك جورج الثالث؛ في فورة غضبه على الثورة الأمريكية؛ أن تجهز كل الأبنية الملكية بمانعات صواعق ذات رؤوس مكورة, وغالبا ما يكون التدخل السياسي في الأمور العلمية مأساويا.

لقد عاش فرانكلين وأصدقاؤه العلم» فقد كان شغلهم الشاغل فكراً وعملا.

وكان فهم الطبيعة مصدر سرور عملي شديد لهم. ولقد كانوا رجالاء يحتلون مراكز هامة في المجتمع5 فقد كان فرانكلين رجلا سياسياء سواء أطبع أوراقاً مالية أم منشورات لاذعة لا حد لهاء وكانت سياسته عملية وموضوعية مثل تجاربه. فقد غير المقدمة المنمقة لوثيقة إعلان الاستقلال وجعلها مقدمة تتسم بالثقة والبساطة: «إننا نعتقد أن هذه الحقائق واضحة بذاتهاء فالناس جميعا خلقوا متساوين». وعندما نشبت الحرب بين إنجلترا والثوار الأمريكيين؛ كتب رسالة نارية صريحة إلى سياسي إنجليزي كان صديقا له:

«لقد بدأتم بحرق مدننا. انظروا إلى أيديكم. إنها ملطخة بدماء أقاربكم».

وأصبح وميض النار الأحمر صورة للعصر الجديد في إنجلترا . وتجلى ذلك في مواعظ جون وسلي وفي حمرة السماء الناجمة عن أفران الثورة الصناعية كتلك التي كانت تبدو في سماء أبيدال في مقاطعة يوركشايرء

ارتقاء الانسان

إحدى المراكز الأولى لصناعة الحديد والفولاذ الجديدة في إنجلتراء وكان سادة الصناعة في ذلك الوقت عمال الحديد المهرة؛ وكانوا رجالا أقوياء. دوق أخر اكيس ين ححا الصبافيي (القكاليى شبطانية المظطهي وكانت الحكومة تشتبه بحق بأن هؤلاء الرجال يؤمنون بأن الناس خلقوا متساوين. ولم يعد العمال في الشمال والغرب عمال مزارع: بل أصبحوا الآن مجتمعا صناعيا . وكان الواجب أن يقبضوا أجورهم نقدا لا عيناء غير أن الحكومات في لندن كانت بعيدة عن ذلك؛ ورفضت أن تسك مقدارا كافيا من قطع العملة المعدنية الصغيرة: فما كان من أصحاب أعمال الحديد المهرة - من أمثال جون ويلكنسون - إلا أن سكوا عملتهم المعدنية. وعليها صورهم. لا صورة الملك لاستعمالها في دفع أجور العمال. ودق ناقوس الخطر في لندن: هل كانت هذه مؤامرة جمهورية ضد الملكية؟ كلاء لم تكن مؤامرة. ولكنه كان صحيحا أن الاختراعات الجديدة أتت من عقول متجددة متحررة. وهكذا كان أول نموذج لجسر حديدي عرض في لندن,؛ قد اقترحه توم باين الذي كان شخصا ثوري النزعة معروفا في أمريكا وإنجلترا على السواء بأنه مناصر لحقوق الإنسان.

وفي تلك الأثناء بدأ الحديد الصب يُستعمل استعمالات جديدة ثورية من عمال الحديد المهرة أمثال جون ويلكنسون. فقد بنى ولكنسون أول قارب حديدي عام 1787ء وتباهى بأن هذا القارب سيحمل تابوته بعد موته. وفعلا فقد دفن في تابوت حديدي عندما مات عام 1808 وأبحر به القارب ماراً تحت جسر حديديء كان ولكنسون قد ساعد في بنائه عام 1779؛ و يقع هذا الجسر قرب مدينة في مقاطعة شروبشايرء لا تزال تدعى «الجسر الحديدي». ا

ويحق لنا أن نتساءل: هل نافست هندسة الحديد الكاتدرائية وبدأت تحل محلها؟ أجل.

فقد كان ذلك العهد عصرا بطوليا. ومن الذين شعروا بذلك وأدركوه توماس تلفورد الذي ملأ أرض إنجلترا بالحديدء وقد ولد تلفورد راعيا فقيراء ثم عمل كبناء متنقل؛ وأصبح بجهده الشخصي مهندس طرق وقنوات مائية؛ كما كان أيضا صديقاً للشعراءء وتشهد قناة لانفولين المارة فوق نهر «دي» بأن تلفورد كان عاملاً ماهراً في حديد الصب على المستوى الضخم.

الانطلاق نحو القوة

ولنصب الثورة الصناعية أبهة وفخامة رومانية. هي أبهة الرجال الجمهوريين.

و يصور عادة الرجال الذين صنعوا الثورة الصناعية على أنهم رجال أعمال؛ ذوو وجوه صارمة لا دافع لهم سوى مصالحهم الذاتية, وهذه الصورة خاطتة بالتأكيد؛ ذلك أن معظمهم كانوا مخترعين في الأصلء وعن هذا الطريق دخلوا معترك رجال الأعمال. كما أن غالبيتهم لم تكن منتمية إلى الكنيسة الإنجليزية بل كانوا ينتمون إلى جماعة النقاء المتزمت في المذهب التوحيدي أو إلى حركات مشابهة. وكان جون ويلكنسون خاضعاً لتأثير زوج أخته جوزيف بريستلي الذي اشتهر فيما بعد ككيميائي لامع ولكنه كان من القساوسة التوحيديين: وريما كان رائدا لمبدأ : «السعادة العظمى لأكبر عدد».

كان جوزيف بريستلي - بدوره - مستشاراً علمياً لجوشيا ودجوود الذي ننظر إليه عادة على أنه الرجل الذي صنع أواني الموائد البديعة للطبقة الأرستقراطية وللبلاط؛ ولكنه صنع تلك الأواني في مناسبات نادرة: عندما كان يكلف بذلك بشكل خاص. فقد صنع مثلاء عام 1774 مجموعة مائدة بلغت قرابة ألف قطعة مزينة بالرسوم لقيصرة روسيا كاترين الكبيرة؛ وبلغ ثمنها ما يزيد على 2000 جنيه إسترليني. وهو مبلغ ضخم بالنسبة لعملة تلك الأيام. ولكن أساس تلك المجموعة كان فخاره الخاص؛ والحقيقة أن كلفة ألف القطعة بدون رسوم الزينة لم تزد على خمسين جنيها إسترلينيا. ومع ذلك كان مظهرها ملكيا من كل ناحية فيما عدا - ريما - الرسوم الريفية الشاعرية؛ وقد كان فخار ودجوود الذي يعرف باسم زبدة الفخار قد جعله مشهوراً وثرياً رغم أنه لم يكن من البورسلان وإنما فخار من طين أبيض للاستعمال العادي. وكان من النوع الذي كان بوسع الرجل العادي شراؤه بسعر شلن للقطعة الواحدة. ومع الزمن كانت تلك الأواني هي التي غيرت وحورت مطابخ الطبقة العاملة أثناء الثورة الصناعية.

كان ودجوود رجلا فذاً ذا عقل مبتكر في مهنته في الأساليب العلمية التي جعلت صناعته أكثر دقة أيضاً. فقد اخترع طريقة لقياس درجات الحرارة العالية في الأتون الذي يشوي فيه مصنوعاته الفخارية: وكانت تلك االطريقة هيار ةاعر ميان لد مدرو متحرك ديه قطلعة فحارية اختبارية وتجدر الإشارة إلى أن قياس درجات الحرارة العالية مشكلة صعبة وقديمة واجهها العاملون في صناعة السيراميك والمعادن: وقد كان من المناسب

ارتقاء الانسان

(كما كانت الأمور تسير وقتها) أن ينتخب ودجوود عضواً في الجمعية الملكية.

لم يكن جوشيا ودجوود الاستثناء من القاعدة إذ كان هناك عشرات الرجال مثله. وقد كان عضواً في مجموعة مؤلفة من حوالي اثني عشر رجلا أطلقوا على أنفسهم «جمعية برمنجهام القمرية». (ولم تكن برمنجهام المدينة التي نعرفها اليوم: بل مجموعة من القرى الصناعية المتفرقة). وقد اتخذوا ذلك الاسم لأنهم كان يجتمعون عندما يكتمل القمر بدراً. واختير ذلك الموعد كي يتمكن الناس أمثال ودجوود - الذين كانوا يأتون من مسافات بعيدة - من السفر بسلام عبر الطرق الوعرة التعسة التي كانت خطرة في الليالي المظلمة.

ولكن ودجوود لم يكن أهم الصناعيين في هذه الجمعية: إذ أن أهم الصناعيين كان ماثيو بولتون الذي جلب جيمس واط إلى برمنجهام حيث كان بوسعهما صنع الآلة البخارية. وكان بولتون مغرماً بالحديث عن القياس وكان يقول إن الطبيعة قد قدرت أن يكون مهندساً لأنها جعلته يولد عام 8. لأن ذلك الرقم يمثل عدد البوصات المكعبة الموجودة في القدم المكعب! وكان الطب مهما في جمعية برمنجهام القمرية أيضاً. إذ كانت هنالك إنجازات وتطورات جديدة في ذلك المجال. وكان الطبيب ويليام وذرنغ قد اكتشف استعمال دواء منشط للقلب من نبات ديجتالس. ومن بين الآطياء المنتسبين للجمعية؛ الذين ظلوا مشهورين بعد ذلك. ايراسموس داروين؛ جد تشارلز داروين. وكان ودجوود نفسه جد داروين الآخر. إن الجمعيات من أمثال جمعية برمنجهام القمرية تمثل حسّ الذين عملوا الثورة الصناعية (وهو حس إنجليزي محض) في أن عليهم مسئولية اجتماعية. ولعل تسميتي لذلك الحس بالحس الإنجليزي ليس عادلا تماماً. ذلك أن هذه الجمعية تأثرت كثيراً ببنجامين فرانكلين وغيره من الأمريكيين الذين كانت لهم علاقة بها. والشعور السائد لدى أعضاء هذه الجمعية كان الإيمان البسيط بأن الحياة الجيدة تشمل أكثر من الكفاية المادية» ولكنها يجب أن تقوم على فقاعدة من الكفاية المادية.

وقد استغرق الأمر مائة عام قبل أن تصبح أهداف الجمعية القمرية المثالية حقيقة واقعة إبان العهد الفكتوري في إنجلترا . وعندما حصل ذلك

1 4

الانطلاق نحو القوة

أصبحت تلك الحقيقة عادية وحتى مضحكة؛ كما كانت البطاقة المصورة في ذلك العهد. ومن المضحك أن يظن المرء أن لبس الملابس الداخلية القطنية واستعمال الصابون يمكن أن يؤدي إلى تحول كبير في حياة الفقراء.

ومع ذلك فإن هذه الأمور البسيطة مثل الفحم في الموقد الحديدي؛, والزجاج في النوافذ. وإمكانية اختيار الطعام؛ أدت إلى ارتفاع باهر في مستوى المعيشة والصحة. وكانت المدن الصناعية بالقياس بمستوياتها الحالية عبارة عن أحياء قذرة متداعية الأبنية مزدحمتهاء ولكن - رغم ذلك - بالنسبة للناس الذين قدموا من الأكواخ الريفية. كان العيش في بيت منفصل ضمن صف طويل من تلك البيوت تحررا من الجوع والقذارة والمرض. وكانت تلك البيوت توفر بدائل عديدة يستطيع المرء أن يختار من بينها ما يريد بحرية. وتبدو لنا الآن غرفة النوم في ذلك العهد وقد علق على جدارها آية من الكتاب المقدس أو حكمة شيئًا مثيرا للشفقة؛ ولكنها بالنسبة لزوجة العامل كانت أول تجربة في أن يكون لها مكان خاص تشعر فيه بشيء من الكرامة. ومن المحتمل أن يكون استعمال السرير الحديدي قد أنقذ نساء من حمى النفاس اكثر مما فعلت «حقيبة الطبيب السوداء»: التى كانت بحد ذاتها ابتكاراً طبيا في ذلك الوقت. ا

وقد تأتت هذه الفوائد - بالطبع - من عملية الإنتاج بكثرة في المصانع: وكان نظام تلك المصانع مرعبا. وكل ما يذكر عن ذلك في الكتب المدرسية صحيح: ولكنه كان مرعبا بأسلوب قديم وتقليديء ذلك أن المناجم «والورش» الصناعية كانت رطبة ومزدحمة: يسودها الاستبداد والقهر قبل الثورة الصناعية بوقت طويل؛ وكل ما فعلته المصانع الجديدة أنها تابعت الأسلوب الذي كان متبعا في صناعة القرية من احتقار العاملين فيها دون شفقة.

ولم يكن التلوث الناجم عن هذه المصانع جديدا أيضاء فهنا أيضا كان ذلك تراثا من المنجم و«الورشة» وقد كانتا دوما مصدر تلويث لبيئة العمال. ونذهب إلى القول بأن التلوث أمر جديدء ولكنه ليس كذلك. انه تعبير آخر عن اللامبالاة غير الأخلاقية تجاه الصحة والحياة اللائقة التي كان من نتائجها أن كان الطاعون زائرا سنويا في القرون الماضية.

إن الشر الجديد الذي جعل المصنع مكانا مرعبا أمر مختلف تماماء فقد كان سيطرة سرعة الآلة على العمال والتحكم بهم. إذ أنه لأول مرة

ارتقاء الانسان

أصبح العمال يساقون بنظام وتوقيت غير إنساني: فقد كانت الطاقة تستمد أولا من قوة الماء. ثم من البخارء و يبدو لنا أنه جنون (وكان جنونا وقتها) أن تدور رؤوس أصحاب المصانع بالطاقة المتدفقة دون توقف من مراجل تلك المصائع. وهكذا بدأ التبشير بأخلاقيات جديدة؛. فأصبحت الخطيئة الكبرى وفقها ليست ارتكاب المعاصي أو القسوة: بل البطالة. وحتى مدارس الأحد حذرت الأطفال قائلة:

«لا يزال الشيطان قادرا على إيجاد بعض الأذى,

كي تقوم به الأيدي العاطلة عن العمل».

لقد كان تغير مقياس معدل الزمن في المصانع أمرا مرعبا ومخربا ولكن تغيير مقياس القوة أو الطاقة فتح أبواب المستقبل؛ فعلى سبيل المثال: بنى ماثيو بولتون - من الجمعية القمرية - مصنعا نموذجيا بديعا لأن نوع العمل المعدني فيه يعتمد على مهارة الحرفيين المهرة» والى هنا جاء جيمس وافلقبيتى القلة انتى تمذل كل القوة واتطاقة إلى اللحرك البخارى. ذلك آنه في هذا المصنع فقطء كان يمكن لجيمس واط أن يجد معايير الدقة الضرورية لجعل الآلة محكمة السد تماما لضبط البخار الذي يحرك مكابسها.

وفي عام 1776 كان بولتون شديد الغبطة بالمشاركة الجديدة مع جيمس واط لبناء المحرك البخاري. وعندما جاء جيمس بوسويل" ليقابل بولتون ذلك العام قال له بولتون بفخر: «سيديء إنني أبيع هنا ما يرغب به العالم كله: القوة». ويا لها من عبارة رائعة. وصحيحة أيضا.

أصبحت القوة شغل الناس الجديد» وبمعنى معين كانت فكرة جديدة في العلم. فقد ظهر أن الثورة الصناعية - أو الثورة الإنجليزية بالأحرى - كانت مكتشفة القوة. وبدأ البحث عن مصادر جديدة للطاقة في الطبيعة: الرياح. الشمسء الماءء البخارء الفحم. وفجأة برز سؤال حاسم: لماذا كل هذه المصادر واحدة: وماذا يربط بينها؟ سؤال لم يخطر على بال أحد من قبل. فحتى ذلك الوقت كان اهتمام العلم منصبا على استكشاف الطبيعة كما هي. أما الآن فقد برزت الفكرة الحديثة لتحويل الطبيعة من أجل الحصول على الطاقة منهاء وتحويل شكل من أشكال الطاقة إلى آخر: ووصلت إلى مقدمة واجهة العلم. وبشكل خاص تبين أن الحرارة شكل من أشكال الطاقة؛ وأنها تتحول إلى أشكال أخرى وفق معدل تحول ثابت. وضي

06

الانطلاق نحو القوة

عام 1824 كتب مهندس فرنسي يدعى سادي كارنو - بعد أن فحص المحرك البخاري - رسالة علمية بعنوان «القوة المحركة للحرارة»آبادا وضع فيها أسس العلم الذي عرف بعد ذلك بعلم الثرمو ديناميكا - أن الحركة الحرارية وهكذا أصبحت الطاقة مفهوما مركزيا أساسيا في العلم؛ وأصبح الاهتمام الرئيسي للعلم بوحدة الطبيعة؛ التي تحتل الطاقة فيها مكانة اللباب.

ولم يقتصر الاهتمام بالطاقة على العلم وحده. إذ يمكن مشاهدة آثار ذلك في الفنون أيضاء حيث تكن المفاجأة. فإذا كان يحدث في الأدب أثناء هذه التطورات العلمية الصناعية؟ كانت هنالك موجة من الأدب الرومانسي حوالي عام 1800. وهنا قد يتساءل المرء: كيف يمكن للشعراء الرومانسيين أن يهتموا بالصناعة؟ إن مفهوم الطبيعة الجديد كناقلة للطاقة قد صدمهم كما لو عصفت بهم عاصفة. وفي الواقع فقد أحب الشعراء كلمة «العاصفة» واعتبروها مرادفة لكلمة «الطاقة» كما في أبيات وجمل مثل «العاصفة والدفع» ونرى ذروة ذلك في قصيدة صامويل تايلور كولر يدج «ترنيمة البحار القديم» تترافق مع عاصفة تحطم ذلك الهدوء الميت وتبعث الحياة من جديد.

وفي هذا الوقت - أي حوالي عام 1799 - بدأ فيلسوف ألماني يدعى فردريش فون شلينغ نهجا فلسفيا جديداء دعاه فلسفة الطبيعة وقد ظلت هذه الفلسفة قوية في ألمانياء وجاء كولر يدج بهذا المبدأ إلى إنجلترا.ء ثم أخذه عنه جماعة شعراء البحيرة: كما أخذوه عن آل ودجوود الذين كانوا أصدقاء كولر يدج ويساعدونه بمرتب سنوي. وفجأة سيطرت على الشعراء والفنانين فكرة مؤداها أن الطبيعة هي منبع القوة وأن أشكالها المتعددة إنما هي تعابير عن نفس القوة المركزية أي الطاقة.

وقد ذهب الشعر الرومانسي إلى أن مصدر الطاقة ليست الطبيعة وحدهاء بل أكد بأوضح أسلوب أن الإنسان نفسه هو حامل طاقة إلهية أو على الآقل طبيعية. وقد خلقت الثورة الصناعية الحرية - بصورة عملية - للرجال الذين أرادوا تحقيق ما لديهم من إمكانات. وهذا مفهوم لم يكن تصوره ممكنا قبل مائة عام: بيد أن الفكر الرومانسي ألهم هؤلاء الرجال بأن يجعلوا من حريتهم هذه شخصية ذات معنى جديد في الطبيعة؛ ولقد عبر عن ذلك - ببساطة بالغة وبأفضل صورة - أعظم الشعراء الرومانسيين

167

ارتقاء الانسان

قاطبة: و يليام بليك عندما قال: «الطاقة هي البهجة السرمدية».

فالكلمة الرئيسية هي «البهجة». والمفهوم الأساسي هو «التحرر» الذي يتجسد في أحد معانيه كحق إنسانيء وبالطبع عبّر الرجال الطلائعيون في ذلك العصر عن هذه الأفكار بالاختراعات. وهكذا أنتجوا أفكارا عجيبة غريبة عديدة بهدف إدخال البهجة والسرور في قلوب الطبقة العاملة خلال أمسيات يوم السبت؛ وحتى يومنا هذا نجد أن معظم الطلبات المكدسة لدى مكاتب براءات الاختراع تحوي شيئًا من الجنون (مثل المخترعين أنفسهم) . ويمكننا أن نشيد شارعا يمتد حتى القمر مفروشا بهذه الجنونيات التي لا معنى أو فائدة لهاء ومع ذلك فهي ذات روح جريئة نشطة كالوصول إلى القمرء لنأخذ مثلا جهاز الزويتروب وهو آلة دائرية كانت تستخدم في العصر الفكتوري لعرض الصور المتلاحقة بحيث تمر أمام العين بشكل متتابع» وهي عملية تعادل - في إثارتها - قضاء أمسية في إحدى دور السينما في هذه الأيام؛ ولكنها تأخذ من الوقت أقل بكثير. وكذلك الأوركسترا الأوتوماتيكية التي كانت تعزف أنغاما قليلة. كلها محشوة بحيوية بيتية ليس فيها شيء من الذوق الرفيع. وكان يوجد مقابل كل اختراع قليل الفائدة يصنع للاستعمال المنزلي مثل آلة تقطيع الخضار اختراع رائع آخر كالهاتف مثلاء وفي النهاية علينا في آخر شارع اللذة والسرور أن نوقف أسس هذا السيل من المخترعات لآنها لا تخدم غاية ولا تعمل شيئًا.

إن الناس الذين صنعوا المخترعات الشاذة والذين صنعوا المخترعات العظيمة إنما كانوا أبناء قالب واحد,ء ولننظر إلى الاختراع الذي اكمل وتوج الثورة الصناعية التي بدآت بالقنوات؛ ونعنى به خطوط السكك الحديدية: التي يعود الفضل في جعلها ممكنة إلى ريتشارد تريفيثك وهو حداد من كورنوولء وكان مصارعا ورجلا قوي البنية. فقد حول هذا الرجل المحرك البخاري إلى مجموعة من قوة متحركة؛ وذلك عن طريق تعديل محرك واط ذي المحور إلى محرك ذي ضغط مرتفع؛ وكان هذا الاختراع عملا مانحا للحياة؛ إذ فتح شبكة من شرايين المواصلات في جميع أنحاء العالم؛ وجعل إنجلترا بمكانة القلب فى هذه الشبكة.

إننا ما نزال في 5 الثورة الصناعية؛ ومن الأفضل أن يكون الأمر كذلك. لأنه لا يزال لدينا الكثير من الأشياء التي يجب أن تصحح. ومع ذلك

الانطلاق نحو القوة

فقد جعلت عا منا أغنى وأصغرء وجعلته لأول مرة عالمنا نحن. وأنا أعني قولي هذا حرفيا: فقد أصبح العالم عالمنا - عالم كل إنسان.

ومنن بدايتها الأولى. عندما كانت الثورة الصناعية تعتمد على قوة الماء كمصدر للطاقة, كانت هذه الثورة قاسية وظالمة بالنسبة لهؤلاء الذين غيرت مجرى حياتهم: وهكذا تكون الثورات؛ وهذه طبيعتهاء ذلك أن الثورات - بحكم كونها كذلك - تتحرك بسرعة بالنسبة للذين تصيبهم؛: ومع ذلك فقد أصبحت هذه الثورة مع الزمن ثورة اجتماعية حققت المساواة الاجتماعية بين الناس والمساواة في الحقوق؛ وضوق ذلك وأهم منه المساواة الفكرية التي نعتمد عليهاء فأين يمكن لرجل مثلي أو مثلك أن يكون لو ولدنا قبل عام 0 سنكون حتما في وسط الثورة الصناعية؛. وسنجد من الصعب أن ندرك مضمون تلك الثورة» ولكن المستقبل سيذكر عنها أنها في ارتقاء الإنسان كانت خطوة وقفزة قوية كما كانت قفزة عصر النهضة: فقد وطد عمر النهضة كرامة الإنسان وقدره؛ أما الثورة الصناعية فقد أرست أسس وحدة الطبيعة.

وتم كل ذلك بجهد العلماء والشعراء الرومانسيين الذين أدركوا أن الريح والبحر والنهر والبخار والفحم قد نجمت كلها في الأصل من حرارة الشمس» وأن الحرارة إنما هي شكل من أشكال الطاقة؛ لقد فكر رجال عديدون في ذلكء؛ ولكن الرجل صاحب الفضل في تقرير هذه الحقيقة هو جيمس برسكوت جول من مانشسترء وقد ولد جول عام 1818؛: ومنذ العشرين من عمره وقف حياته على إجراء التجارب الدقيقة بهدف تعيين المعادل الميكانيكي للحرارةء أي تعيين معدل تحول الطاقة الميكانيكية إلى طاقة حرارية: وبما أن هذه المهمة تبدو وقورة ومملة فيجب أن أقص عليكم حكاية مضحكة عنه:

في صيف عام 1847 كان الشاب و يليام طومسون (الذي أصبح قيما بعد لورد كلفين العظيم. الشخصية البارزة في العلم البريطاني) يتجول في منطقة جبال الألب منتجع السادة البريطانيين بين شاموني وقمة مون بلان. وهناك التقى بسيد بريطاني آخرء. غريب الأطوار والسلوك: جيمس جول الذي كان يحمل مقياس حرارة ضخماء وتتبعه زوجته في عربة على بعد مسافة قصيرة: لقد أراد جول طوال حياته أن يبين أن الماء عندما يسقط

؟6

ارتقاء الانسان

من علو 778 قدما ترتفع درجة حرارته بمقدار درجة فهرنهايت واحدة, والآن اغتئم جول فرصة شهر عسله لزيارة شاموني (تماما كما يزور الأزواج الأمريكيون شلالات نياغارا) ليجعل الطبيعة تُجرى له هذه التجرية: فالشلال هنا نموذجيء ومع أن ارتفاعه لا يصل إلى 778 قدماء إلا أن مسقطه كاف للحصول على ارتفاع في درجة الحرارة قدره نصف درجة فهرنهايت. ومع الأسف لم ينجح فعلياً في تحقيق هده لأن الشلال يتكسر كثيراً إلى رذاذ: مما أدى إلى فشل التجربة.

إن قصة هؤلاء السادة البريطانيين في أعمالهم العلمية الغريبة ليست عديمة الصلة بالموضوع الذي نحن بصدده. إذ أن أناساً كهؤلاء هم الذين جعلوا الطبيعة رومانسية؛ كما أن الحركة الرومانسية في الشعر سارت مع هؤلاء العلماء خطوة خطوة؛ ونلمس ذلك جليا في شعر شعراء مثل غوته (الذي كان عالما أيضا) وفي موسيقى موسيقيين مثل بيتهوفن؛ ونرى ذلك أول كل شيء في شعر ورد زورث حيث نلمس أنه يرى الطبيعة كخفقات متسارعة للروح: لأن الوحدة فيها كانت مباشرة وآنية في القلب والعقل؛ وكان ورد زورث قد مر عبر جبال الآلب عام 1790 عندما جذبته الثورة الفرنسية إلى القارة الآوروبية. وقال عام 1798 في قصيدته «دير تنترن» ما لا يمكن أن يقال بشكل أفضل:

«لأن الطبيعة بالنسبة لي كانت كل شيء في تلك اللحظة

لا يسعني أن أرسم ما كنته آنذاك.

فقد كان هدير الشلال يطاردني مثل العاطفة».

«إذن فالطبيعة بالنسبة لي هي كل شيء» وهذا ما لم يستطع جول أن يعبر عنه بمثل هذه البلاغة. ولكنه قال بالفعل «إن العوامل الكبيرة في الطبيعة سرمدية وغير قابلة للفناء» وعني بذلك نفس ما عناه ورد زورث.

]00

الانطلاق نحو القوة

ليهو امش

)ع( العجلة المائية عبارة عن دولاب يدور عندما يسقط عليه تيار ماء (2) كاتب تاريخ حياة بولتون وغيره.

10

8 سلم الخليقة

قدّم نظرية التطور بالانتقاء الطبيعي - في الخمسينات من القرن الماضي - عالمان كانا يعملان مستقلين عن بعضهما. أحد هذين الرجلين هو تشارلز داروينء والآخر الفرد رسل والاس. وكان لكل منهما بعض الخلفية العلمية؛ ولكنهما كانا في الصميم من الطبيعيين/'". وكان داروين قد درس الطب لمدة سنتين في جامعة أدنبرهء قبل أن يقترح والده - الذي كان طبيباً ثريا - أن يتحول إلى دراسة الدين كي يصبح قسيساء وأرسله بالتالي إلى جامعة كامبردج. أما والاس فكان أبواه فقيرين: وكان قد ترك المدرسة عندما كان في الرابعة عشرة من عمره؛ ولكنه تابع دراسته في بعض المعاهد العمالية في لندن وفي ليستر ليصبح مساعد مساح ومعلما للتلامين الصغار.

وهنالك في الحقيقة مدرستان أو أسلوبان للتعليل والتفسير يسيران جنباً إلى جنب خلال ارتقاء الإنسان, واحدة هي تحليل التركيب الطبيعي للعالم» والثانية هي دواسة عمليات الحياة يدقنها وتنوعهاء وتذبذب دوراتها من الحياة إلى الموت بالنسبة للفرد وللنوع؛ ولم تلتق هاتان المدرستان إلا

|0535

ارتقاء الانسان

عند ظهور نظرية التطور. لأنه حتى ذلك الحين كان هنالك تعارض لم يكن من الممكن حله أو البدء بذلك حول الحياة.

إن تناقضات علوم الحياة: التي تجعلها مختلفة عن العلوم الفيزيائية من حيث النوع تبدو في تفاصيل الطبيعة في كل مكان: فنحن نراها حولنا في الطيور والأشجار والعشب والقواقع وكل شيء حيء ذلك أن مظاهر الحياة وتعابيرها وأشكالها متنوعة ومختلفة عن بعضها إلى حد أنها يجب أن تحوى عنصراً ضخماً من الصدفة والعوامل العرضية؛ ومع ذلك فإن طبيعة الحياة منتظمة في جميع أشكالها بحيث إنها لابد أن تكون مقيدة بالعديد من الضروريات.

ولذلك فليس من المدهش أن علم الآحياء - كما نفهمه - بدأه الطبيعيون في القرنين الثامن عشر والتاسع عشرء وكان هؤلاء الطبيعيون ممن يراقبون الطبيعة الريفية ويرقبون الطيور وكان هؤلاء من رجال الدين والأطباء والسادة الذين لا عمل لهم سوى العيش في بيوتهم الريفية. وتراودني الرغبة في أن أسمي كل هؤلاء «السادة النبلاء في إنجلترا في العهد الفكتوري» لأنه لا يمكن أن يكون من محض الصدقة؛ أن يتوصل إلى نظرية التطور مرتين شخصان عاشا في نفس الوقت وفي نفس الثقافة - ثقافة عهد الملكة فكتوريا في إنجلترا .

كان داروين فى بداية العقد الثالث من عمره عندما أزمعت البحرية اللكبة البريطافية إرساق مقودة للساحة السماة يفل التخطيظ بناجل أمريكا الجنوبية ووضع خريطة له. وقد عرض عليه أن يرافق هذه الرحلة بوظيفة «طبيعي» دون أجر. و يعود الفضل في هذه الدعوة إلى أستاذ النبات الذي كان صديقاً له. في جامعة كامبردج؛ رغم أن داروين لم يكن مولعا بالنبات بل بجمع الخنافس:

«سأقدم برهانا على حماستي واهتمامي بهذا الموضوع: ففي أحد الأيام عندما كنت أنزع لحاء شجرة قديم رأيت زوجا نادرا من الخنافس؛ وأمسكت بواحد منهما في كل يد. وعندئن رأيت جعلا ثالثا من نوع جديد لا أحتمل أن أفقده. فما كان مني إلا أن وضعت الجعل الذي كان في يدي اليمنى في 0 ب

عارض والد داروين ذهابه في هذه الرحلة؛ كما لم يعجب شكل أنف

1 4

سلم الخليقه

داروين قبطان السفينة. لكن خاله من أل ودجوود أوصى به فذهب. وأبحرت السفينة يوم 27 كانون الأول (ديسمبر) من عام 1831.

وقد حولت السنوات الخمس التى قضاها داروين على السفينة شخصيته: فقد كان قبل ذلك مراقبا عطوفا هادئىّ الطباع للطيور والأزهار والحياة في الريف الذي ترعرع فيه؛ ولكن ذلك تفجر كله إلى عواطف قوية جياشة في أمريكا الجنوبية؛ وعاد إلى وطنه مقتنعا بأن الأنواع تأخذ اتجاهات مختلفة عندما تعزل عن بعضها وأن هذه الأنواع قابلة للتغير. ولكنه عندما عاد إلى الوطن لم يستطع أن يفكر بآي أسلوب يبعد هذه الأنواع عن بعضها في صفاتهاء وكان ذلك عام 1836 .

وعندما توصل داروين إلى تعليل لتطور الأنواع بعد سنتين من ذلك حياته لولا أن إنسانا آخر مختلفا اختلافا كبيرا اتبع بدقة كبيرة نفس وهو الإنسان المنسي ولكنه مع ذلك كان الشخصية الحيوية في نظرية التطور بالانتقاء الطبيعى.

هذا الشخص هو الفردرسل والاسء وهو رجل عملاق من عائلة متواضعة كتلك العائلات التي صورها ديكنز في قصصه. وكان لعائلته تاريخ مضحك بقدر ما كان تاريخ عائلة داروين مليئًا بالشكليات والتقاليدء وكان والاس عام ١836‏ صبيا دون العشرين من عمره فقد ولد عام 1823: وهو بذلك أصغر من داروين بأربعة عشر عاما. ولم تكن حياة والاس سهلة. حتى في

«لو كان والدي متوسط الغنى؛ لاختلفت حياتي كلها . وبالرغم من أنني كنت سأولي العلوم - دون شك - بعض اهتماميء إلا أنه كان من غير المحتمل

هكذا كتب والاس عن حياته المبكرة. عندما كان عليه أن يجد طريقة الأراضيء التي لم تكن تتطلب دراسة جامعية: والتى علمه إياها أخوه الأكبر. ومات أخوه عام 1846 إثر تعرضه لبرد أصابه أثناء عودته في عريبة قطار

05

ارتقاء الانسان

مكشوفة من الدرجة الثالثة. من اجتماع اللجنة الملكية التي كانت تبحث شئون شركات السكك الحديدية المتنافسة.

ومن الواضح إذن أن حياة والاس كانت في الهواء الطلق؛ الأمر الذي أدى إلى اهتمامه بالنباتات والحشرات. وعندما كان يعمل فى ليستر قايل شحصنا ل ذات الاقضاناث ولعثه كان مقنفا مدرجة قشل من والاسن. وقد أدهش هذا الصديق والاس عندما أخبره أنه قد جمع عدة مئات من أنواع مختلفة من الخنافس من ضواحي ليسترء وأن هنالك أنواعاً أخرى منها لم

«لو سئلت قبلاً كم هو عدد الأنواع المختلفة من الخناضىس التي يمكن أن يجدها المرء في منطقة صغيرة قريبة من مدينة ؟ لأجبت من المحتمل أن تبلغ الخمسين. ولكنني تعلمت الآن أنه من المحتمل أن يكون هناك ما يربو على ألف نوع ضمن مسافة عشرة أميال».

كان ذلك كشفاً هاماً بالنسبة لوالاس أدى إلى تغيير مجرى حياته وكذلك حياة صديقه؛ وكان هذا الصديق هو هنري بيتس الذي قام فيما بعد بأبحاث شهيرة حول المحاكاة التنكرية بين الحشرات.

وفى هذه الأثناء كان على الشاب والاس أن يكسب قوت يومه؛ ولحسن الخط أن الوك كان حيداً بالقنية اشاحي الأراشي» لأن مشامري اليك الحديدية في الأربعينات من القرن الماضي احتاجوا إلى شخص مثل والاس» وهكذا كلف والاس بأن يمسح طريقاً محتملاً لمد خط حديدي في وادي نيث في جنوب ويلز. وكان فنياً يقوم بعمله بإخلاص كما كان أخوه وككل العمال المهرة في العصر الفكتوريء. ولكن والاس كان محقاً في شكه بأنه حجر شطرنج في لعبة تصارع القوىء ذلك أن معظم عمليات المسح كانت تهدف إلى تثبيت ادعاء شركة بملكية أرض ضد أخرىء وفعلا فقد حسب والاس أن عُشر الخطوط فقط من بين التي تم مسحها مدت بالفعل.

وكان ريف ويلز متعة للطبيعي الذي يخرج إلى هناك أيام الآحاد سعيداً بعلمه كسعادة المصور في فنه. وهكذا بات والاس يجمع ويراقب بنفسه باهتمام وحماس متزايدين اختلاف أشكال الكائنات الحية وتنوعها في الطبيعة وهو الأمر الذي بقى عالقاً في ذاكرته طوال حياته.

«وحتى في الأوقات التي كنا فيها منشغلين كانت لدى أيام الآحاد التي

06

سلم الخليقه

كنت فيها حراً تماماء وقد اعتدت أن أمشي مسافات طويلة عبر الجبال مع صندوقي الذي أجمع فيه الحشرات ثم أعود به إلى البيت مليئًا بالكنوز. وفي تلك الأوقات أحسست بتجربة الفرحة التي يولدها عادة اكتشاف نوع جديد من أنواع الحياة في نفوس محبي الطبيعة؛ وكانت تلك الفرحة تقريباً مساوية لتلك التي شعرت بها فيما بعد كلما أمسكت بنوع جديد من الفراشات في الآمازون».

ووجد والاس كهفاً في إحدى جولاته في نهاية أسبوع: وكان مدخل الكهف بداية نزول النهر تحت سطح الأرضء فقرر عندئنذ أن يبيت هناك ليلته. فكان كما لو أنه كان يُعد نفسه - دون وعي منه - للحياة في الجلاء.

«أردنا المبيت خارج البيت مرة؛ دون فراش ولا مأوى سوى ما توفره الطبيعة. وأظن أننا عزمنا عن قصد ألا نقوم بأية استعدادات: وأن نبيت فى الجلاء هناك كما لو أننا أتينا صدفة إلى مكان ما فى بلد مجهولء وكنا 52000 للنوم هناك». ا

وفي الحقيقة لم ينم والاس مطلقاً تلك الليلة.

وعندما بلغ والاس الخامسة والعشرين؛ قرر أن يتفرغ لدراسة الطبيعة, وكانت هذه مهنة غريبة في إنجلترا في عهد الملكة فكتوريا. إذ كان ذلك يعني أن عليه أن يبقى في بلدان غريبة لفترات يجمع فيها النماذج والأنواع المختلفة. كي يبيعها بعدئن إلى المتاحف وجامعي الحشرات في إنجلتراء وقرر صديقه بيتس المجيء معه. وهكذا انطلقا كلاهما عام ١848‏ ومعهما 0 جنيه؛ وأبحرا نحو شواطي أمريكا الجنوبية» ومن ثم توغلا مسافة ألف ميل باتجاه أعالي الأمازون إلى أن وصلا مدينة ماناوس التي تقع عند التقاء نهري الأمازون وريونيغرو.

وقبل هذه الرحلة لم يكن والاس قد سافر أبعد من ويلزء ولكنه لم يداخل نفسه الخوف الشديد من الغرية والغرابة» فمنن لحظة وصوله كانت تعليقاته جازمة وصادرة عن ثقة بالنفس. فحول موضوع العقبان مثلا سجل ملاحظاته وأفكاره في كتاب «قصة الرحلات في الأمازون وريونيغرو» بعد خمس سئوات: ١‏ ْ

«كانت العقبان السوداء متواجدة بكثرة» ويظهر أنها كانت مضطرة لذلك بسبب الطعام ذلك أنها كانت مجبرة على أكل ثمار البلح في الغابة عندما لا

107

ارتقاء الانسان

تجد طعاماً سواه؛ وأنا مقتنع من مشاهدات متكررة أن العقبان تعتمد كلية على البصر - وليس على حاسة الشم - في البحث عن غذائها».

وافترق الصديقان عند مدينة ماناوس. حيث سار والاس مع مجرى نهر الريونيغرو؛ فقد كان يبحث عن أماكن لم يستكشفها كثيراً محبو الطبيعة. لآنه مادام كان يقصد كسب رزقه عن طريق جمع نماذج الآنواع فإن عليه العثور على عينات لأنواع غير معروفة أو نادرة على الأقل.

وكان مستوى مياه النهر عاليا بسبب الأمطارء مما مكن والاس ومن معه من الهنود الحمر من الوصول إلى داخل الغابة بزوارقهم المصنوعة من جنذوع الأشجار المجوفة . وهناك كانت أغصان الأشجار تتدلى على صفحة الماء وغمرت والاس في البداية الكآبة التي كانت تغلف الغابة؛ لكنه سرعان ما أصابته نشوة عندما رأى التنوع في الغابية. وأخن يُخمن: كيف يمكن أن تبدو هذه المشاهد المذهلة من الجو؟

«إن ما يمكن قوله حول هذه الخضرة الاستوائية أن هنالك عدداً أكبر من الأنواع وتنوعاً أكثر في الأشكال مما يوجد في المناطق المعتدلة.»

«وربما لا توجد بلاد في العالم تحوي مثل تلك الكمية من النبات الأخضر التي توجد في وادي نهر الأمازون»: فمساحته بأكملها - باستثناء بعض البقاع الصغيرة - مكسوة بطبقة كثيفة من الغابات البداثية العالية التي هي أكثر امتداداً وكثافة وانتشاراً - دون فكاك - من أية غابة أخرى على سطح الأرض.»

«إن مجد هذه الغابات بكامله لا يرى إلا إذا تهادى المرء في منطاد (بالون) فوق سطح الغابة المزهر المتموج» ومتعة كهذه قد تكون من نصيب مسافري المستقبل.»

وعندما دخل والاس قرية هندية أحس بالإثارة والخوف. ولكن شعوره الذي بقي أخيراً كان السرور وهي سمة خاصة به.

كان اعظم إحسانن غير منتطر بالدمشة واشرئحة نتييتة اجتمافي لآول مرة مع إنسان لا يزال على حالته الطبيعية الأولى؛ والعيش معه ومع متوحشين لم يفسد وحشيتهم شيء إطلاقاً. وكان كل فرد منهم يقوم بعمله أو متعته بطرق وأساليب لا علاقة لها بالرجل الآبيض وأساليبه:؛ وكانوا يمشون بحرية إنسان الغابات المستقبل.. دون أن يعيرونا أي انتباه. نحن

1١8

سلم الخليقه

الذين لم نكن بالنسبة إليهم سوى مجرد غرباء من جنس أجنبي».

وهم - من حيث كل التفاصيل - قوم مختلفون ومبتكرون ويعتمدون على أنفسهم مثل الحيوانات المتوحشة في الغابات. ومستقلون وبعيدون تماما عن كل ما له علاقة بالحضارة: وقد استطاعوا أن يعيشوا حياتهم بأسلوبهم الخاص لأجيال لا تعد ولا تحصى قبل أن تكتشف أمريكا.

وقد اتضح أن هؤلاء الهنود ليسوا عنيفين بل أناس يحبون مساعدة الآخرين: وكانت النتيجة أن استدرجهم والاس إلى العمل في جمع العينات المختلفة.

«خلال الفترة التي بقيتها هناء والتي امتدت أربعين يوماء حصلت على ما لا يقل عن أربعين نوعاً من الفراشات كانت جديدة تماما بالنسبة ليء إلى جانب مجموعة محترمة من الرتب الأخرى. وفي أحد الأيام جيء لي بتمساح صغير من نوع نادر عليه نتوءات طولية ودرنات مخروطية الشكل وقد سلخت جلده وحنطته أمام عيونهم: حيث أثار العمل تسليتهم وسرورهم وقد راقب ما كنت أفعل باهتمام وتركيز ما لا يقل عن ستة أشخاص منهم».

وعاجلا أو آجلاء وسط مسرات الغابة والعمل المضني فيها بدأ السؤال المتقد يشتعل في ذهن والاس الحاد: كيف حدثت كل هذه التنوعات في الطبيعة 5 وكيف تكونت هذه الأنواع المتشابهة جداً في تصميمها وشكلها العامة ومع ذلك فتفاصيلها متغيرة مختلفة. ومثل داروين انتبه والاس إلى الاختلافات الموجودة بين الآنواع المتجاورة: وبدأ مثله أيضا يتساءل عن كيفية تطور هذه الآنواع بصورة متميزة عن بعضها.

«ليس ثمة قسم من التاريخ الطبيعي اكبر إثارة وتثقيفاً من دراسة توزع الحيوانات الجغرافيء. ففي مواقع لا تبعد عن بعضها بأكثر من خمسين أو مائة ميل؛ غالباً ما نجد في الموقع الأول أنواعاً من الحشرات والطيور غير موجودة في الموقع الآخرء فهناك إذن بالتأكيد نوع من الحد يقرر مدى كل نوع وانتشاره وتوزعه؛ أي أن ثمة عاملاً خارجياً خاصاً يعين الخط الذي لا يجتازه أي نوع من خارجه».

وكان والاس مهتما دوما بالمشكلات الجغرافية؛ وفيما بعد عندما عمل في أرخبيل الملايو بتن أن الحيوانات الموجودة في الجزر الغربية من الأرخبيل تشبه الأنواع الموجودة في آسياء وأن تلك الموجودة في الجزر الشرقية تشبه

100

ارتقاء الانسان

تلك الموجودة في استراليا. ولا يزال الخط الذي يفصل بينها يسمى حتى اليوم خط والاس.

وكان والاس مراقبا حاد البصر والبصيرة للإنسان كما كان للطبيعة, وله نفس الاهتمام بأصل الفروق والاختلافات: غفي عصر كالعصر الفكتوري الذي كان الناس فيه يسمون أهل الأمازون «بالوحوش» نجد أن لدى والاس تعاطفاً نادراً مع ثقافتهم: فقد فهم ماذا تعني اللغة والاختراع والعادات لهم وربما كان أول شخص يدرك الحقيقة بأن البون الذي يفصل بين حضارتهم وحضارتنا أقصر بكثير مما نظن:؛ وبعد أن فكر في مبدأً الانتقاء أو الانتخاب الطبيعي أدرك أن هذا ليس صحيحاً فقط بل نتيجة بيولوجية منطقية 67

«إن الانتقاء الطبيعي لا يمكن أن يكون قد منح الإنسان المتوحش دماغاً يفوق دماغ القرد إلا بدرجات قليلة؛ بينما يمتلك هذا الإنسان في الواقع دماغاً لا يقل إلا قليلاً عن دماغ الفيلسوف. إن خلق الإنسان يمثل ظهور مخلوق أصبحت فيه تلك القوة الغامضة المدركة التي ندعوها «العقل» وهي ذات أهمية تفوق بكثير مجرد بنيته الجسدية».

وكان والاس ثابتاً في احترامه وتقديره للهنود الحمر وقد كتب قصيدة وصفية لقصة حياتهم عتادنا أقام بينهم في قرية جافيت عام 185١‏ :

هناك قرية هندية؛ تلفها الغابات,

الغابات المظلمة السرمدية التي لا حدود لهاء

ذات الأوراق المتنوعة.

هنا مكثت فترة» إنسان أبيض وحيد

بين مائتي نفس أخرى.

وفي كل يوم يناديهم العمل؛ فيذهبون

لقطع أشجار الغابة؛ أو في قارب صغير

كي يصيدوا السمك بسنارة أو سهم أو رمح

و يسقفون أكواخهم بسعف النخيل؛

يحميهم من عواصف الشتاء وأمطاره.

وتحفر النساء الأرض للحصول على جذور المانديوكا

سلم الخليقه

ويغتسلن في الجدول كل صباح ومساءء

و يلعبن كحوريات البحر في الأمواج المتلألئة

والأطفال الصغار عراة؛ أما الأولاد

والرجال فلا يلبسون غير قطعة قماش صغيرة.

وكم تبهجني رؤية أولئك الأطفال العراة.

بأطرافهم المتناسقة, و بشرتهم الحمراء البنية: الناعمة المتألقة, وحركاتهم المليئة بالرشاقة والصحة.

عندما يركضون. و يتسابقونء؛ و يصيحونء و يقفزون

و يسبحون أو يغطسون تحت الجدول السريع

وكم أرثي لحال الأولاد الإنجليز. بأطرافهم النشيطة

وقد قيدتها الملابس الضيقة وحجزت عنها الحرية والحركة. بيد أن شفقتي على الفتيات الإنجليزيات

تفوق ذلك بكثير. فخصورهن وصدورهن...

مقيدة بأداة للتعذيب اسمها المشد.

وكم أود لو كنت هندياً أعيش هنا قانعاً

راضياً أصيد السمك والحيوانات: وأجدف

بقاربي الصغير وأرى أطفالي يكبرون

مثل أولاد الظباء البرية. صحيحي

الأجسام: و بعقول هادئة بسلام

أغنياء بلا ثروة. سعداء بغير ذهب

وتختلف هذه العاطفة كثيراً عن المشاعر التي أثارها هنود أمريكا الجنوبية

لدى مشارلخ ذاررون. عدجا قال ذاروين سيكان أرض الفيران في تصني الظررف العتريى من [مريها الجلوبية. شعريالة عرو يقش لاسن كلنباته زوسومة الت ردرنها فى كتاية ورودلة بقينة البيقل» ويبنا لا شف قي أن الناقيى القايبى اليم قل أكى على عادات يان كلت المنظطقة ولفن الصنور الشى الخدت الهم طن الغرن التاسع حقتركبية امع لم يكونوا بالوحشية الغ خلهرواايها لدارودن. وإفنام حودقه رلى الوطن طبع دارودن مع قبطنان

السفينة نشرة في مدينة رأس الرجاء الصالح. يوصي بها بالأعمال التي

يمكن أن تقوم بها البعثات التبشيرية لتغيير حياة هؤلاء المتوحشين. وقد

ارتقاء الانسان

قضى والاس أربع سنوات في حوض الأمازون. ثم حزم أمتعته ومجموعاته؛ و بدأ رحلة العودة إلى الوطن.

«أصابتني الحمى والبرداء مرة ثانية» وكنت في غاية الضيق لعدة أيام. وهطل المطر بشدة و بصورة مستمرة تقريباً. وأصبحت العناية بطيوري وحيواناتي غاية في الصعوبة والإزعاج. وذلك بسبب اكتظاظ الزورق الصغير الذي كنا فيه وصعوبة تنظيفها أثناء المطر. وكانت النتيجة أنه كانت تموت بعض هذه الطيور والحيوانات كل يوم. وكثيراً ما تمنيت - يأساً - لو لم تكن لي بها صلة؛ رغم أنني منذ أن جمعتها قررت المثابرة في الحفاظ عليها. ولم يبق من مجموعة تقارب المائة من الحيوانات والطيور التي جمعها أو اشتريتها سوى أربعة وثلاثين».

وهكذا كانت رحلة العودة إلى الوطن سيئّة من البداية. وعلى أية حال فقد كان والاس شخصاً سين الحظ على الدوام.

«في العاشرة من حزيران (يونيو) غادرنا مدينة ماناوس مبتدئين الرحلة بطابع سيىّ بالنسبة لي. فبعد أن ودعت أصدقائي وركبت السفينة فقدت طائر الطوقان و يظهر أنه طار عن ظهر السفينة دون أن يلحظه أحد؛ ثم غرق دون شك».

كان اختياره تلك السفينة منتهى الحظ السيئ؛ فقد كانت تحمل شحنة كبيرة من مادة راتنجية قابلة للاشتعال؛ و بعد ستة أسابيع من إبحار هذه السفينة اشتعلت فيها النار في السادس من آب (أغسطس) من عام 1852 .

«نزلت إلى غرفتي وكانت قد أصبحت شديدة الحرارة وممتلئة بالدخان؛ لأبحث عما يستحق الإنقاذ. فأخذت ساعتي وصندوقاً صغيراً من القصدير فيه بعض القمصان ودفتران قديمان كنت قد سجلت فيهما بعض ال مالاحظات والرسوم عن الحيوانات والنباتات» ثم أسرعت في الصعود إلى ظهر السفينة. ويقي الكقيو من قابي وملف كين من الورسوم والسودات عند سريري: لكنني لم أغامر بالنزول مرة ثانية لإحضارهاء والواقع أن شعوراً باللامبالاة تجاه إنقاذ أي شيء قد انتابني في تلك اللحظة؛ وهو أمر لا يمكنني الآن معرفة سببه. وأخيراً أمر القبطان الجميع بالنزول إلى القوارب؛: وكان هو آخر من غادر السفينة.

آه؛ كم كنت أسر عندما كنت أمعن في النظر في كل حشرة غريبة ونادرة

سلم الخليقه

قبل أن أضمها إلى مجموعتي. وكم من مرة زحفت إلى الغابة وحمى الملاريا تهدنيء وكان عزائي جمع عينة نوع جميل غير معروف. وكم من أمكنة لم تطأها قدم أوربية غير قدمي أذكرها بالطيور النادرة والحشرات التي

والآن انتهى كل شيء ولم يبق لدي حتى نموذج أوضح به تلك البقاع المجهولة التي وطئتها قدمايء أو أتذكر بوساطته المشاهد البرية التي رأيت. غير أنني أدركت أن الندم لا ينفع: ولذلك حاولت أن أفكر - أقل ما يمكنني - فيما كان يمكن أن يكون؛ ورحت أشغل نفسي بواقع الأشياء كما هو فعلا».

وعاد والاس من خط الاستواء. كما فعل داروين من قبله. مقتنعاً أن الأنواع المتقاربة تنحدر من أصل واحدء ولكنه كان محتاراً حول سبب تشعبها واختلافها. وما لم يعرفه والاس هو أن داروين كان قد توصل إلى التعليل بعد عامين من رجوعه إلى إنجلترا من رحلته على متن سفينة البيغل. و يروي داروين أنه عندما كان عام 1838 يقرأ «مقالة عن السكان» كتبها الأب توماس مالتوس (وكانت قراءة للتسلية كما يقول داروين ويعني بذلك أنها لم تكن جزءاً من قراءته الجدية) ذهل من فكرة طرحتها هذه المقالة. فقد ذكر مالتوس أن عدد السكان يتزايد بأسرع من تزايد الغذاء على سطح الأرضء فإذا كان ذلك صحيحاً بالنسبة للحيوانات فإذا يجب أن تتنافس من أجل البقاء: أي أن الطبيعة تعمل كقوة اختيار أو انتقاء. فينقرض النوع الضعيف. وتزدهر أنواع أخرى من الحيوانات الباقية تكون أقدر على التلاؤم مع بيئتها.

يقول داروين: «أخيراً توصلت البغل نظرية أستطيع أن أعمل على أساسها». وقد يظن المرء أن الإنسان الذي صرح بهذا القول سيبداً العمل حالا ويكتب الأبحاث ويتنقل محاضراً؛ بيد أن شيئاً من هذا القبيل لم يحصل إذ بقى أربع سنوات دون أن يسجل تلك النظرية على الورق وفي عام 2 فقط كتب مسودة من خمس وثلاثين صفحة بالقلم الرصاصء؛ وبعد سنتين وسعها البغل مائتين وثلاثين صفحة وجعلها بالحبر. وأودع هذه المقالة. مع بعض المال» مقرونة بتعليمات لدى زوجته كي تقوم بنشرها في حال وفاته.

وكتب داروين البغل زوجته رسالة رسمية مؤرخة في 5 يوليو (تموز) 844!

ارتقاء الانسان

يقول فيها: «لقد انتهيت لتوي من كتابة مخطط نظريتي حول الأنواع»:

«ولذلك أكتب لك هذا الكتاب راجيا في حالة موتي فجأة؛ كآخر وأعز طلب ليء وأنا متأكد أنك ستعتبرينه كذلك كما لو كان جزءاً قانونياً من وصيتيء أن تخصصي مبلغ 400 جنيه لنشرهاء ثم تتولين بنفسك أو عن طريق هنسلي (ودج وود)؛ القيام بجهد ترويجها. كما آمل أن تعطي هذه النظرية الأولية لشخص قدير يستطيع بواسطة هذا المبلغ أن يحسن النظرية ويوسعها. أما بشأن الناشرين فإنني اعتقد أن السيد تشارلز لايل هو الأفضل؛ إذا قبل القيام بالمهمة؛ وأرى أنه سيجد هذا العمل ممتعاً. كما سيتعلم بعض الأشياء الجديدة عليه. كما أن الدكتور هوكر (جوزيف دالتون) سيكون أيضا جيداً لهذا العمل».

ويخالجنا شعور قوي بأن داروين كان يفضل أن تنشر نظريته بعد موته؛ شريطة أن يعود الفضل في اكتشافها إليه. وهذا طبع غريبء؛ يدل على إنسان أدرك أنه يقول شيئاً يصدم به الناس و يثيرهم (وسيصدم ذلك زوجته دون شك).؛ وأنه هو نفسه صدم به لحد ما. فالوهم والوسواس بأنه يعاني مرضاً (بسبب أصابته بالتهاب. أثناء وجوده في المناطق الاستوائية) وتتجاجات الأدوية التي عاذت حرله داكي ولج القانق نوعا ما الذي كان يغلف منزله وغرفة مكتبه. وقيلولة بعد الظهر التي اعتادهاء والتأخر في الكتابة» ورفض النقاش علناً مع الناس: كل هذه الأمور تتحدث عن عقلية من لم يكن يرغب في مجابهة الجمهور.

وبالطبع لم تعق والاس - الأصغر سناً - أي من هذه الموانع النفسية. فلقد اندفع عام 1854 : رغم كل الصعابء وذهب في رحلة إلى الشرق الأقصى, حيث جاب - خلال السنوات الثماني التالية - جزر أرخبيل الملايو لجمع عينات من الحياة الحيوانية والنباتية البرية هناك يمكنه بيعها في إنجلتراء وفي ذلك الوقت كان قد اقتنع تماماً أن الأنواع قابلة للتبدل والتحول بالطفرة, ونشر مقالا حول «القانون الذي ينظم ظهور الآنواع الجديدة» عام 1855. ومنذ ذلك الوقت أصبح السؤال عن كيفية حصول التغيرات في الأنواع يشغل ذهن والاس بصورة مستمرة.

وفي شباط (فبراير) من عام 1858 كان والاس مريضاً في جزيرة بركانية صغيرة تدعى ترنيت في ملقاء وهي إحدى جزر التوابل الواقعة بين بورنيو

204

سلم الخليقه

وغينيا الجديدة. فقد أصيب بحمى متقطعة فتارة تصيبه الحمى وأخرى البرداء. فأعطاه ذلك فرصة للتفكير المتقطع في فترات. فهناك وفي ليلة كان فيها دور الحمى تذكر نفس الكتاب الذي ألفه مالتوس.ء ولمع في ذهنه نفس التعليل الذي توصل إليه داروين من قبل.

«لقد تبادر إلى ذهني أن أتساءل: لماذا يموت بعضها ويعيش الآخر؟ وكان الجواب بوضوح أنه بوجه عام يبقى الأصلح و يعيشء فمن آثار الأمراض والأوبئة ينجو الأكثر صحة؛. ومن خطر الأعداء ينجو الأقوى والأسرع والأكثر دهاء؛ ومن الجوع ينجو الأبرع صيداً أو الأشد هضماً؛ وهلم جرا. ثم أدركت فجأة أن التنوع الموجود دوما في كل الأشياء الحية يوضر المادة التي إذا استبعد منها ما هو اقل تلاؤما مع الظروف الفعلية بقي الأصلح قادرا على متابعة السباق.

هنا لمعت في ذهني فجأة «فكرة» بقاء الأصلح وكلما أعدت التفكير في هذه الفكرة ازددت قناعة بأنني وجدت أخيرا قانون الطبيعة الذي طللما بحثت عنه؛ الذي يحل مشكلة أصل الأنواع. وانتظرت بفارغ الصبر انتهاء دور الحمىء لأكتب رأسا بعض النقاط والملاحظات من اجل كتابة بحث عن الموضوع.

«وقد قمت في تلك الأمسية نفسها بكتابة هذا البحثء ونقحته بعناية في الليلتين التاليتين كي أبعثه إلى داروين بالبريد التالي الذي سيرسل في غضون يوم أو يومين».

عرف والاس أن داروين كان مهتما بالموضوع؛ واقترح عليه أن يعرض هذا البحث على تشارلز لايل إذا رأى أن البحث له معنى».

وتسلم داروين بحث والاس في مكتبه في بلدة داون بعد أربعة اشهر, وبالتحديد في ١8‏ حزيران (يونيو) عام 1858 . ووقع في حيرة من أمره كيف يتصرف؟5 فخلال عشرين عاما جمع ونسق الحقائق التي تؤيد هذه النظرية: وها قد هبط على مكتبه الآن - من حيث لا يدري - بحث كتب عنه داروين في اليوم ذاته بشكل مقتضب ما يلي:

«لم اشهد طيلة حياتي مثل توارد الخواطر المذهل هذاء فلو كان لدى والاس مسودات البحث الذي كتبته عام 1842 لما استطاع أن يكتب خلاصة لها أفضل مما كتب.»

ارتقاء الانسان

ولكن بعض الأصدقاء حلوا معضلة داروين هذه. فقد رتب صديقاه لايل وهوكرء اللذان اطلعا على بعض أعماله وأبحاثه. أن يُقرأ البحثان معا - بغياب داروين ووالاس - في الاجتماع الذي تعقده جمعية التصنيف البيولوجي في لندن في الشهر التالي.

ولم يثر البحثان أية ضجة على الإطلاق. ولكن ذلك أجبر داروين على القيام بالعمل (الذي كان يرغب في تأجيله) . وكان والاس» كما وصفه داروين؛ «كريما ونبيلا» وهكذا ألف داروين كتابه «أصل الأنواع» ونشره في نهاية عام 59 ومنن لحظة نشره أصاب نجاحا كبيرا ورواجا هائلا.

ومن المؤكد أن نظرية الانتقاء (أو الانتخاب) الطبيعيء كانت أهم ابتكار علمي في القرن التاسع عشر. فعندما هدأت رياح عواصف النقد الغبية, والسخرية والنكات التي أثارتها هذه النظرية: كان العالم الحي مختلفا (عما كان قبل النظرية) فقد - أصبح يُرى عالما في حالة حركة. فعملية الحلق ليست عملية ساكنة جامدة:؛ بل تتغير مع الزمن. الآمر الذي يجعلها مختلفة تماما عن العمليات الطبيعية. فالعالم الطبيعي قبل عشرة ملايين عام مثلا هو نفس العالم اليومء وقوانينه كذلك تابتة لم تتغير. أما العالم الحي فليس كذلك. فمثلا قبل عشرة ملايين عام لم يكن هناك كائنات بشرية تبحث وتتساءل عنه. فعلى نقيض الفيزياء نجد أن كل تعميم في علم الأحياء يمثل شريحة زمنية معينة؛ وأن التطور أساس التجديد في الكون, وبالرغم من ذلك فان في تركيب كل منا عناصر تعود إلى بداية الحياة. وقد تفحص داروين: وكذلك والاسء السلوكء والعظام كما هي الآن: والأحافير المتحجرة كما كانت ليضعا نقاطا تساعد على رسم خارطة مسيرة الإنسان. لكن هذه الأمور, أي السلوك والعظام والأحافير قد أصبحت نظما حيوية معقدة. جمعت من وحدات أبسط وأقدم. فإذا كان يمكن أن تكون أبسط هذه الوحدات الأولى5 والمفترض أنها جزيئات كيميائية تعطى الحياة صفاتها المميزة. ا

وهكذا عندما نرجع النظر بحثا عن أصل الحياة: فإننا اليوم ننظر بشكل أعمق من ذلك. إلى الكيمياء التي نشترك بها جميعاء فالدم الذي في إصبعي؛ هذه اللحظة؛ فيه تركيز أملاح قريب جداً من تركيز مياه البحار منذ ما يزيد على ثلاثة آلاف مليون سنة. والعمليات التي حصل ذلك

200

سلم الخليقه

بوساطتهاء تعتمد جزئياً على الوراثة (التي لم يكن يفهمها حقا لا داروين ولا والاس) كما تعتمد أيضا على التركيب الكيميائي (وهذا أيضا كان ميدان العلماء الفرنسيين اكثر منه ميدان علماء الطبيعة البريطانيين) وتنصب التفسيرات سوية من عدة ميادين: ولكن بينها قاسما مشتركاء إذ أنها كلها تصور الأنواع وهي تتباعد واحدا بعد الآخرء في مراحل متعاقبة وهذا أمر معترف به ضمنيا عند التسليم بنظرية التطور.

عندما عنت نظرية التطور ضمنا أن الأنواع الحيوانية أتت إلى الوجود بعد بعض الأنواع الأخرىء أن في حقبة زمنية أحدث. لجأ بعض النقاد إلى الاعتماد على الكتاب المقدس في الرد على ذلك7"). ومع ذلك فان كثيراً من أولئك الناس كانوا يعتقدون أن الخلق لم يتوقف عند الكتاب المقدسء فقد ظل الظن سائداً بأن الشمس تنتج التماسيح من طمي النيل: وأن الفثران تنشأ بنفسها من أكوام الثياب الرثة القذرة؛ وأن منشأً الذباب الأزرق هو اللحم الفاسدء وأن الدود ينشاً داخل التفاح؛ وإلا فكيف وصل داخل التفاحة؟ وكان المفترض أن كل هذه المخلوقات دبت قيها الحياة تلقائيا دون وجود أبوين. 1

إن هذه الحكايات الخرافية عن مخلوقات تنبعث فيها الحياة تلقائياً قديمة جداً ولا يزال هناك من يعتقد بهاء برغم أن لويس باستور برهن على عدم صحة ذلك بصورة رائعة في الستينات من القرن الماضيء وقد أنجز معظم هذا العمل في منزل طفولته في آربوا في منطقة الجورا الفرنسية: وكان يُحب العودة إلى ذلك المنزل كل عام؛ وكان قد عمل بعض الأبحاث قبل ذلك عن التخمرء وبخاصة تخمر الحليب (وتذكرنا كلمة «البسترة» بذلك) . بيد أنه بلغ ذروة قوته العلمية عام 1863 (وكان في الأربعين من عمرهم) عندما طلب منه إمبراطور فرنسا أن يبحث في العوامل التي تفسد عملية تخمر النبيذ في بعض الأحيانء. وحل هذه المشكلة في عامين» ومن سخرية القدر أن هاتين السنتين كانتا من بين أفضل السنوات طراً» وإلى يومنا هذا تذكر سنة 1864 كما لا تذكر أية سنة أخرى.

فال باستور: إن «الخمر بحر من الكائنات الحية. ببعضها يعيش الخمر وببعضها يتحلل» وثمة أمران بالغا الأهمية في هذه الفكرة. الأول أن باستور وجد كائنات حية تعيش دون أكسجينء وفي ذلك الوقت كان ذلك هو بعينه

207

ارتقاء الانسان

ما يزعج العاملين في صناعة النبيذ» ولكن تبين فيما بعد أن فكرة الكاتنات غير الأكسجينية بالغة الأهمية بالنسبة لفهم بداية الحياة؛ لأن الأرض آنذاك كانت بلا أكسجين. والأمر الثانى أنه كان لدى باستور طريقة رائعة استطاع بواسطتها أن يرى دقائق الحياة في السائل. ولقد أقام باستور شهرته - عندما كان فى العشرينات من عمره - على اكتشاف وجود جزيئات ذات أشكال مميزة, ثم بين بعد ذلك أن هذا الشكل المميز هو الدليل المؤّكد على مرور هذه الجزيئات خلال دورة الحياة. وقد اتضح أن هذا الأمر كان اكتشافا عميقاً جداً؛ وما زال محيراً بشكل نجد معه أن من الأفضل أن نورده كما ذكره باستور حرفياً:

«كيف يمكن أن يفسر المرء عملية تخمر النبيذ في البراميلء وتخمر العجين إلى خبز أو تحمض الحليب المتخثرء أو تحول الأوراق والنباتات المدفونة تحت التربة إلى ذبال5 ويجب على - حقيقة - أن اعترف أنه قد سيطرت على البحث الذي أقوم به فكرة مؤداها أن تركيب المركبات من وجهة كونه يساريا أو يمينيا (إذا تشابهت بقية الأمور). يلعب دورا هاما في اعمق قوانين تنظيم الكاتنات الحية؛ كما يدخل في الزوايا الغامضة لفيزيولوجية هذه الكائنات.

إن تركيب المركب؛ وكونه يساريا أو يمينيا كان الدليل العميق الذي اتبعه باستور في دراسته للحياة. فالعالم مليء بالأشياء التي لها شكلان يختلف فيهما الشكل اليميني عن الشكل اليساري.: فهناك اللولب الذي يستعمل لإخراج سدادات الزجاجات الفلينية وله شكلان أحدهما أسنانه تدور يمنة والأخرى تدور يسرة؛ وهنالك حيوان الحلزون ومنه أنواع حلزونها يلتف يمينا وأخرى يسارا . وقبل كل شيء هنالك اليدان اليمنى واليسرىء فالواحدة مرآة للأخرىء ولكن لا يمكن إدارتهما بحيث تصبح اليسرى يمنى واليمنى يسرى. وقد كان هذا الأمر معروفا أيام باستورل". بالنسبة لبعض البلورات التي تترتب أوجهها على نحو تكنن فيه أشكالا يمينية وأخرى يسارية.

وصنع باستور نماذج خشبية لهذه البلورات (وكان ماهرا في استعمال يديه. كما كان رساما بارعا) ولكن الأهم من ذلك انه صنع نماذج فكرية. ففي بحثه الأول توصل إلى ضرورة وجود جزيئات يمينية وأخرى يسارية: وأن هذه الخاصة المميزة للبلورات يجب أن تكون انعكاسا لنفس الخاصة

سلم الخليقه

في الجزيئات أيضا. ويجب أن تظهر هذه السمة في سلوك الجزيئات في أي وضع غير متناظر مثال ذلك أنه عندما نجعل هذه الجزيئات تذوب في محلول ونمرر خلاله شعاع ضوء مستقطب (أي غير متناظر) فان الجزيئّات اليمينية مثلا يجب أن تدير مستوى استقطاب الضوء نحو اليسار وعلى ذلك فمحلول من بلورات مادة كلها من الشكل اليميني فقط سيتصرف بصورة غير متناظرة تجاه حزمة ضوئية غير متناظرة كما يرى في جهاز مقياس الاستقطاب. ولذا فعندما ندير قرص الاستقطاب في هذا الجهاز يبدو المحلول معتما ومضيئًا مرة تلو الأخرى؛ وبشكل متناوب.

والحقيقة الملفتة للنظر هي أن محلولا كيميائيا مستخلصا من خلايا حية يفعل نفس الاستقطابء وحتى الآن نجهل السبب في أن للحياة هذه الخاص الكيميائية المحددة التي ظلت ملازمة للحياة منذ أن كانت. وهكذا - لأول مرة - ربط باستور كل أشكال الحياة بنوع واحد من التركيب الكيميائي؛ ومن هذه الفكرة القوية يتبع - منطقياً - أنه يجب أن يكون بوسعنا ربط التطور بالكيمياء.

ولم تعد نظرية التطور اليوم موضع جدل ومنازعات فكرية. وذلك لأن الأدلة التي تسندها أكثر عددا وتنوعا الآن مما كانت عليه أيام داروين ووالاس؛ و يأتي أحدث دليل على هذه النظرية وأكثرها إثارة للاهتمام من كيمياء جسمناء ولنضرب مثلا عمليا: باستطاعتي أن أحرك يدي لأن العضلات تحوي مخزونا من الأكسجين. وقد حدث اختزان الأكسجين في العضلات بواسطة بروتين يدعى ميوغلوبين. وهذا البروتين مؤلف مما يزيد علق ماكة وتخمسين حمضكنا أمينيا “وهنا العدد (50] حمضا آميتيا) هو نفس العدد الموجود في جسمي وأجسام كل الحيوانات الأخرى التي تستعمل الميوغلوبين: ولكن الأحماض الأمينية هذه تختلف اختلافا طفيفا في نوعيتها فيما بين الحيوانات التي تحويها. غبيني وبين الشمبائزي هنالك فرق في حمض أميني واحد فقطء أما بيني وبين قرد الغابة وهو من القردة الدنيا. فهناك عدة أحماض أمينية متباينة. وكذلك يزداد التباين في الأحماض الأمينية اكثر من ذلك عند المقارنة بيني وبين الخروف أو الفأر وهكذا فان عدد الأحماض الأمينية المتباينة يعطى مقياساً لمدى البعد التركيبى بينى وبين الثدييات الأخرى. ا ا

200

ارتقاء الانسان

وتتركز مشكلة بدء الحياة في الجزيئات البسيطة:؛ التي يمكن أن تتكاثر بنفسهاء لا في الجزيئات المعقدة. فالأمر الذي يميز الحياة. هو القدرة على تكوين نسخ متماثلة من نفس الجزيئات. فنحن ندرك تماما ما نبحث عنه لتحديد بداية الحياة: إنها تلك الجزيئات الأساسية؛ البسيطة؛ كتلك التى ولف لوالب حملضق ]1ف مال الآدتين والكايمين والغوانين والسيعووين: وهي قادرة على التكاثر من تلقاء نفسها أثناء انقسام الخلية.

ومن الطبيعي أن يتساءل المرء عما إذا كانت هذه الجزيئات الأساسية قد تشكلت عدة مرات؛ وفي أماكن مختلفة. وليس ثمة جواب على هذا التساؤل سوى عبر الاستدلال والاستنتاج القائمين على الدليل الذي توفره لنا النماذج الحية اليوم. فالحياة تتحكم بها جزيئات محدودة العدد, وبالتحديد الأسس الأربعة في حمض 27148 وهذه - بدورها - تحمل عناصر الوراثة في كل مخلوق معروف. من البكتريا إلى الفيل» ومن الفيروسات إلى الوردة. وهنالك استنتاج واحد يمكن استنباطه من هذا الانتظام والاتساق في ألف باء الحياة: وهو أن هذه هي الترتيبات الذرية الوحيدة التي تحمل تتابع كاخرها ويذًا يكون استمراز الحياة. ا

إن علم الأحياء (البيولوجيا) محظوظ لاكتشافه في مدى ماثة عام حقيقتين أساسيتين: الآولى نظرية التطور بالانتقاء الطبيعي؛ التي وضعها داروين ووالاس. أما الثانية فهي الكشف - من قبل العلماء المعاصرين - عن كيفية التعبير عن دورات الحياة بشكل كيميائي يربطها بالطبيعة في مجموعها.

في هذا المجال يتبادر سؤال مهم: هل كانت هذه المواد الكيميائية التي بدأت بها الحياة على الآرض خاصة بنا وحدنا فقط5 وبمعنى آخر: هل بدأت حياة ما على كوكب آخر غير الأرض5.. في الماضي كنا نميل إلى الاعتقاد بأننا الوحيدون في هذا الكوخ. ولكن الأدلة السريعة مكتافة, ضع اكتشف خلال السنوات الأخيرة: من دراسة طيف الأضواء المنبعثة من الفضاء فيما بين النجوم وجود آثار من جزيئات لم يكن يخطر ببالنا قبلا إمكان تكونها في تلك الأصقاع الباردة: مثل سيانيد الهيدروجين: وسيانو الأستيلين وفورم ألديهايد . وهي جزيئات لم نفترض سابقا أنها توجد في أي مكان سوى الأرض. ولذلك فقد يظهر في المستقبل أن الحياة في الكون لها

سلم الخليقه

ذابات محكلفة واشقاق مافة .ولا ينيم الف أبذا ازري#و التخط التطور الذي سلكته الحياة (إذا قدر واكتشفناها في الستقبل) في الكركب الآنخن مشابها لما حصل على سطح الأرض. كما أن ذلك لا يعني - بالضرورة - أننا ستتعرف عليها كعياة أو آنيا نع ستقترف علينا كاحياء:

ارتقاء الانسان

الهو امش

)١(‏ الطبيعيون يعتقدون بأن قوانين الطبيعة مثل وجود علاقة مباشرة بين السبب والنتيجة تنطبق على الناحية الحيوية من الطبيعة كما تنطبق على الناحية المادية.

(2) أي أما تختلف في الصفات والميزات نتيجة هذا الانعزال.

(3) إشارة إلى أن الله تعالى خلق المخلوقات والأرض والسماء جميعاً دفعة واحدة في فترة زمنية

محدده.

(4) بعض المركبات الكيماوية تكون بشكلين لا يختلف أحدهما عن الآخر إلا في أن وضع بعض الذرات فيه يكون في الناحية اليسرى بينما يكون في الشكل الآخر على الناحية اليمنى بحيث يكون أحد الشكلين صورة للآخر كما تبدو في المرآة.

(5) بل منن أيام ابن الهيثم.

عالم ضصن غالم

ثمة أشكال سبعة أساسية للبلورات فى الطبيعة والعديد من الألوان» وقد خلبت الأشكال دوما لب الإنسان كأشكال فى الحيز الفراغى وكوصف للمادة. وقد ظن الإغريق أن عناصرهم كانت فعلا تتشكل بأشكال الأجسام الصلبة المنتظمة. وصحيح وفق المفاهيم الحديثة أن البلورات في الطبيعة تعبر إلى حد ما عن الذرات المؤلفة لها. وهي لذلك تساعد على تصنيف الذرات ضمن عائلات وهذا هو عالم الفيزياء في هذا القرن:؛ وكانت اليلورات هى النافنة الأولى التى أطللنا منها على ذلك العالم.

ومن بين كل أنواع البلورات نجد أن أبسطها وأكثرها تواضعا المكعب العديم اللون لملح الطعام؛ ومع ذلك فانه بالتأكيد واحد من أهم هذه البلورات. ولقد استخرج الملح من منجم فيليشكا الكبير قرب مدينة كراكوف عاصمة بولندا قديماء منذ ما يزيد المعدات الخشبية والآلات التى كانت تجرها الخيل في القرن السابع عشر ويحتمل أن يكون السيميائي

ارتقاء الانسان

م بإصراره على أن الملح يجب أن يعد أحد العناصر الأساسية التي يتكون منها الإنسان والطبيعة: فالملح مادة ضرورية للحياة؛ وكانت له دوما صفة رمزية في كل الثقافات: ولا نزال حتى الآن نستعمل بالإنجليزية كلمة نكقله؟ للتعبير عما ندفعه راتبا للرجل؛ رغم أنها تعني «نقود الملح» التي كانت تدفع للجنود الرومان: وفي بعض أجزاء الشرق الأوسط لا تزال كثير من الصفقات توثق بالملح» وفق ما يسميه كتاب العهد القديم «ميثاق الملح إلى الأبد».

وكان باراسلسوس مخطئاً في ناحية واحدة؛ فالملح وفق المفهوم الحديث, ليس عنصرا . أو مؤلف من عنصرين: الصوديوم والكلور. وهذا أمر عجيب غريب؟ فالصوديوم ذلك المعدن الأبيض الفوارء يتحد مع غاز الكلور السام المصفرء وينتج عن ذلك الاتحاد مركب مستقر هو ملح الطعام. ولكن الأمر الذي يسترعي انتباها اكثر هو أن الصوديوم والكلور ينتميان إلى عائلتين تضم كل منهما عددا من العناصرء وهنالك تدرج منتظم في الخواص ضمن كل عائلة فالصوديوم ينتمي إلى عائلة الفلزات القلوية؛ والكلور إلى فئة الهالوجينات النشيطة؛ وتبقى البلورات دون تغير مربعة وشفاقة إذا استبدلنا بأحد عناصر العائلة عنصرا آخر من نفس تلك العائلة: فمثلا يمكن بالتأكيد استبدال البوتاسيوم بالصوديوم فينتج كلوريد البوتاسيوم وبالمثل يمكن استبدال العنصر الشقيق البروم بالكلور في العائلة الأخرىء الأمر الذي يؤدي إلى تشكل بروميد الصوديومء وبالطبع يمكن القيام بتبادل مزدوج: فينتج ملح مثل فلوريد الليثيوم حيث استبدل الليثيوم بالصوديوم. والفلور بالكلور ومع ذلك فان البلورات الناتجة؛ في كل هذه الأحوال لا يمكن تمييزها عن بعضها بالعين المجردة.

ما هو السبب في تشابه العناصر التي تضمها عائلة واحدة؟ في الستينات من القرن الماضي كان كل العلماء يفكرون في حل لهذا السرء واستطاع عدة علماء الوصول إلى أجوبة متشابهة تقريباء ولكن الرجل الذي حل هذه المشكلة بشكل أفضل من غيره كان شابا روسياً يدعى ديمتري ايفانوفيتش مندلييف. وكان قد زار منجم الملح في فيليتشكا عام ١958‏ حين كان في الخامسة والعشرين من عمره شابا فقيرا متواضعا يعمل بجد و يتميز بتوقد الذكاء. وكان أصغر أفراد عائلة كبيرة. ضمت أريعة عشر طفلا على الأقل؛ وكان مندلييف أحب أخوته إلى قلب أمه الأرملة التي دفعته لدراسة

214

عالم ضمن عالم

العلوم بداقع من طموحها لآجله.

إن ما جعل مندلييف متميزا ليس عبقريته فقط بل أيضا شغفه بالعناصر وتعلقه بهاء فقد أصبحت هذه العناصر يمثابة أصدقاء شخصيين له إذ كان يعرف عن كل منها كل شاردة وواردة؛ وكانت العناصر طبعا تتميز بخاصة أساسية واحدة فقط اقترحها أصلا جون دالتون عام 1805: تلك هي الوزن الذري المميز للعنصر فكيف تستمد الخواص التي تجعل العناصر متشابهة أو مختلفة أصولها من ثابت واحد أو عامل واحد فقط (هو الوزن الذري)؟ تلك هي المشكلة الأساسية التي تصدى لها مندلييف. وقد دون المناحين العروقة 58 ذلك الوقت لق بطاقات وخلط هذه البطاقات في لعبة اعتاد أصدقاؤه أن يطلقوا عيها اسم: الصبر.

ودين مندلييف على البطاقات العناصر مع أوزانها الذرية ثم رتب هذه البطاقات عموديا حسب ازدياد أوزانها الذرية. ولم يعرف مندلييف ماذا يجب أن يعمل بالهيدروجين أخف العناصر ولذلك تركه خارج مخططه. أما العنصر الذي يلي الهيدروجين في الوزن الذري وهو الهليوم فلحسن حظ مندلييف أنه لم يكن قد اكتشف بعدء ولولا ذلك لكان هذا العنصر شاذا غريباء إلى أن يتم اكتشاف الغازات الخاملة الأخرى التي تضمها عائلته. وهذا لم يحدث إلا بعد وقت طويل.

ولذا بدأ مندلييف عموده الأول بعنصر الليثيوم أحد المعادن القلوية, وهكذا فان العناصر التي ضمها هذا العمود مرتبة وفق ازدياد الوزن الذري هي: الليثيوم (أخف العناصر بعد الهيدروجين) حسب ما كان معروقا وقتها ثم البريليوم فالبورون: وبعدها العناصر المألوفة: الكربون؛ والنتروجين والأكسجين ثم العنصر السابع والأخير في العمود وهو الفلورء وكان العنصر التالي وفق ترتيب الأوزان الذرية هو الصوديوم. وبما انه يشبه الليثيوم فقد جدول مندلييف

قرر مندلييف أن هذا هو المكان المناسب لبدء تشكيل عمود جديد مواز للأول: ويتألف العمود الثاني من تتابع عناصر مآلوفة: المغنزيوم والألومنيوم والسيليكون والفوسفور والكبريت وأخيرا الكلور ومن الواضح أنها تؤلف عموداً كاملاً من سبعة عناصر بحيث إن آخر عنصر وهو الكلور يقع في نفس الصف الأفقي للفلور.

ارتقاء الانسان

عر لاك | كه طالاحة

2 ف

566 00

بجا لحا [»- ع

جدول مندلييف

وواضح أن هناك خاصة في تسلسل الأوزان الذرية ليست عارضة بل نظامية. وتتضح هذه الخاصة مرة ثانية عندما نبدأً العمود الثالث, فالعنصران الأولان وفق ترتيب الأوزان الذرية بعد الكلور هما البوتاسيوم والكالسيوم؛ وهكذا نجد أن الصف الأفقي الأول يضم الليثيوم والصوديوم والبوتاسيوم: وكلها فلزات قلوية؛ أما الصف الأفقي الثاني فيضم البريليوم والمغنزيوم ثم الكالسيوم: وهي أيضا فلزات ذات مجموعة أخرى من التشابهات ضمن العائلة الواحدة؛ وفي الحقيقة أن الصفوف الأفقية في هذا الترتيب ذات مغزى واضح إذ أن كلا منها يضم عائلة واحدة. وهكذا وجد مندلييف علاقة رياضية بين العناصرء أو على الأقل وجد الدليل على ذلك.

فإذا رتبنا هذه العناصر وفق أوزانها الذرية المتزايدة في أعمدة يحوي كل منها سبعة عناصر نحصل على صفوف أفقية يحوي كل منها علاقات تشابه عائلية.

ونستطيع أن نتابع خطة مندلييف حتى عنصر الكالسيوم كما وضعها عام 187١‏ (أي بعد سنتين من تبلور مفهوم الجدول في فكره) فكل عنصر

216

عالم ضمن عالم

يأتي في مكانه المناسب إلى أن تصل إلى العمود الثالث. عندئكذ حتما نصادف أول مشكلة, لماذا «حتما»؟ لأنه كما في حالة الهيليوم لم يكن لدى مندلييف كل العناصر ضفي ذلك الوقت كان يُعرف فقط ثلاثة وستون عنصرا من أصل اثنين وتسعين؛ ولهذا فعاجلا أو آجلا كان لابد أن يصادف مندلييف بعض الفجوات في ذلك الجدولء وهكذا كانت الفجوة الأولى التي واجهها مندلييف تماما حيث توقفنا أي في المكان الثالث من العمود الثالث.

أقول إن مندلييف واجه «فجوة». لكن هذه العبارة المختصرة تخفي وراءها أروع شيء في تفكيره. ضفي المكان الثالث من العمود الثالث واجه مندلييف صعوبة؛ وحل تلك الصعوبة بان ترك مكانها فجوة؛ وقد اختار ذلك لان العنصر التالي المعروف وهو التيتانيوم لم تكن لديه الصفات التي تؤهله كي يحتل المكان الثالث من العمود الثالث في نفس الصف الأفقي أو ضمن العائلة مع البورون والألومنيوم؛ وهكذا قال مندلييف: يوجد عنصر مفقود هنا؟ وعندما يكتشف فان وزنه الذري سيضعه قبل التيتانيوم في الجدول؛ وتركٌ هذا المكان فارغا سيجعل عناصر هذا العمود تأخن مكانها الصحيح في الصفوف الأفقية فالتيتانيوم ينتمي إلى العائلة التي تضم الكربون والسيليكون: وفي الواقع كان ذلك هو مكانه الصحيح في المخطط الأساسي.

كانت فكرة الفجوات أو العناصر المفقودة إلهاماً علمياً. فهي تعبر بصورة عملية عما اقترحه فرانسيس بيكون بكلام عام منذ زمن طويلء بأن الأمثلة الجديدة لقانون طبيعي يمكن التكهن بها أو استنتاجها مسبقا من الأمثلة القديمة المعروفة؛ وتبين تكهنات مندلييف أن الاستقراء عملية اكثر قيمة وعمقاً في يد العالم مما ظن بيكون والفلاسفة الآخرون. ضفي العلوم لا نسير ببساطة وفق تسلسل خطي طولي من حقائق معروفة إلى أخرى مجهولة: بل إن ما نعمله بالأحرى يشبه ما يجري في أحجيات الكلمات المتقاطفة |5 كذ لتحصى جامد سعصاين عن كن تقامل المساط شن هذين التتابعين: فهناك تكمن الأمثلة المجهولة. فمندلييف أمعن النظر في تتابع الأوزان الذرية في كل عمود وكذلك التشابهات العائلية في كل صف أفقي ليعين العناصر الناقصة غير المعروفة عند تقاطع الأعمدة والصفوف الأفقية. وبذلك قام بتنبؤات عملية؛ كما أوضح تماما كيف يقوم العلماء

217

ارتقاء الانسان

فعلا بعملية الاستقراء؛ وهو أمر غير مفهوم تماما حتى الآن بالنسبة للكثيرين؛ وعلى ذلك فالنقاط المهمة تتمثل في تلك الأمكنة التي تركها مندلييف فارغة في العمودين الثالث والرابع؛ ولن أتابع ملء الجدول بعد العمود الثالث ولكن يجب القول بأننا إذا تابعنا على ذات المنوال فان العمود ينتهي كما هو متوقع بأحد عناصر عائلة الهالوجينات الذي هو البروم. وكان هناك عدد من الفراغات: ولكن مندلييف اختار منها ثلاثة, الفراغ الأول هو الذي أشرت إليه قبل قليل أي في الصف الثالث من العمود الثالث؛ أما المكانان الفارغان الآخران فيقعان في الصفين الثالث والرابع من العمود الرابع» وحول هذه الأمكنة الفارغة تنب مندلييف بأنها عند اكتشافها سيكون لها الأوزان الذرية التى ستناسب أمكنة تلك الفراغات. كما تنبأ أيضا بكل صفاتها الفيزيائية والكيماكية التي تتلاءم مع العائلات في الصفين الثالث والرابع الأفقيين.

فعلى سييل المثال كانت أشهر قتبؤاتث هتدلييف وآكرها تحقما التبوعة الثالثة أي العنصر الذي سماه ايكاسيليكون (شبيه السيليكون) (والذي يحتل الصف الرابع من العمود الرابع)؛ فقد تنب بكل صفات هذا العنصر الغريب والهام بدقة عظيمة؛ ولكن هذا العنصر لم يكتشف إلا بعد عشرين عاما في ألمانياء ولم يسم نسبة لمندلييف بل سمي جرمانيوم؛ وبما أن مندلييف انطلق من مبدأً أن الايكاسيليكون ستكون له صفات متوسطة بين السيليكون والقصدير فقد تنبا أن هذا العنصر سيكون أثقل من الماء بخمس مرات ونصفء. وكان ذلك صحيحاء كما تنبا أيضا أن أكسيده سيكون اثقل ب 7,4 مرات من الماء وكان ذلك صحيحا أيضا. ونفس الشيء يمكن قوله عن كل الشواص الكيفاقية والفيؤياقية الالخرض. ْ

وقد جعلت هذه التنبؤات مندلييف مشهورا في كل مكان ما عدا روسيا: إذ لم يكن نبياً هناك لان القيصر لم يكن يحب آراء مندلييف السياسية المتحررة؛ وأدى اكتشاف عائلة الغازات الخاملة بعدئن في إنجلترا بدءا من الهيليوم والنيون والأرجون إلى تعزيز نصر مندلييف وتأكيد مكانته؛. ورغم ذلك فلم ينتخب عضوا في الأكاديمية الروسية للعلوم: ولكن كان لاسمه فعل السحر في بقية أنحاء العالم.

لقد كان واضحا أن الأساس الذي تقوم عليه الذرة أساس عدديء ورغم

عالم ضمن عالم

ذلك لا يمكن أن يكون ذلك كل ما في الذرة؛ ولابد أن هنالك شيئًا ناقصاء إذ ئيس من المعقول أن تكون كل خواص العناصر محتواة في عدد واحد. هو الوزن الذريء. فهذا الوزن يخبى شيئاء فما هو5 إن وزن الذرة يمكن أن يكون مقياسا لدرجة تعقيدهاء فإذا كان الأمر كذلك وجب على هذا الوزن أن ينبي عن شيء من التركيب الداخلي للذرة. وعن الطريقة التي تبنى فيها الذرة طبيعيا ومادياء وهذا بدوره يولد تلك الخصائصء وبالطبع لم تكن تلك الفكرة معقولة طالما أن الاعتقاد السائد كان بأن الذرة غير قابلة للانقسام.

ولهذا السبب كانت نقطة التحول - عام ١897‏ - عندما اكتشف ج. ج. طومسون في كامبردج الإلكترونء وقد أدى ذلك إلى إدراك أن للذرة مكونات؛ وهذا يعني أنها ليست غير قابلة للانقسام: كما يدل ضمنا اسمها اليوناني. فالإلكترون جزء صغير من كتلة الذرة أو وزنهاء ولكنه جزء حقيقي يحمل شحنة كهربائية منفردة». وكل عنصر يتميز بعدد معين من الإلكترونات تحملا كل من ذراته. وعدد الإلكترونات عنصر مساو تماما للعدد الذي يدل على ترتيب ذلك العنصر في جدول مندلييف عندما يضاف الهيدروجين والهليوم في المركزين الأول والثاني من هذا الجدولء ثم تأتي ذرة الليثيوم بثشلاثة إلكترونات: والبريليوم أربعة؛ والبورون خمسة:؛ وهكذا بالترتيب في الجدول كله. ويدعى المكان الذي يحتله العنصر في الجدول الدوري بالعدد الذري لذلك العنصر وقد ظهر أن العدد الذري يمثل حقيقة فيزياتئية واقعة داخل الذرة؟ أي عدد الإلكترونات في تلك الذرة؛ وهكذا تبدلت الصورة من الوزن الذري إلى العدد الذريء وهذا يعني أساسا التركيب الذري.

ذلك هو الإنجاز الفكري الذي تبدأ به الفيزياء الحديثة. وهنا يهل العصر العظيم: وتصبح الفيزياء في تلك السنوات أعظم عمل عملي جماعي: بل واكثر من ذلك أعظم عمل فني جماعي في القرن العشرين.

وأقول «عملا فنيا» لآن الفكرة بأن هناك بنية أو تركيبا خفيا فكرة عالم داخل عالم الذرة استحوذ على خيال الفنانين قوراء ونعرف أن الفن منذن مطلع القرن العشرين يختلف عنه قبله؛ كما يظهر بوضوح في رسوم أي فنان أصيل من ذلك العصر كالفنان امبرتو بوتشيوني مثلاء في لوحتي «قرب الشارع» و«ديناميكية سائق الدراجة» فالفن الحديث بدأ في نفس

2160

ارتقاء الانسان

الوقت الذي بدأت فيه الفيزياء الحديثة؛ لان كليهما انطلق من الأفكار ذاتها.

فمنذ عهد «بصريات» نيوتن والرسامون مبهورون بالسطح الملون للأشياء؛ ولكن القرن العشرين غير ذلك ومثل أشعة رونتجين السينية اصبح الفن يبحث عن العظام تحت الجلد وعن التركيب الصلب الأعمق الذي يبني من الداخل الشكل الكلي العام للشيء أو الجسمء فرسام مثل جوان غريس منشغل بتحليل التركيب أو البنية. سواء أكان ينظر إلى الأشكال الطبيعية في لوحته «الحياة الساكنة» أم إلى الشكل البشري في لوحة«بييرو».

أما الرسامون التكعيبيون فواضح انهم استلهموا طريقتهم من عائلات البلورات: فهم يرون في هذه البلورات شكل قرية قائمة على منحدر تل: كما فعل جورج براك في لوحته «منازل في لوستاك» أو يرون فيها مجموعة من النساء كما فعل بيكاسو في لوحته المعروفة «آنسات الأفينون». وعندما بدأ بابلو بيكاسو الرسم بالطريقة التكعيبية الشهيرة برسم وجه وحيد في لوحته «صورة دانييل هنري كاهنوايلر» اتضح أن الاهتمام قد انتقل من الجلد والملامح إلى الهندسة الكامنة؛ فقد مزق الرأس وقُسنُم إلى أشكال رياضية ثم أعيد تركيبه بجمع تلك الأجزاء وبشكل جديدء عملية إعادة كاملة للتركيب من الداخل إلى الخارج.

هذا البحث الجديد عن التركيب الخفي شديد الوضوح عند رسامي أوربا الشمالية: فرانز مارك في لوحته «غزال في الغابة» التي ينظر فيها إلى الطبيعة؛ وكذلك الرسام التكعيبي جان متسنغر (أحد المفضلين لدى العلماء) في لوحة «امرأة على الحصان» التي كان يملكها نيلزيوهر الذي كان يجمع اللوحات في بيته في كوبنهاجن.

وهناك اختلافان واضحان تماما بين العمل الفني ومقالة البحث العلمي. يتمثل الفرق الأول في أن الرسام بشكل مرئي يمزق أوصال العالم إلى أجزاء متعددة ثم يعيد تركيبها بتصوره الخاص على لوحة القماشء أما الفرق الثاني فهو أنه يمكنك مراقبة كيف يفكر الرسام أثناء إنجازه عمله الفني» مثال ذلك جورج سورا وهو يضع نقطة ملونة بجانب أخرى من لون مغاير كي يحصل على الأثر الكلي في لوحتيه «صبية ومسحوق الزينة» و«المنقار». وفي كلا ناحيتي الفروق هذه تكون المقالة العلمية ناقصة في

عالم ضمن عالم

اغلب الأحيان. فهي كثيرا ما تكون تحليلية فقط كما إنها تخفي معظم الأحيان عملية التفكير وتغلفها بلغتها العلمية الموضوعية غير الشخصية.

وقد اخترت التحدث عن أحد الآباء المؤسسين لفيزياء القرن العشرين» نيلزيور لأنه في كلا المنحيين السابقي الذكر كان فنانا يرقي إلى القمة, ولم يكن لدى بور أية أجوبة جاهزة؛ وكان من عادته أن يبدأ محاضراته بالقول لطلابه «يجب أن تعتبروا كل جملة أتفوه بهاء لا على أنها توكيد لحقيقة ثابتة. بل تساؤل». والذي كان يتساءل عنه كان تركيب العالم: والناس الذين عمل معهم بورء عندما كان شابا ومسنا (وكان لا يزال نشيطا نافذ العقل في السبعينات من عمره) كانوا من أولئك العلماء الذين قطعوا أوصال العالم إلى أجزاء. وأعملوا فيها عميق فكرهم. ثم أعادوا تركيبها.

وكان بور قد ذهب أول الآمر - عندما كان في العشرينات من عمره - للعمل مع ج. ج تومسون وتلميذه - لفترة فصيرة - ارنست رذر فورد الذي كان الفيزيائي التجريبي البارز في العالم حوالي عام 1910: (وقد توجه كل من تومسون ورذر فورد إلى العلوم تحقيقا لرغبة والدتيهما الأرملتين؛ مثل مندلييف). وكان رذر فورد وقت ذاك أستاذا في جامعة مانشسترء وفي عام 9/١‏ اقترح نموذجا جديدا للذرة: ووفقا لهذا النموذج تتركز معظم كتلة الذرة في نواتها الثقيلة التي تكون في الوسطء وتتحرك الإلكترونات في أفلاك دائرية حول هذه النواة» تماما كما تدور الكواكب حول الشمسء وقد كانت هذه الفكرة رائعة؛ ويالها من سخرية تاريخية وجميلة أن تصبح تصورات كوبر نيكوس وغاليليو ونيوتن - وكانت تثير السخط - أفضل الأمثلة التي تحتذي طبيعيا من كل عالم: وكثيراً ما يحدث في العلم تصبح النظرية غير المعقولة في عصر ما الصورة اليومية المقبولة في عصر لاحق.

ومع ذلك. فقد كان هناك خطأ ما في نموذج رذرفورد للذرة. فلو كانت الذرة آلة صغيرة؛ فكيف يمكن لتركيبها أن يفسر عدم توقف حركتها. بمعنى أن هذا النموذج يجعلها آلة دائمة الحركة؛ والآلة الدائمة الحركة الوحيدة التي لدينا؟ غالكواكب تفقد باستمرار جزءا من طاقتها بدورانها حول الشمس» بحيث إن مدار أي كوكب يصغر سنة بعد أخرىء وبالطبع فان هذا التناقص في مدار الكوكب صغير للغاية؛ ولكن الكوكب سيسقط في نهاية الأمر في الشمس. فلو كانت الإلكترونات كالكواكب تماما فإنها ستسقط في النواة,

ارتقاء الانسان

اللوحة رقم 29 اجتماعان لكبار علماء الفيزياء الذرية الحديثة

الصورة )١(‏ لأول اجتماع لمؤتمر سولفي عام .191١‏ و يظهر رذرفورد جالسا في الصف الأول وهو الثاني من اليسار اماج. ج. تومسون فهو الرابع من اليسار في الصف ذاته. وفي الصف الخلفي أينشتاين هو الحادي عشر بدءا من اليسار بينما ماري كوري هي السابعة في الصف ذاته. الصورة (ب)

صورة لمؤتمر سولفي الخامس عام 01927 انتقل آينشتاين وماري كوري إلى الصف الأول (هو في المنتصف بينما هي الثالثة بدءا من اليسار) أما الصفوف الخلفية فمليئة بعلماء الأجيال اللاحقة وهكذا فان لويس دوبرولي وماكس بورن ونيلزيور يجلسون في أقصى يمين الصف الثاني (بور هو الأول) بينما يقف شرود نفر في الصف الثالث (السادس من اليسار) وهايزنبرغ الثالث من اليمين

عالم ضمن عالم

إذن قلابد من وجود شيء يحول دون فقدان الإلكترونات للطاقة باستمرار. وهذا أمر تطلب مبدءا جديدا في الفيزياء. بحيث تقتصر كمية الطاقة التي يستطيع الإلكترون إطلاقها على قيم محددة. فبهذه الطريقة فقط يمكن أن يوجد مقياس ووحدة محددة يمسكان بالإلكترونات في مدارات محددة الحجم. ا

وقد اكتشف نيلزبور الوحدة التي كان يبحث عنها في العمل الذي نشره ماكس بلانك في ألمانيا عام 1900 فقد بِيّن بلانك قبل اثنتي عشرة سنة انه في عالم توجد فيه المادة بشكل كتل يجب أن تكون الطاقة أيضا على شكل كتل أو (الكم)'2. وهي فكرة لا تبدو شديدة الغرابة اليوم: ولكن بلانك كان مدركا: مقدار ثورية تلك الفكرة منذ أن خطرت له:؛ لآنه في نفس اليوم الذي خطرت له فيه أخذ ابنه الصغير في واحدة من تلك النزهات الصغيرة التي اعتاد الأكاديميون في كل أنحاء العالم أن يقوموا بها بعد الغذاء. وقال له «لقد خطرت لي اليوم فكرة تشبه في ثوريتها وعظمتها تلك التي خطرت لنيوتن». وفعلا كانت الفكرة كذلك.

ومن زاوية معينة كانت مهمة بوهر سهلة؛ فمن جهة كانت لديه ذرة رذرفوردء ومن الجهة الأخرى كانت هناك نظرية الكم فما هو الشيء المثير الرائع في شاب في السابعة والعشرين من عمره يدمج هاتين الفكرتين معا واضعا بالنتيجة النموذج الذري الحديث؟ لا شيء سوى طريقة التفكير الواضحة والرائعة؛ ولا شيء سوى جهد التركيب والبناء والفكرة بأن يبحث عن دعم لها في المكان الوحيد الذي يمكن فيه الحصول على دعم: بصمة الذرة؛ أي الطيف الذي يصبح فيه سلوك الذرة مرئيا لنا ونحن ننظر إليها من الخارج.

تلك كانت فكرة بور الرائعة. فداخل الذرة غير مرئيء إلا أن ثمة نافذة يمكن خلالها النظر إلى الداخل؛ نافذة من زجاج ملون هي طيف الذرة. فلكل عنصر طيفه الخاص به وهو طيف غير مستمر بعكس الطيف الذي حصل عليه نيوتن من الضوء الأبيض. فطيف كل عنصر فيه عدد من الخطوط اللامعة التي تميز كل عنصرء فمثلا نجد أن للهيدروجين ثلاثة خط وني ظح واضكة نوها مارض ظعه الركى» خند انعمو وخطل الكهين مزرق وخط أزرقء وقد علل بور هذه الخطوط بان كلا منها يمثل انطلاق

ارتقاء الانسان

طاقة عندما يقفز الإلكترون الوحيد في ذرة الهيدروجين من أحد المدارات الخارجية إلى أحد المدارات الداخلية.

وطالما بقي إلكترون ذرة الهيدروجين في نفس المدار فإنه لا يصدر أية طاقة؛ وعندما يقفز من مدار خارجي إلى مدار داخلي فإن فرق الطاقة بين المدارين هو الذي ينطلق نحو الخارج ككتلة أو كم ضوئيء وهذه الكميات من الطاقة الصادرة من بلايين الذرات في وقت واحد هي التي نراها كخط مميز في طيف الهيدروجين: فاق الأحمر عائد إلى قفز الإلكترون من المدار الثالث إلى الثاني والأخضر المزرق يعود إلى قفز الإلكترون من المدار الرابع إلى الثاني: وأصبح بحث بور عن «نظام الذرات والجزيئات» حقيقة كلاسيكية على الفورء وبات تركيب الذرة الآن مسألة رياضية مثل عالم نيوتن؛ ولكنه حوى المبداً الإضاضي - مبدأ الكم - وهكذا بني بور عالما داخل الذرة بالذهاب إلى أبعد من قوانين الفيزياء التي ظلت سائدة طوال قرنين من الزمن بعد نيوتن. وعاد بور منتصرا إلى كوبنهاجنء وأصبحت الدانمارك وطنه مرة ثانية ومكانا جديدا ليعمل فيه. وفي عام 1920 أقاموا - تكريما له - معهد نيلز بوهر في كوبنهاجنء وصار الشبان يقصدونه من كل مكانء من أوروبا ومن أمريكا ومن الشرق الأقصىء ليتباحثوا في فيزياء الكم؛ ومن ألمانيا كان يتردد عليه فيرنر هايزنبرغ الذي استوحى كثيرا من أفكاره الهامة هناك. إذ لم يكن بور يدع أحدا يتوقف عند فكرة نصف تامة.

ومن الممتع تعقب الخطوات التي تم بها إثبات نموذج بور الذريء لأن ذلك بطريقة ما يعيد للأذهان دورة حياة كل نظرية علمية: فأولا تأتي ورقة البحثء وفيها تستخدم كل النتائج المعروفة في سبيل تأييد النموذج الذي تطرحه هذه النظرية: كأن يبين أن طيف الهيدروجين بشكل خاص فيه خطوط معروقة مننذ أمد وتتوافق مواضعها مع تنقل كميات طاقة الإلكترون من مدار إلى آخر.

أما الخطوة التالية فهي توسيع هذا النوع من التوكيد إلى ظاهرة جديدة: إلى خطوط ذات طاقة أعلى في طيف الأشعة السينية. وهي خطوط غير مرئية. ولكنها تتشكل بالطريقة ذاتها أي بقفز الإلكترون: وكان هذا البحث جاريا في مختبر رذر فورد عام 1913؛ وأدى إلى نتائج جميلة أيدت تماما ما تنبا به بور. والرجل الذي قام بذلك هو هاري موسلي الذي كان في السابعة

224

عالم ضمن عالم

اللوحة رقم (30)

إن داخل الذرة غير مرئيء بيد أن هنالك نافذة زجاجية ملونة: ذلك هو طيف الذرة. - طيف غاز الهيدروجين. والحزم التي فسرها نيلز بور عام 1913 على أنها قفزات إلكترونية من مدار إلى آخر ضمن الذرة. لكن لويس دوبرولي فسر هذه المدارات بعدثذ. على أنها شرائط موجية مستقرة ومحددة؛ بحيث تكون المدارات مكانا لعدد صحيح من الأمواج المغلقة حول النواة.

ارتقاء الانسان

والعشرين من عمرهء والذي لم يقم؛ مع الأسفء. بأي عمل باهر آخرء لأنه مات في الهجوم البريطاني التعيس الفاشل على غاليبولي عام 1915. وهي حملة كلفت - بصورة غير مباشرة - الكثير من أرواح شباب آخرين: كان يمكن أن يكون لهم مستقبل باهر ومنهم الشاعر روبرت بروك. وكما في عول مكزابيف اشان عمل مزميلي ضهنا إلى أن صكن المتتاصر مفشورة, وقد اكتشف أحد هذه العناصر في مختبر بورء وسمي هافنيوم: وهو الاسم اللاتيني لمدينة كوبنهاجن. وقد أعلن بور عرضا اكتشاف هذا العنصر في الخطاب الذي ألقاه عند قبوله جائزة نوبل في الفيزياء عام 1922, ولا يمكن نسيان موضوع ذلك الخطاب. حيث وصف بور بالتفصيل ما أوجزه فيما يكاد يكون شعو في خطات انق

كيف أن مفهوم الكم قد :«أدى تدريجيا إلى تصنيف منظم لأنواع الارتباط الساكن لأي إلكترون داخل الذرة؛ الأمر الذي قدم تفسيرا كاملا للعلاقات الملفتة للنظر بين الخواص الفيزيائية والكيميائية للعناصرء كما هو معبر عنها في جدول مندلييف الدوري الشهيرء و يأتي تعليل خواص المادة بهذه الظطريقة تحقيعا لفكرة مكالية كريمة تقول باختزال وضع القوانين الطبيعية إلى مجرد أعداد بحتة, وهو أمر يفوق حتى أحلام الفيثاغوريين».

وفي هذه اللحظة بالذات؛ عندما بدا أن كل شيء كان سائرا على نحو رائع» بدأنا ندرك فجأة أن نظرية بور - كأية نظرية أخرى - تقترب من حدود ما يمكنها أن تعمله؛ وفعلا بدأت تظهر على نظرية بور يوادر الضعف» كما لو كانت تشكو من ألم المفاصل الروماتيزمي. كم تبين في النهاية أن هذه النظرية لم تحل المعضلة الحقيقية المتعلقة بتركيب الذرة على الإطلاق؛ فقد كانت كما لو أننا كسرنا قشرة البيضة:؛ ولكن داخل القشرة تكون الذرة كبيضة ذات صفار أو مح يمثل النواة» وتبين أننا لم نبدأ بعد في فهم هذه النواة وإدراكها.

وكان نيلزيور ميالا للتأمل والراحة. وعندما منح جائزة نوبل صرف نقودها في شراء منزل في الريف. كما امتد تذوقه للفن إلى الشعرء وقد قال لهايزنبرغ: «عندما يتعلق الأمر بالذرات فان اللغة تستعمل فقط كما في الشعرء فالشاعر أيضا لا يهتم بوصف الحقائق قدر اهتمامه بخلق الصور». وهي فكرة غير متوقعة, فعندما يتعلق الأمر بالذرات لا تصف

220

عالم ضمن عالم

اللغة أية حقائق بل تخلق صوراء والأمر كذلك. فكل ما يقع دون العالم المرئي أمر تخيلي دائما بالمعنى الحرفي. عرض من الصور الخيالية؛ وليس ثمة طريقة أخرى للحديث عما هو غير مرئي. سواء كان ذلك في الطبيعة أو في الفن: أو في العلوم.

وعندما ندخل عبر بوابة الذرة نصبح في عالم لا يمكن لحواسنا أن تجربه أو تحس به. فهناك هندسة بنائية جديدة داخل الذرةء طريقة تترتب وفقها الأشياء ولا نستطيع معرفتهاء فنحن نحاول فقط أن نصورها بالتشبيه أو الأمثولة» وهذا فعل من أفعال التخيل جديد؛ فالصور الهندسية تأتي من عالم حواسنا الملموس لأن ذلك هو العالم الوحيد الذي يمكن للكلمات أن تصفه. ولكن كل الطرق التي نلجاً إليها لتصوير العالم غير المرئي عبارة عن استعارات وتشبيهات ننتزعها من العالم الأكبر - عالم العين والأذن واللمس.

وعندما اكتشفنا أن الذرات ليست أصغر وحدات بناء المادة. أمكننا أن نحاول عمل نماذج توضح كيف تترابط وتعمل وحدات البناء هذه بعضها مع بعض . والقصد من هذه النماذج أن تبين - بالمقارنة بالأمثال - كيفية تركيب المادة. ولذا فحتى نختبر هذه النماذج علينا تجزتة المادة وتقطيعها قطعاء كما يفعل قاطع الماس الذي يتلمس تركيب البلورة.

إن ارتقاء الإنسان عملية تركيب تزداد غنى باستمرارء ولكن كل خطوة فيه عبارة عن جهد في التحليل. وتحليل يزداد عمقاء عالم بداخل عالم. وعندما اكتشف أن الذرة قابلة للانقسام بدا أن من المحتمل أن يكون مركزها - النواة - غير قابل للانقسام... ثم ظهر بعد ذلك - حوالي عام 1930 - أن هذا النموذج يحتاج إلى بعض التعديل. فقد تبين أيضا أن مركز الذرة (النواة) ليس نهاية أصغر أجزاء الحقيقة غير القابلة للانقسام (فقد أمكن شطر النواة).

ويقول أحبار التوراة: إنه عند غروب شمس اليوم السادس من أيام الخليقة صنع اله للانسان عددا من الأدوات تمنحه موهبة الخلق أيضاء ولو كان هؤلاء الأحبار أحياء في هذا العمر لقالوا بأن «الله خلق النيوترون» وأعطاه للانسان كي يقوم بهذه المهمة. وهنا في أوكر يدج: في ولاية تنيسي الأمريكية؛ تتوهج النيوترونات بلون أزرق: وما هذا الوهج الأزرق سوى رمز لإصبع الله تعالى وهي تلمس آدم في لوحة مايكل أنجلو لا لتمنحه الحياة

227

ارتقاء الانسان

بل لتعطيه القوة.

يجب علي آلا أبدأ الحديث عن هذا الموضوع في هذه المرحلة المبكرة, واسمحوا لي أن أبدأً القصة من عام 1930 . ففي ذلك الوقت كان الاعتقاد بأن النواة غير قابلة للانقسام يبدو غير قابل للنقاش كما كان الوضع بالنسبة للذرة من قبل؛ وكانت المشكلة تتمثل في عدم وجود أية طريقة لشطر النواة وتجزتتها إلى أقسام صغيرة مشحونة كهربائياء فالأعداد لم تكن لتتوافق, إذ أن النواة تحمل شحنة موجبة (كي تعادل شحنة الإلكترونات السالبة في الذرة) وعدد الشحنة الموجبة مساو للعدد الذري؛ ولكن كتلة النواة لا تساوي مضاعفا ثابتا لهذه الشحنة؛ فهي تتراوح بين كونها مساوية للشحنة تماما كما في حالة الهيدروجين وبين ما يزيد كثيرا على ضعف هذه الشحنة في العناصر الثقيلة؛ ولم يكن هذا الأمر ممكن التعليل؛ طالما بقي الجميع مقتنعين أن كل المادة يجب أن تبنى من الكهرباء.

ويعود الفضل إلى جيمس شادويك في مخالفة هذا الاعتقاد العميق الجذور. وبرهن عام 1932 على أن النواة مؤلفة من نوعين من الجسيمات؛. فبالإضافة إلى البروتون المشحون شحنة موجبة: هنالك أيضا النيوترون غير المشحون كهربائيا . وهاتان الجسيمتان - البروتون والنيوترون - متساويتان تقريبا في الكتلة التي هي فريبة بدورها من الوزن الذري للهيدروجين. فالهيدروجين العادي فقط (أي أبسط أنواع الهيدروجين) لا تحوى نواته أية نيوترونات. بل تحوى فقط بروتونا واحدا.

وهكذا ظهر النيوترون كنوع جديد من وسائل الكشف وسبرغور المادة كلهب السيميائيين القدماءء لآن النيوترون لا يحمل شحنة كهربائية: ولذا يمكن إطلاقه على نوى الذرات دون أحداث أي اضطراب كهريائي يغير هذه النوى. وكان السيميائي الحديث - الرجل الذي استفاد من هذه الأداة اكثر من أي إنسان آخر - هو انريكو فرمي في روما.

كان انريكو فرمي مخلوقا غريباء ولم اعرف هذا الإنسان إلا في وقت متأخر كثيراء وذلك لأنه في عام 1934 كانت روما في قبضة موسولينيء كما كانت برلين في قبضة هتلرء ولم يكن بوسع أمثالي السفر إلى أي من المدينتين.

عالم ضمن عالم

إنسان وقعت عليه عيناي» وقد يكون هنالك استثناء واحد؟ كان فرمي ممتلئا. صغير الحجم.ء قوياء نافذ البصيرة ويتمتع بروح رياضية عالية. كما كان دوما واضحا في تفكيره حول الاتجاه الذي يبحث فيه عقله؛ كما لو كان يستطيع رؤية الأشياء حتى أعماقها السحيقة.

وبدأ فرمي بإطلاق النيوترونات على كل عنصر الواحد تلو الآخرء وأصبحت خراقة تحول المعادن الخسيسة إلى ثمينة حقيقة على يديه؛ وكان يمكن رؤية النيوترونات وهي تنساب من مفاعله النووي: لأن ذلك المفاعل كان من النوع المسمى «مفاعل حوض السباحة». ذلك أن النيوترونات في هذا النوع الأول من المفاعلات كانت تمرر في حوض ماء لإقلال سرعتها وبذا يتوهج مسارها في الماء بلون أزرق؛ والاسم العلمي لهذا النوع من المفاعلات هو مفاعل نظائر ذو تدفق عال #ماعدء: ءعمماهذ1 ع:نا1؟ طونط وقد تم تطويره في أوكريدج بولاية تنيسي الأمريكية.

وبالطبع كان تحويل العناصر حلما قديماء ولكن بالنسبة لأشخاص مثلي ميالين للتفكير النظري فإن أكثر ما كان مثيراً في الثلاثينات من هذا القرن هو أنه في ذلك العقد بدأ كشف تطور الطبيعة؛ ويتحتم علي أن أوضح هذه العبارة؛ فلقد بدأت هذا الموضوع بالحديث عن يوم الخليقة. وسأكرر ذلك مره اشرق هين ابح تاكن جيمس اشروزليين اسافقة أرماق كي أيرلندا الشمالية. حوالي عام 1650»؛ أن الكون قد خلق عام 4004 قبل الميلاد . ولآنة كان ساسا بالجون والتيعني قف زمضى اف يرد و جدال د ومكذا فزن عرف ليس فقط سنة الحلقء بل الشهر واليوم والساعة أيضاء (وهو تاريخ نسيته لحسن الحظ)»؛ ولكن أحجية عمر الكون بقيت دون حل وبقيت معضلة متناقضة حتى انقضت سنوات عدة من هذا القرن. لآنه بينما كان من الواضح أن عمر الأرض يزيد على ملايين عديدة جدا من السنين؛ لم يكن بوسعنا تصور من أين جاءت الطاقة التي تصدر عن الشمس والنجوم وتبقيها مضيئة مشعة مدة طويلة من الزمن؛ إلى أن وضع آينشتاين معادلاته التي تبين أن فقدان المادة ينتج طاقة؛ ورغم ذلك فقد بقي السؤال: كيف يعاد تنظيم المادةة

وهذا السؤال هو سر الطاقة والباب لفهم ذلك السر قام بفتحه اكتشاف شادويك. قفي عام ١939‏ قام هانس بته عطاء8 5مة11 الذي كان يعمل في

2120

ارتقاء الانسان

جامعة كورئل: قلمرة الأولى يتفسير ما يحصل في الشمس» بعبارات غاية في الدقة من حيث تحول الهيدروجين إلى هيليوم؛. مع نقص في الكتلة يتحول إلى طاقة تنساب إلينا كهدية غالية. وقد تلحظون أننى عندما أتحدث عن هذه الأمور أتحدث بنوع من العاطفية لأنها بالنسبة لي ذات أهمية تتعلق بتجربتي لا بمجرد ذاكرتي. ذلك أن تعليل هانس بته - بالنسبة لي - واضح وضوحاً شديداً يوازي وضوح يوم زواجي,» ويعضص المعالم التي تلت زواجي كمولد أطفالي. لأن ما تكشف خلال السنوات التي تلت (والذي في النجوم. تؤدي إلى بناء الذرات: واحدة تلو الأخرى؛ في تعقيد متزايد من ذرات بسيطة إلى ذرات معقدة: فالمادة ذاتها «تتطور». وهذه الكلمة مستعارة بالطبع من داروين وعلم الأحياء؛ ولكنها الكلمة التي بدلت الفيزياء

إن الخطوة الأولى في تطور العناصر. تحدث في النجوم الفتية» كالشمس مثلا. فهناك يتحول الهيدروجين إلى هيليوم: وهذا الأمر يحتاج إلى حرارة هائلة داخل هذه النجوم. وما نراه على سطح الشمس ليس سوى عواصف ناتجة عن ذلك الفعل. (تأكد وجود الهيليوم في الشمس. لأول مرة. من هيليوماء أي غاز الشمس لهذا السبب. حيث لم يكن معروفاً عندئذ في الأرض). والذي يحدث أنه - من وقت لآخر - تتصادم نواتان من الهيدروجين الثقيل وتندمجان معا لتشكلا نواة ذرة هيليوم.

ومع مرور الزمن ستصبح الشمس - في معظمها - من الهيليوم؛ وعندئد ستصيح نجما ذا درجة حرارة أعلى» حيث يؤدي تصادم نوى الهيليو. - بدوره - إلى تشكيل ذرات أثقل. غالكربون مثلاء يتشكل في أي نجم؛ عندما تتصادم فيه ثلاث نوى هيليوم في نقطة واحدة: في فترة تقل عن جزء من مليون جزء من الثانية. وكل ذرة كربون: في أي كائن حي إنما تشكلت بمثل هذا الاصطدام الذي يبدو قليل احتمال الحدوث. وبعد الكربون؛ يتشكل الآكسجين والسيليكون والكبريت والعناصر الثقيلة (بنفس الأسلوب وإنما بتدرج في التعقيد). إن هذه العناصر التي تعتبر أكثر ثباتاً من غيرها موجودة في منتصف جدول مندلييف. وعلى وجه التقريب بين الحديد

عالم ضمن عالم

والفضة. ولكن عملية بناء العناصر تتجاوز هذه العناصر بكثير.

والتساؤل الذي يخطر بالبال هو أنه إذا كانت العناصر تتشكل بهذه الطريقة؛ واحداً بعد الآخرء فلماذا إذن توقف الطبيعة هذه العملية عند حد معينة لماذا نجد اثنين وتسعين عنصرا فقطء آخرها اليورانيوم؟ للاجابة على هذا السؤال علينا أن نصطنع بعض العناصر التي تتجاوز اليورانيوم: وأن نثبت أنه عندما تكبر الذرة فوق حد معين فإنها تصبح أكثر تعقيداء وتميل بالتالي إلى الانهيار والتفكك إلى أجزاء أصفرء. وعندما نصطنع أمثال هذه العناصر فإننا لا نصطنع عناصر جديدة فحسبء بل نصطنع شيئًا فيه إمكانية الانفجار؛ فعنصر البلوتونيوم الذي صنعه فرمي في أول مفاعل تاريخي يعتمد الغرافيت كمادة مهدئة كان العنصر الذي صنعه الإنسان وبين للعالم أجمع تلك القوة الانفجارية؛ ويعتبر هذا العنصر نصبا شامخا لعبقرية فرمىء ولكنني أنظر إليه كقربان لإله الشر والعالم السفلي. بلوتو؛ الذي أخن اسمه لهذا العنصر. ذلك أن أربعين ألف إنسان ماتوا في ناغازاكي عندما ألقيت عليهم قنبلة البلوتونيوم الذرية. وهذه مرة أخرى في تاريخ العالم يُخلد فيها نصب معين شخصا عظيما وآلاف الموتى؛ في نفس الوقت.

وهنا علي أن أعود ثانية إلى منجم ملح فلتشكا في بولنداء لأن هنالك تنافضا تاريخيا يجب توضيحه هنا. فالعناصر تتكون في النجوم بصورة مستمرة؛ ومع ذلك فقد اعتدنا على الاعتقاد بأن الكون آيل إلى نهاية قريبة. فلماذا؟ وكيف؟

إن فكرة أيلولة الكون إلى نهاية قريبة تأتي من ملاحظة بسيطة لأية آلة. فكل آلة تستهلك من الطاقة اكثر مما تعطي؟ إذ أن بعض هذه الطاقة يضيع في الاحتكاك؛ وبعضها الآخر يضيع في اهترائها مع الزمن. وضي بعض الآلات الأكثر تقدما من المحاور الخشبية القديمة في فلتشكاء تضيع الطاقة بطرق أخرى ضرورية لعمل الآلات: كما في المشع الذي يبرد الآلة أو ماص الارتجاج. ففي كل هذه الطرق تنحط الطاقة؛ (أي يضيع قسم منها دون غائدة). فهناك كمية من الطاقة التي لا يمكن الوصول إليها واستعمالها ونحن دوما نضيف إلى تلك الكمية جزءا من الطاقة لا يمكن استعادته أو الاستفادة منه.

ارتقاء الانسان

وفي عام 1850 وضع رودلف كلوزيوس هذه الفكرة في مبداً أساسي؛ فقد قال بأن ثمة طاقة متوفرة وقابلة للاستعمال؛ وثمة بقية من طاقة لا يمكن الوصول إليهاء وهذه الطاقة التي يصعب الوصول إليها هي ما أطلق عليه كلوز يوس اسم «الطاقة الداخلية» (انتروبي) /إمهناهث . وصاغ كلوزيوس المبدأ الثاني الشهير للحرارة الديناميكية (الثرموديناميكية) بالشكل التالي: الطاقة الرابغلية (الأنتروبي) في ازدياد دائم» ففي الكون تنساب الحرارة إلى ما يشبه بحيرة التعادل حيث لا يمكن الاستفادة مما تحويه من حرارة.

وكانت تلك الفكرة لطيفة قبل مائة عام؛ فعندها كانت الفكرة السائدة أن الحرارة نوع من سائل. ولكن الحرارة ليست شيئًا مادياء شأنها في ذلك شأن النارء أو الحياة. فالحرارة حركة عشوائية للذرات»؛ و يعود الفضل إلى لودفيغ بولتزمان من النمسا في عقل هذه الفكرة بشكل باهرء لإعطاء تفسير جديد لما يحصل في الآلة, أو المحرك البخاريء أو الكون.

وهكذا قال بولتزمان إنه عندما تنحط الطاقة فإن الذرات تتخن حالة أكثر عشوائية» وعلى هذا فإن الطاقة الداخلية (الأنتروبي) مقياس لهذه العشوائية أو عدم النظام. تلك هي الفكرة العميقة التي انبثقت عن تفسير بولتزمان الجديد.

وبالطبع فان حدوث الحالات غير المنتظمة أكثر احتمالا من الحالات المنتظمة: لأن أي تجمع للذرات بشكل عشوائي سوف يكون غير منتظم.: وهكذا بشكل عام فان أي ترتيب منتظم للذرات سوف يضمحل إلى عدم الانتظام: بيد أن «بشكل عام» لا تعني «دائماً». إذ ليس من الصحيح أن الحالات المنتظمة تتحول بصورة «دائمة» إلى الفوضى وعدم الانتظام . فهذا القانون إحصائيء و يعني ذلك فقط أن النظام «يميل» إلى الزوال. ولكن الإحصاءات لا تقول «داتمأ». ذلك أن الإحصاء يسمح للنظام بأن يتنامى في بعض مواقع هذا الكون (هنا على الأرضء فيكم ومّي أنا... في النجوم, وفي جميع الأمكنة على اختلاف أنواعها) بينما يحدث عدم النظام (الفوضى) في مواقع أخرى. 1

إن ذلك مفهوم رائع وجميل. ولكن هناك سؤالا واحداً يجب طرحه. فإذا صح أن الاحتمال هو الذي جلبنا هناء أليس ذلك الاحتمال ضئيلا جداً؟ بحيث إنه لا حق لنا بأآن نكون موجودين هنا؟

عالم ضمن عالم

إن الناس الذين يطرحون ذلك السؤال يصورونه دوماً كما يلي: فكروا بكل الذرات التي تشكل جسمي في هذه اللحظة. كم هو بعيد الاحتمال جداً إلى حد الجنون أن تأتي هذه الذرات معاً إلى هذا المكان؛ في هذه اللحظة؛ وتشكلني. نعم: إن هذا صحيع.: فلو أن ذلك التركيب حصل بهذه الكيفية؛ فلن يكون هذا الآمر غير محتمل فقطء بل سيكون مستحيلا.

ولكن ما يحدث في الطبيعة لا يكون بهذا الشكل. فما يحدث يكون يخطوات على مراحل.هالقراث فشكل الجزيقات: والجزيكات تشكل الشواهد: وهذه القواعد توجه تشكيل الأحماض الأمينية؛ التي تشكل بدورها البروتينات. وتعمل هذه البروتينات في الخلايا. وتكون الخلايا بادئّ ذي بدء الحيوانات البسيطة؛ ومن ثم الحيوانات المعقدة. في خطوات متدرجة صعوداً خطوة تلو أخرى. فالوحدات المستقرة التى تؤلف أحد المستويات أو طيقة من الطيغات في المواد التقام للقابالات اتمشواتية تية التي تنتج تشكيالات أعلى يصدف أن يكون بعضها تثابتأ. وطالما بقيت هنالك إمكانية كامنة للاستقرارء لم تتحقق بعد. فليس ثمة طريق آخر للصدفة لآن تعمل. غالتطور صعود درج أو سلم من البسيط إلى المعقد بخطوات كل خطوة منها ثابتة بحد ذاتها.

وبما أن هذا الأبريية صل مركرعي فلقد أطلقت عليه اسم «الاستقرار الطبقي» أي اس” ستقرار طبقة فوق أخرى مستقرة. ذلك هو الذي جعل الحياة تصعد سلم التعقيد بخطى وئيدة ولكن مستمرة: الأمر الذي يشكل النقطة المركزية في موضوع التقدم ومشكلة التطور. ونحن ندرك الآن أن هذا الأمر صحيح ليس فقط بالنسبة للحياة, بل أيضاً بالنسبة للمادة. فلو كان على النجوم أن تبني عنصراً ثقيلا كالحديد أو عنصراً أثقل بكثير مثل اليورانيوم بتجميع أجزائه دفعة واحدة لكان ذلك أقرب إلى المستحيل. وما يجري في نجم ما هو أن يتحول الهيدروجين إلى هيليوم:؛ ثم وفي مرحلة أخرىء في نجم آخرء. يتجمع الهيليوم متحولا إلى كربون؛ والى أكسجين والى عناصر تقيلة كذ خطاية. بقطوة صعرداً على السلم أو الدرج؛ تتشكل العناصر الاثنان والتسعون في الطبيعة.

وليس في وسعنا أن نقوم بالعمليات التي تحصل في النجوم بشكل عام؛ لأنه ليست لدينا القدرة على تحضير درجات الحرارة الهائلة التي يحتاجها

ارتقاء الانسان

اللوحة رقم (31)

يحول النجم الهيدورجين إلى هيليوم. ثم في مرحلة أخرىء يتجمع الهيليوم متحولا إلى الكربون. إلى الأوكسجينء والى العناصر الثقيلة..

السديم العظيم (م-42) في الصيد صورة أخذت بواسطة التلسكوب الضخم الموجود فلئ: جبل بالومار في جنوب كاليفورنيا. يبعد هذا السديم 1500 سنة ضوئية عن الأرض. وقد لوحظ فيه تشكل العديد من النجوم المتغيرة؛ بدءا من الهيدروجين الموجود بين النجوم.

جراد قاين الخطوة الأراتي أى للدوول افيد وو جين إلى فملياوم, وى بجا

آخر من اوكريدج: في ولاية تنيسي الأمريكية, يقوم العلماء بمحاولة الدمج

234

عالم ضمن عالم

تلك.

على أنه من الصعب أن يولد الإنسان درجات حرارة كتلك التي توجد داخل الشمسء أي ما يزيد على عشرة ملايين درجة مئوية. والأمر الأصعب من ذلك صنع أي نوع من الآنية التي تتحمل درجات الحرارة الهائلة هذه. ولو لفترة صغيرة لا تتجاوز جزءاً صغيراً من الثانية. فليس هنالك مادة تستطيع ذلك؛ والوعاء الوحيد الذي يمكن أن يحوي غازاً في هذه الحالة العنيفة يجب أن يكون من نوع المصيدة المغناطيسية. وهذا الأمر نوع جديد من الفيزياء؟ فيزياء البلازماء وتنبثق روعة هذا النوع من العلم وأهميته من أنه فيزياء الطبيعة ذاتها. غفي هذه المرة تتجه عملية إعادة الترتيب التي يقوم بها الإنسان لا بشكل مغاير لاتجاه الطبيعة. بل على طريق الخطى ذاتها التي تسير وفقها الطبيعة في الشمس والنجوم.

إن الخلود والموت هما التناقض الذي سأنهي به هذه المقالة. ففيزياء الغرن العشرين إنجاق جالد + والخيان الإساتى العامل جفافياً لم يستظم حتى الآن أن ينتج ما يعادل ذلك الإنجاز. فلا الأهرامات. ولا إلياذة هوميروس. ولا الأغاني الشعرية ولا الكاتدرائيات تعادل في روعتها وأثرها إتجازات فيزياء القرن النشرين: والريجال الذيخ حفقوا هذا الانجان واحداً يعد الآخر, هم الأبطال الرواد في هذا العصر: مندلييف وهو يخلط بطاقات عناصره.؛ ج. ج. طومسون الذي قلب الاعتقاد الإغريقي القائل بأن الذرة لا تنقسم, رذر فورد الذي حول الذرة إلى نظام شمسيء ونيلزيور الذي جعل ذلك النموذج يعمل؛ وشادويك مكتشف النيوترون؛ وفرمي الذي استعمل ذلك النيوترون لفلق النواة وتحويلها إلى عناصر أخرى. و يأتي في مقدمة هؤلاء جميعاً؛ أولئتك الذين حطموا التماتيل القديمة؛ أولئثك الذين وضعوا أسس الأفكار الحديثة: ماكس بلانك الذي أعطى الطاقة المفهوم الذري كالمادة. ولودفيغ بولتزمان الذي يعود إليه الفضلء أكثر من أي شخص آخرء في أن الذرة - ذلك العالم ضمن العالم - شيء حقيقيء كالعالم الذي نعيش فيه.

من يمكنه أن يفكر أنه في عام ١900‏ فقط كان الناس يتقاتلون بشدة حول ما إذا كانت الذرة شيئاً حقيقياً أم لا؟ فالفيلسوف الكبير أرنست ماخ - في فيينا - قال: لا. وكذلك فعل الكيميائي الشهير فيلهلم اوستفالد؛ ورغم

ارتقاء الانسان

ذلك فقد وقف رجل واحد. فى المنعطف الحاسم لهذا القرن؛ ودافع عن حقيقية الذرات؛ بدءاً من منطلقات نظرية أساسية . ذلك هو لودفيغ بولتزمان, الذي أقدم لنصبه التذكاري احترامى وتقديري. ومن أتباع داروين الأوائل. كما كان مشاكساً. يبعث البهجة فيه كل الصفات التي يجب أن يكون عليها البشر. وفي تلك النقطة كل - التاريخ تأرجح ارتقاء الإنسان على ميزان فكري دقيق بين القائلين بحقيقة المفاهيم الذرية من جهة؛. ومعارضي تلك الأفكار من جهة أخرى. فلو ربح المعارضون تلك الزمن. ولم يكن هذا التأخر ليقتصر على الفيزياء. بل سيتعداها إلى علم في خضم ذلك الموضوع. ففي عام 1906ء عندما كان بولتزمان في الثانية والستين من عمره. طغى عليه الشعور بالعزلة والهزيمة. وفي ذات اللحظة قد ضاعء وفي لحظة اليأس تلك أقدم على الانتحار. ولم يبق ليخلد ذكراه سوى معادلته الرياضية منقوشة على قبره في فيينا. لأنني لأعجز عن أن آتي بكلام يجاري إيجاز معادلة بولتزمان وجمالها النفاذ. ولكنني سأستشهد بأبيات من الشاعر وليم بليك الذي بدأ قصيدته «نذر البراءة» بالآأبيات التالية: كبس تسر سا قي عحييسة سبل وحطنةق يوي زف در ة بريه أمسلك اللانهاية فيراحةيدك والختلوو في ساعة:ة واحدة

230

عالم ضمن عالم

الهو امش

)١(‏ أي أن أية كتلة مادية عبارة عن عدد صحيح من كتل صغيرة هي وحدة الكتلء فالمادة غير مستمرة بل متقطعة وكذلك الأمر بالنسبة للطاقة فأية كمية من الطاقة عبارة عن عدد صحيح من وحدة الطاقة المسماة بالكم صستخصديع.

(2) 1لا عه110 - 5

227

معرذة أم يقين؟

إن أحد أهداف العلوم الطبيعية إعطاء صورة دقيقة عن العالم المادي» وإحدى منجزات الفيزياء في القرن العشرين هي البرهان على أن هذا الهدف لايمكن تحقيعه.

لنأخذ شيئا ماديا ملموسا كالوجه البشري؛ وأتصور أنني أصغي إلى امرأة ضريرة وهي تمر بأطراف أصابعها على وجه رجل تتلمسه لآول مرة. وتفكر بصوت عال: «اعتقد أنه رجل متقدم في العمرء كما أنه ليس إنجليزيا . فوجهه أكثر استدارة من وجوه أكثر الإنجليزء ويمكنني أن أقول انه من المحتمل أن يكون أوروبياء إن لم يكن أوروبيا شرقيا . أما الخطوط في هذا الوجه فهي نتاج أسى ومعاناة, وقد اعتقدت في البداية أنها ندوب جروح. انه وجه إنسان غير سعيد».

ذلك هو وجه ستيفان بورغرافيتشء الذي ولد مثلي في بولندا . ونحن ندرك أن الصور التي يرسمها الفنانون لا تحدد الوجه بقدر ما تغوص في أعماقه وتكتشفه. فالفنان يقتفي تفاصيل الوجه كما لو كان يلمسهاء وكل خط يضاف يقوي الصورة ولكنه لا يجعلها نهائية. ونحن نقبل بذلك؛ على اعتبار أن

23#

ارتقاء الانسان

هذا هو أسلوب الفنان.

ولكن ما فعلته الفيزياء الآن هو بيان أن ذلك هو الأسلوب الوحيد للمعرفة, إذ ليس ثمة معرفة مطلقة. وأولئك الذين يدعون خلاف ذلك - سواء أكانوا علماء أم عقائديين - يفتحون الباب على المأساة؛ فكل المعلومات منقوصة, غير كاملة. ويجب التعامل معها وتناولها بتواضع. تلك هي الحال البشرية: وذلك هو ما تقوله فيزياء الكم؛ وأعني ذلك حرفيا.

انظر إلى الوجه عبر كل طيف المعلومات الكهرمغناطيسية. والسؤال الذي سأطرحه هو: ما مقدار مبلغ الدقة التي يمكن بها رؤية التفاصيل بوساطة أفضل أجهزة الرؤية في العالم - أو بجهاز مثالي كامل - لو استطعنا التفكير بمثله؟

ومشاهدة التفاصيل لا تقتصر بالضرورة على الرؤية بالضوء المرئي. فقد اقترح جيمس كلارك ماكسويل عام 1867 أن الضوء موجة كهرمغناطيسية؛ وقد عنت ضمنا المعادلات التي وضعها في هذا الصدد أن هناك أمواجا أخرى. وفي الواقع فان طيف الضوء المرئي - من الأحمر حتى البنفسجي - لا يمثل سوى جزء من مدى الإشعاع غير المرئي. فهنالك سلسلة طويلة من المعلومات التي تمتد من أطول الموجات وهي موجات الراديو من جهة: إلى أقصر الموجات وهي موجات الأشعة الدينية ومنا وراءها من جهة أخرى. وسنضيء بها جميعا - الواحدة تلو الأخرى - الوجه

إن أطول الموجات غير المرئية هي موجات الراديو التي برهن على وجودها هنريش هرتز عام 1888: وبذا أكد نظرية ماكسويل. وبما أنها الأطول فذهي أيضا الأقل دقة. ولذا لا يستطيع شخص يدير كاشف رادار يعمل بموجات طولها بضعة أمتار أن يرى الوجه إطلاقا إلا إذا جعلنا ذلك الوجه ضخما بعرض عدة أمتار ولا تظهر أية تفاصيل على هذا الوجه الضخم. إلا عندما نقصر طول الأمواج الرادارية. فعندما تصبح جزءاً من المتر تظهر الأذان. وعندما يصل طول الموجة إلى الحدود الدنيا العملية لموجات الراديو أي بضعة سنتيمترات يمكن أن نكتشف أول أثر للوجه العادي.

بعد ذلك ننظر إلى الوجه (وجه الرجل).؛ بواسطة كاميرا حساسة للمدى التالي من الإشعاع: أي الأشعة تحت الحمراء 158:8:64 التي يقل طول موجاتها

210

معرفه أم يقين؟

عن المليمتر. وكان الفلكي وليام هرشل قد اكشف هذا النوع من الأشعة عام 0 بملاحظة الحرارة الناتجة عنهاء عندما ركز منظاره على ما وراء الضوء الأحمر ذلك أن الأشعة تحت الحمراء هي أشعة حرارية. وتحول لوحة آلة التصوير هذه الأشعة بطريقة اعتبارية إلى ضوء مرئي. بحيث يبدو الجزء الأكثر حرارة أزرق اللون؛ والجزء الأكثر برودة أحمر اللون أو معتما. وبهذه الطريقة يمكن رؤية قسمات الوجه الإجمالية: العينين: الفم, الأنف كما يمكن أيضا ملاحظة الحرارة تنساب من المنخرين. وصحيح أننا - بهذه الطريقة - نتعلم شيئًا جديدا حول الوجه الإنساني. ولكن دون تفاصيل.

وتتداخل الأشعة تحت الحمراء في طرفها الأقصر أي عندما يصبح طول موجاتها عدة أجزاء من مائة من المليتمر؛ مع الضوء الأحمر المرثئي. ونستعمل فى هذه الحالة فيلما حساسا لكلا النوعين من الأشعة ؛ تحت الحمراء واللرقية:وفتدها تبدو معالم الحياة في الوجه. هذا الوجه ليس خاضا ماف رحل: نل بإنسان تعرفه. ْ

أما الضوء الأبيض فيكشف الوجه للعين بالتفصيل: الشعر القصيرء مسام جلد الوجه؛ تشويهاته وتجاعيده. فالضوء الأبيض مزيج من أطوال أمواج مختلفة تشمل الأحمر والبرتقالي غالأصفرء والأخضر.ء والأزرق وأخيرا البنفسجي ذا أقصر طول موجة مرئية. ومع أن الضوء البنفسجي قصير الموجة, لكن يجب أن يجعلنا قادرين على رؤية تفاصيل أدق مما نرى بالضوء الأحمر إلا أن الفرق بسيط ولا يساعد كثيرا من ناحية عملية.

إن الرسام يحلل الوجه. ويفصل القسمات كلا على حدة: يفصل الألوان؛ ويكبر الصورة. ومن الطبيعي أن نسأل عندئذ: ألا يجب على العالم أن يستعمل المجهر لفصل القسمات الدقيقة وتحليلها ؟ لا شك أن عليه ذلك» ولكن علينا أن نفهم أن المجهر يكبر الصورة: ولكنه لا يحسنها ؛ ذلك أن ما يعين وضوح التفاصيل هو طول موجة الضوءء فالحقيقة هي أنه عند أي طول موجة يمكننا أن نلتقط الشعاع فقط إذا كان الجسم بطول موجة الشعاع نفسهاء ولو كان الجسم أصغر من ذلك لما انعكس عنه إشفاع ولا ترك ظلا.

إن تكبيرا يتجاوز مائتي المرة يمكن أن يميز خلية جلدية واحدة بواسطة الضوء الأبيض العادي. ولكن للحصول على تفاصيل أكثر نحتاج إلى ضوء

24

ارتقاء الانسان

ذي موجة أقصر من ذلك. وعلى هذا الأساس فان الخطوة التالية تتمثل في استعمال الأشعة فوق البنفسجية:؛ التي يبلغ طول موجتها واحدا من عشرة آلاف جزء من المليمتر؛ أو أقل - أي أقصر بعشر مرات وأكثر من الضوء العادي. ولو كانت أعيننا قادرة على الرؤية بالأشعة فوق البنفسجية لرأينا منظرا متوهجا شبيها بالشبح. وإذا استعملنا مجهرا يعمل بالأشعة قوق البنفسجية نستطيع أن نرى من خلال هذا الوهج داخل الخلية مكبرا ثلاثة آلاف وخمسمائة مرة: أي أننا نصل إلى مستوى رؤية الصبغيات (الكروموسومات) كل بمفرده؛ ولكن ذلك هو الحد الذي لا تمكن بعده الرؤية, إذ ليس ثمة ضوء يمكن بواسطته رؤية مراكز الوراثة البشرية (الجنات) الموجودة داخل كل من هذه الكروموسومات أو الصبغيات.

ومرة أخرى إذا أردنا أن نتعمق أكثر من ذلك فيجب تقصير طول موجة الضوء المستعمل. أي يجب أن نلجأً إلى الأشعة السينية» ولكن هذه الأشعة نفاذة بشكل لا يمكن معه تركيزها على أية مادة, أي أنه لا يمكننا أن نصنع مجهرا يستعمل الأشعة السينية» ولذلك يجب أن نكتفي بإطلاق هذه الأشعة على الوجه فنحصل على نوع من الخيال؛ وتتوقف دقة التفاصيل التي نراها في هذه الحالة على درجة نفاذ هذه الأشعة. فنرى الجمجمة تحت الجلدء وبمكن أن نستدل مثلا على أن هذا الإنسان قد فقد أسنانه؛ إن استكشاف الجسم البشري هذا جعل الأشعة السينية هامة ومثيرة حالما اكتشفها فيلهلم رونتجن عام 1895. لأن هذا الاكتشاف بدا وكأن الطبيعة قد صممته لخدمة الطب. وجعل رونتجن يتخذ شكلا أبويا عطوفاء وفوق ذلك كان البطل الذي فاز بأولى جوائز نوبل عام 1901 .

وأحيانا تجعلنا صدفة موفقة في الطبيعة تُحقق الكثير بشكل غير مباشر أي باستنتاج ترتيب ليس بالإمكان رؤيته بشكل مباشر فالأشعة السينية لا يمكن أن ترينا ذرة منفردة لأن هذه الذرة صغيرة جدا لدرجة أنها لا تلقي ظلاء حتى بواسطة هذه الموجات القصيرة جداء ومع ذلك يمكن رسم خريطة للذرات المؤلفة لبلورة بسبب انتظام المسافات والفراغات داخل البلورة. ولذا فان الأشعة السينية تشكل طرازا منتظما من الموجات يمكن أن نستدل منه على مواقع الذرات نتيجة إعاقتها لمرور الأشعة. وتلك كانت الطريقة التي عرفت بوساطتها مواقع الذرات في لولب الحمض 2214:

242

معرفه أم يقين؟

وشكل مراكز الوراثة. وكان قد ابتدع هذه الطريقة ماكس فون لاو عام 2 وكانت ضربا مزدوجا من ضروب الإبداعء ذلك أنها كانت أول برهان على أن الذرات حقيقية. وكذلك أول برهان على أن الأشعة السينية أمواج كهرمغناطيسية.

بقيت علينا خطوة واحدة لنصل إلى المجهر الإلكتروني حيث تكون الأشعة مركزة بشكل شديد, إلى حد أننا لا نعرف هل نسميها موجات أم جسيمات؟ ففي هذا المجهر تطلق الإلكترونات على الجسم المراد استكشافه. فتقتفي حدود محيطه الخارجيء وأصغر جسم أمكن رؤيته بهذه الطريقة هو ذرة الثوريومء وهو منظر رائع يأخذ بالألباب: ومع ذلك فان هذه الصورة المرنة غير الواضحة تؤكد أنه حتى أكثر الإلكترونات صلابة لا تعطي حدودا واضحة جلية؛ فالصورة الكاملة لا تزال بعيدة عنا بعد النجوم النائية.

نقف - هنا - وجها لوجه أمام تناقض أساسي في مفهوم المعرفة. فسنة بعد سنة نبتكر أجهزة أدق لمراقبة الطبيعة بدقة أكثر. وعندما ننظر إلى مشاهداتنا بها نحس بضيق لأننا نرى أن الصورة لا تزال ضبابية غير واضحة؛ ونشعر أنها لا تزال غير مؤكدة: كما كانت منن الأزل؛: وهكذا يبدو أننا نسعى وراء هدف يبتعد عنا أكثر نحو ما لا نهاية له كلما اقتربنا لنصبح في مدى رؤيته.

ولا يقتصر التناقض في مفهوم المعرفة على المستوى الذري الصغير فحسب. بل على العكس من ذلك. نجده منطبقا على مستوى الإنسان؛ وحتى على مستوى النجوم. ولنشرح ذلك في إطار مرصد قلكيء فقد بُني مرصد كارل فريدريش غاوس في مدينة غوتنجن بألمانيا عام 1807: وخلال حياة غاوسء ومنذ ذلك الحين حتى الآن (أي لمدة تقرب من مائتي عام) أدخلت تحسينات هائلة على الأجهزة الفلكية. فنحن ننظر إلى موقع نجم.: كما كان يعين في الماضي وكما يعين الآنء ويبدو لنا أننا أقرب وأقرب إلى تعيين ذلك الموقع بدقة. ولكن عندما نقارن اليوم بالفعل نتائج هذه المشاهدات ندهش ونغتاظ عندما نجدها مشتتة فيما بينها. مثلما كانت منذ الأزل» وكان أملنا أن تختفي الأخطاء الإنسانية؛ وأنه سيكون لنا - يوما ما - نظرة حادة نرى بها كل شيء بدقة إلهية. ولكن يتبين أنه لا يمكن انتزاع الأخطاء من مشاهداتنا وهذا صحيح بالنسبة للنجوم: أو للذرات؛ أو لصورة إنسان

215

ارتقاء الانسان

ننظر إليهاء أو لسماع تقرير عن كلمة ألقاها أحدهم.

وأدرك غاوس ذلك الأمرء بتلك العبقرية الطفولية الرائعة التي تحلى بها حتى الثمانين من عمره تقريباء أي حتى وفاته. خفي عام 1795 وكان في الثامنة عشرة من عمره؛ أتى إلى غوتنجن ليدخل جامعتها وكان قد حل معضلة «أفضل تقدير» لسلسلة من المشاهدات ذات الأخطاء الداخلية وكان منطق غاوس عندئذ هو نفس المنطق الإحصائي الذي نستخدمه اليوم.

فعندما ينظر مراقب ما إلى أحد النجوم:؛ يعرف أن هنالك أسبابا عديدة للخطاً. ولذلك فانه يأخن عدة قراءات»: ويأمل طبعا أن يكون أفضل تقدير لموضع ذلك النجم هو متوسط تلك القراءات: أي المركز الذي تتوزع حوله تلك القراءات. وحتى الآن هذا أمر واضح ومقبول. لكن غاوس دفع هذا الموضوع خطوة أخرى نحو الأمام بالتساؤل عما يدل عليه توزع الأخطاء. وكانت النتيجة أن وضع المنحنى الشهير الذي عرف بعد ذلك بمنحنى التوزع الغاوسيء الذي يظهر شكله ومدى انتشاره توزع الأخطاء. ومن هذا المنحنى انبثقت فكرة بعيدة الأثر: إذ أن توزع الأخطاء يعين منطقة الشك وعدم اليقين؟ فنحن لسنا متأكدين من أن الموقع الحقيقي يقع في المركز. وكل ما يمكن قوله هو أنه يقع في «منطقة الشك» التي يمكن حسابها من التوزع الملاحظ للمشاهدات الفردية.

بهذا الرأي العميق عن المعرفة البشرية. شعر غاوس بال مرارة إزاء الفلاسفة الذين كانوا يدّعون أن لديهم طريقا للمعرفة أكثر كمالا من عمليات المشاهدة والمراقبة العلمية. ومن بين أمثلة متعددة سأختار واحدا. فقد كان هنالك فيلسوف يدعى فريدريش هيغل الذي يجب أن اعترف أنني أكرهه بشكل مميز وأنا سعيد أن أشارك في هذا الشعور شخصا أرفع مني مقاما بكثير: غاوس. فخفي عام 1800 تقدم هيغل بأطروحة يبرهن قيها أنه - على الرغم من تبدل تعريف الكواكب القديم فانه لا يوجد - اعتمادا على مبادئ فلسفية - سوى سبعة كواكب. ولم يكن غاوس الشخص الوحيد الذي عرف كيف يجيب على هذا الادعاء: إذ أن شكسبير رد على ذلك قبل غاوس بفترة طويلة. فثمة مقطع رائع في مسرحية «الملك لير» يقول فيه المهرج الأحمق للملك: «إن سبب اقفتصار عدد النجوم على سبعة سبب وجيه» فيهز الملك

2141

معرفه أم يقين؟

رأسه بحكمة ويقول «لأنها ليست ثمانية». ثم يتابع المهرج قائلا «حقاء يمكنك أن تكون مهرجا أحمق كبيرا». وهذا ما كأنه هيغل. ففي الأول من كانون الثاني (يناير) من عام ١80١‏ على وجه التحديد» وقبل أن يجف الحبر عن أطروحة هيغل تم اكتشاف كوكب ثامن - ألا وهو كوكب سيريس الصغير.

إن التاريخ مليء بالسخريات. فقد اكتشف بعد وفاة غاوس أن ليس ثمة عين إلهية دقيقة النظر لدى البشرء فالأخطاء وثيقة الارتباط بطبيعة المعرفة البشرية. وسخرية القدر هنا أن هذا الأمرقد اكتشف في جامعة غوتنجن

وتتشابه المدن الجامعية القديمة. بشكل يدعو إلى الدهشة. فجامعة غوتنجن في ألمانياء وكامبردج في إنجلترا ويال علهلا في أمريكا كلها في مدن ريفية؛ وليست على أي طريق عام؛ ولا يقصدها أحد إلا من أجل الالتقاء بأساتذتها. وهؤلاء الأساتذة متأكدون من أن هذه هي مركز العالم: وثمة مخطوط مدوّن على جدار منتدى دار البلدية في غوتنجن يقول: «لا حياة خارج غوتنجن». ولا تؤخذ هذه العبارة بجدية من قبل الطلاب. بقدر الجدية التي يأخذها بها الأساتذة.

أما شعار الجامعة فهو تمثال برونزي خارج دار البلدية؛ يمثل أوزة وفتاة عارية القدمين: يقبلها كل طالب عند التخرج. والجامعة هي «الكعبة» التي يؤمها الطلاب بإيمان أقل من كامل. ومن الضروري أن يُحضر الطلاب معهم - أول العام الدراسي - طفلا رث الثياب: تعبيرا عن ازدرائهم الصريح لما هو في الكعب؛ ذلك أنهم قدموا إلى هذا المكان لا من أجل عبادة ما هو معروف بل من أجل مناقشته والتساؤل عن صحته.

وككل مدينة بها جامعة. فان منطقة غوتنجن مليئة بطرق النزهات المتقاطعة التي كان يتمشى فيها الأساتذة عادة بعد تناول طعام الغداء؛ وكان طلاب الأبحاث يحسون بسعادة ونشوة إذا طلب إليهم مرافقة أساتذتهم خلال هذه النزهات. ومن المحتمل أن غوتنجن كانت في السابق مدينة هادئة. و يعود تاريخ المدن الجامعية الألمانية الصغيرة إلى ما قبل توحيد ألمانيا (أسس غوتنجن الملك جورج الثاني الذي كان حاكم ولاية هانوفر) الأمر الذي يعطي هذه المدن مسحة بيروقراطية محلية. وقد اتسمت هذه الجاحفات يروج سدافظة بالقارتة مع الجاعلات كير الألانية بحن بعد

215

ارتقاء الانسان

انتهاء الروح العسكرية وتنازل القيصر عام 1918.

وكانت السكة الحديدية وسيلة الاتصال بين غوتنجن والعالم الخارجي. وبهذه الطريقة أتى الزوار من برلين ومن الخارج: تواقين لتبادل الأفكار الجديدة في العلوم الفيزيائية التي كانت تتسارع قدما. وكان من شائع القول في غوتنجن أن العلم يولد في القطار المتوجه إلى برلين حيث كان الناس يتناقشون في عربات هذا القطارء ويناقضون آراء بعضهم وتتولد عندهم أفكار جديدة يعارضها آخرون أيضا.

وأثناء سنوات الحرب العالمية الأولى كانت نظرية النسبية تسيطر على العلم في غوتنجنء كما كان الأمر في المناطق الأخرى. ولكن في عام 921! عين لكرسي الفيزياء في تلك الجامعة ماكس بورن: الذي بدأ سلسلة من حلقات البحث جلبت إلى جامعة غوتنجن كل مهتم بالفيزياء الذرية. وربما بدا غريبا أن بورن عندما عين في ذلك المنصبء كان في الأربعين من عمره تقريباً. ذلك أن الفيزيائيين يقومون عادة بأعظم إنجازاتهم قبل بلوغهم الثلاثين من العمر (أما الرياضيون فتأتي إنجازاتهم قبل ذلكء؛ بينما يتأخر علماء الأحياء حتى ما بعد الثلاثين) . ولكن بورن كان يتمتع بمواهب شخصية فذة تشبه صفات سقراط.

وقد جذب إليه كثيرا من العلماء الشباب واستخلص افضل ما عندهم. وكانت الأفكار التي تبادلوها وناقشوها معا مصدرا لأعظم أعماله. ومن عساي أن اختار من ذلك العدد الكبير من الذين ارتبطوا بغوتنجن وبورن؟ انه دون شك فيرنر هايزنبرغ الذي قام بأعظم إنجازاته في غوتنجن مع بورن. ثم عندما نشر ارفن شودنغر صيغة مختلفة للفيزياء الذرية الأساسية, تمت المناقشات حولها هنا في جامعة غوتنجن. ومن كل أنحاء العالم أتى الناس إلى هذه المدينة كي يشاركوا في النقاش.

ومن الغريب التحدث بهذه العبارات عن موضوع أنجز بجهد وتعب شديدينء فهل كانت فيزياء العشرينات من هذا القرن عبارة عن مجرد مجادلات وحلقات بحث ومناقشات وخلافات؟ نعم كانت كذلك, ولا تزال. فالناس الذين اجتمعوا هناء والذين لا يزالون يجتمعون و يتجادلون في مخابرهم يختمون أعمالهم بمعادلات رياضية. فعملهم يبدأ بمحاولة حل ألغاز تتعلق بالمفاهيم - أي ألغاز الجسيمات تحت الذرية؛ مثل الإلكترونات

210

معرفه أم يقين؟

والبروتونات وغيرهاء وهي ليست سوى احجيات عقلية.

دعونا نفكر مثلاً في الأحجية التي أطلقها الإلكترون في تلك الفترة. فقد كانت النكتة بين الأساتذة (اشتقاقا من جدول مواعيد المحاضرات) أن الإلكترون يتصرف كجسيمة مادية أيام الاثنين والأربعاء والجمعة؛ وكموجة أيام الثلاثاء والخميس والسبت؛ فكيف يمكن التوفيق بين هذين المنحيين اللذين جيء بهما من عالم الأجسام الكبيرة» ودفعا معا في وحدة واحدة منفردة: عالم بالغ الصغر داخل الذرة 5 حول مثل هذه الأمور كانت التخمينات والمجادلات: وهذا الأمر لا يتطلب حسابات؛ بل بصيرة عميقة وخيالا واسعا - وبالأحرى ميتافيزيقاء ولا أزال أذكر عبارة استخدمها ماكس بورن عندما قدم إلى إنجلترا بعد عدة سنواتء ولا تزال مدونة في سيرة حياته التي كتبهاء إذ قال: «إنني الآن مقتنع تماما أن الفيزياء النظرية إنما هي فلسفة

وكان ماكس بورن يعني أن الأفكار الجديدة في الفيزياء ترقي إلى نظرة مخالفة للواقع؛ فالعالم ليس مجموعة مرتبة ثابتة صلبة من الأجسام الموجودة هناك في الخارج:ء إذ لا يمكن فصل العالم بصورة كاملة عن إدراكنا له. فهو يتبدل تحت أنظارناء و يتفاعل معناء والمعرفة التي يبوح لنا بها يجب أن نفسرها. والواقع أنه ليس ثمة طريق لتبادل المعلومات لا يتطلب إصدار حكم,؛ فهل الإلكترون جسيمة مادية؟ إنه يتصرف كذلك في ذرة بوهر. ولكن دوبروغلي في عام 1924 صنع نموذجا موجيا جميلا للذرة؛ تكون المدارات فيه مواقع لعدد صحيح دقيق من الأمواج تاتقي خوك الثواة وصون ماكس بورن سلسلة متتابعة من الإلكترونات: كما لو كان كل منها يركب عموداً مرفقيا يدور. بحيث تؤلف هذه الإلكترونات في مجموعها سلسلة من المنحنيات الغاوسية؛ أي كموجة احتمالء. وهكذا بدا تكوين فكرة عقلية جديدة فى القطار الذاهب إلى برلين؛ وخلال نزهات الأساتذة فى غابات تسن ره أياً كانت الوحدات الرئيسية التي يتألف منها العاتي .فا هذه الوحدات أرق واكثر زوغانا وأكثر إخافة لنا من أن تمكننا من القبض عليها بشبكة حواسنا (المليئة بالثقوب). وقد وصلت هذه المناقشات المشائية فى الغابات ذروتها الرائعة عام 1927. قفي مطلع ذلك العام أعطى هايرقيرغ صفة مميزة جديدة للالكترون. فقد قال: أجل إن الإلكترون جسيمة مادية

2427

ارتقاء الانسان

صغيرة: ولكونها جسيمة تُقّضي بمعلومات محدودة. أي أنه يمكن للمرء أن يعين بدقة أين يوجد الإلكترون في لحظة ماء ولكنه لا يستطيع؛ عندئن: أن يفرض عليه سرعة معينة واتجاهاً معيناً عند لحظة الابتداء. أو على العكس من ذلك قال هايزنبرغ: إذا أصر المرء على إطلاق الإلكترون بسرعة معينة وباتجاه عدد فانه لا يستطيع تحديد نقطة البداية بدفة؛ ولا بالطبع. نقطة النهاية. وتبدو هذه الصفة المميزة غامضة غير واضحة؛ ولكونها ليست كذلك. فقد أضفى علها هايزنبرغ صفة العمق بجعلها دقيقة محددة. فالمعلومات التي يحملها الإلكترون محدودة بمجموعها. أي أن سرعة الإلكترون؛ على سبيل المثال» وموفعه؛ يتلاءمان بالشكل الذي يسمح به الكم. وتلك فكرة عميقة الأثر. وهي إحدى أعظم الأفكار العلمية ليس في القرن العشرين فحسب. بل في تاريخ العلم كله. وقد دعا هايزنبرغ هذا مبدأ عدم اليقين!'". فمن ناحية نجد أن هذا المفهوم مبدأ قوي صلب إنه مبدأ كل يوم. فنحن نعرف أن ليس باستطاعتنا أن نطلب من العالم أن يكون دقيقا . فإذا كان الجسم (كوجه مألوف مثلا) يبقى على حاله تماما كما كان قبل أن عرفناه. فإننا لن نستطيع أبدا معرفته من يوم لآخرء فنحن نعرف الشيء لأنه بالتقريب هو الشيء نفسه الذي عرفناه من قبل؛ ولكنه لا يمكن أبدا أن يكون نفس الشيء الذي كأنه تماما. بل إنه قريب مما كان عليه لدرجة كبيرة. وفي عملية التعرف نقيم حكما أو قراراً كما لو كانت هناك مساحة من عدم الدقة أو الشك؛ وهكذا فبدأ هايزنبرغ يقول بأنه لا يمكن وصف أية أحداث - ولا حتى الأحداث الذرية - بيقينء أي بدقة كاملة تامة. والأمر الذي يجعل هذا المبدأ عظيم الأثر أن هايزنبرغ يحدد درجة عدم الدقة التي يمكن التوصل إليها. ومتر القياس هنا هو «كم» ماكس بلانك, ففي عالم الذرة تتحدد مساحة عدم اليقين بوساطة الكم. ومع ذلك فإن «مبدأ عدم اليقين» اسم سيئء ففي العلم وخارجه نحن متأذون: ولكن معرفتنا محصورة ضمن بعض عدم الدقة. وعلى هذا كان من الأفضل لو أسميناه «مبداً عدم الدقة»وأنا أقترح هذه التسمية بمعنيين؟ الأول معنى هندسي . فالعلم تقدم خطوة خطوة وأصبح أنجح مشروع في ارتقاء الإنسان؛ لآن هذا العلم تفهم أن تبادل المعلومات بين الإنسان والطبيعة وبين الإنسان والإنسان يمكن أن يتم - فقط - بشيء من عدم الدقة: أما المعنى الثاني فهو

228

معرفه أم يقين؟

أنني استعمل مفهوم عدم الدقة بكثير من العاطفية حول العالم الواقعي,. فكل أنواع المعرفة وكل المعلومات بين الناس لا يمكن تبادلها إلا بشيء من عدم الدقة. وهذا صحيح سواء أكان التبادل في العلم أو في الأدب أو في الدين أو في :السياسة: أو حتى في أ ىشكل من أشكال الفكن الثي تمه إلى الوصول إلى سرفية لبان وإنها لانناة كبرق فى فترة سرات وهر حياتك؛ أنه هنا في غوتنجن. كان العلماء يحاولون بلورة مبدأ عدم الدقة مديرين ظهورهع التتقيقة يآثه آينسا علفقوا كان هنذا المبذا كد مقط وعلم ولم يعد ممكنا إصلاحه. في ذلك الوقت كانت سماء أوروبا ملبدة «بسحب سوداء» تنذر بسوء ولكن غمامة خاصة كانت تخيم فوق غوتنجن منذ مائة عام؛ قفي مطلع القرن التاسع عشر جمع بلومنباخ عددا من الجماجم حصل عليها من أناس بارزين كان يراسلهم في جميع أنحاء أوروباء ولم تكن هناك أية فكرة في أن الجماجم التي جمعها بلومنباخ ستستعمل لتأييد قسمة الإنسانية عرقياء رغم أن بلومنباخ استعمل بعض القياسات التشريحية لتصنيف عائلات الإنسان. ومهما يكن من أمرء فمنن وضاة بلومنباخ عام 0 أضيف إلى مجموعة الجماجم وأضيف إلى أن أصبحت لب النظرية العرقية التي تقول بسيادة العرق الجرماني والتي اعتمدها الحزب النازي غلدها اسكولى غلى السيللة: وعندها وصل سكل إقى اليذائظة هام :1933 تحطمت التقاليد العلمية في ألمانيا بين عشية وضحاها. وأصبح القطار بين غوتنجن وبرلين شعارا للهربء ولم تعد أوروبا مرتعا مضيافا للفكر والخيال لا الخيال العلمي فقطء وبدأ المفهوم الثقافي الحضاري بأكمله بالتقهقرء المفهوم بأن المعرفة الإنسانية أمر شخصي يتصف بالمسئولية, ومغامرة لا نهاية لها على حافة عدم اليقين. وعم الصمت؛ كما حصل بعد محاكمة غاليليو. وخرج الرجال العظام إلى عالم مهدد : ماكس بورنء ارفن شرود نغرء. البرت آينشتاين سيجموند فرويد» توماس مانء برتولد برشت» اوتورو توسكانينيء برونو فالتر. مارك شاغالء انريكو فرميء وليو زيلارد. الذى وضان :ند يتين طويلة إلى فدهد برتاتكت: فى كاليفورنيا , إن ميد عدم اليقين أو مبدأ عدم الدقة؛ كما أسميته: ثيّت مرة واحدة والى الأبد القناعة بأن كل المعرفة محدودة. ومن سحرية القدر والتاريخ أنه في الوقت الذي تبلور فيه هذا المبدأ ارتفع في ظل هتلر والطغاة الآخرين مفهوم معاكسة,

210

ارتقاء الانسان

هو مبدأً اليقين المرعب. وعندما سينظر المستقبل إلى الثلاثينات من هذا القرن فانه سيرى فيها مجابهة حضارية حاسمة بين الحضارة كما كنت أشرحها وارتقاء الإنسان: ضد الردة الحضارية بإيمان أولكك الطغاة بأن لديهم اليقين المطلق. وأرى لزاما على أن أضع هذه الأفكار المجردة في عبارات محسوسة. وسأفعل ذلك متمثلا بشخصية واحدة هي شخصية ليوز يلارد . فقد كان زيلارد مهتما اهتماما شديدا بتلك الآفكار وقد أمضيت معه جلسات عديدة بعد ظهر كثير من أيام السنة الأخيرة من حياته؛ نتحدث حول معهد سالك. كان ليو زيلارد هنغارياء قضى حياته الجامعية في الااموه هام 39و كار يدا هاما وطليعيا يمول نا هيه الآ ونظرية المعلومات». وهي تلك التي تبحث في العلاقة بين المعرفة والطبيعة والإنسان. بيد أن زيلارد كان متأكدا ذلك الوقت أن هتلر سوف يستلم السلطة:؛ وأن الحرب واقعة لا محالة. ولذلك فقد كان يحتفظ في غرفته بحقيبتين وضع فيهما ما يحتاج إليه وبحلول عام 1933 قفلهما وسافر بهما إلى إنجلترا .

وحدث في أيلول (سبتمبر) من عام 1933 أن أبدى اللورد رذر فوردء أثناء اجتماع المجمع البريطاني ملاحظة مفادها أن الطاقة الذرية لن تكون حقيقة واقعة أبداء وكان ليوز يلارد من ذلك النوع من العلماء ظريفي المعشر متقلبي الأطوارء الذين يكرهون أية عبارة تتضمن كلمة «أبدا» وبخاصة إذا أتت من زميل بارز مشهورء. وهكذا صمم زيلارد على التفكير في هذه المسألة: وكان يسرد القصة كما يمكن أن يتصور حدوتها كل الذين يعرفونه. وكان يسكن في فندق ستراند بالاس في لندن: إذ كان يحب العيش في الفنادق.

وفي مرة كان ذاهبا إلى عمله في مستشفى بارت فتوقفت سيارته أمام إحدى الإشارات الضوئية وقد تحولت إلى حمراء (وهذا الجزء من القصة هو الوحيد الذي أجده غير محتملء ذلك أنني أعرف عن زيلارد أنه لا يتوقف عند أي ضوء أحمر). وعلى أية حال وقبل أن ينقلب الضوء إلى أخضرلمع في عقله خاطر بأنه إذا أطلق على الذرة نيوترونا واحدا وأدى ذلك إلى انشطارها وانطلاق نيوترونين فسيكون لدينا رد فعل متسلسل. وكتب زيلارد تفاصيل براءة اختراع تتعلق بذلك وتتضمن عبارة «رد فعل متسلسل»؛ وسجلها عام 1934.

ونأتي الآن إلى جزء من شخصية زيلارد. كانت مميزة لعلماء تلك الحقبة:

معرفه أم يقين؟

وان كان هو خير وأوضح معبر عنها . فقد أراد زيلارد أن يُبقي براءة الاختراع هذه سر وآراد يذلك آن يحول دون سوء اسشعمال العلة ولا فشن بخص فعلا براءة الاختراع للبحرية البريطانية ليضمن أنها لن تنشر إلا بعد انتهاء الحرب. ولكن في تلك الأثناء كانت الحرب تتزايد اقترابا وتهديدا . وكانت مسيرة التقدم في الفيزياء النووية تسير خطوة خطوة مع تقدم هتلر وانتصاراته؛. بشكل نكاد ننساه الآن. وفي مطلع عام 1939 كتب زيلارد إلى جوليو كوري يسأله عما إذا كان بوسع المرء منع نشر شيء ما حول موضوع معينء. وحاول إقناع أنريكو فرمي بعدم نشر أبحاثه. وأخيرا كتب رسالة في آب (أغسطس) عام 1939: وقعها آينشتاين: وأرسلها إلى الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت. يقول فيها ما معناه؛ «إن الطاقة النووية أصبحت على الأبواب؛ والحرب قائمة لا مفر منها. والآأمر متروك للرئيس لتقرير ماذا يجب على العلماء أن يفعلوا حيال ذلك». لكن زيلارد لم يتوقف عند هذا الحد. قبعد أن ربح الحلفاء الحرب في أوروبا عام 1945: وأيقن زيلارد أن القنبلة النووية أصبحت في مراحل صنعها الأخيرة لاستعمالها ضد اليابانيين, أخن يثير الاحتجاجات و يكثرها في كل مكان استطاع. وكتب المذكرة تلو المذكرة. وكانت إحدى هذه المذكرات للرئيس روزفلت: إلا أنها لم تصله لأنه مات في نفس الفترة التي كان زيلارد يحاول إيصالها إليه فيها. وكان زيلارد يريد - دوما - أن تجرب القنبلة علنا على مرأى من اليابانيين والرأي العام العالمي. بحيث يعرف اليابانيون مبلغ القوة المدمرة الهائلة لهذه القنبلة, فيستسلمون قبل أن يموت أحد.

وكما هو معروف فشل زيلارد. وفشل معه المجتمع العلمي. ولكنه فعل كل ما بوسع إنسان يحترم ذاته أن يفعله. ولذا هجر الفيزياء وتحول إلى علم الآحياء. ولهذا السبب جاء إلى معهد سالك وأقنع علماء آخرين بأن يحذوا حذوه. ولقد كانت الفيزياء الموضوع المحبب في الخمسين سنة السابقة كما كانت خير ما أنتجته القرائح خلالهاء ولكننا تحققنا عند ذلك أن الوقت كان قد حان لأن تُدخل إلى فهم الحياة. وبخاصة الحياة البشرية» نفس الجهد الفكري المركز الذي كان موجها نحو فهم العالم الطبيعي.

وألقيت أول قنبلة ذرية على هيروشيماء في اليابان» الساعة الثامنة والربع من صباح يوم 6 آب (أغسطس) من عام 1945. ولم يكن قد مضى

ارتقاء الانسان

وقت طويل على رجوعي من هيروشيما عندما سمعت بعضهم يقول - في حضور زيلارد - : إن مأساة العلماء تكمن في استعمال مكتشفاتهم للتدمير والخراب. وأجاب زيلاردء باعتباره صاحب الحق في الإجابة أكثر من أي إنسان آخر: إن ذلك ليس مأساة العلماء بل «مأساة البشرية جمعاء..

وهناك جزءان للمعضلة الإنسانية المحيرة. يتمثل الأول في الاعتقاد بأن الغاية تبرر الواسطة. فقد أصبحت فلسفة «ضغط الزر» وذلك الصمم عن سماع ألام البشر ومعاناتهم الوحش المرعب في آلة الحرب الحديثة. أما الجزء الآخر فهو خيانة الروح الإنسانية» أي توكيد عقيدة أو نظام يغلق الباب أمام الفكر الإنساني؛ ويحول الأمة والحضارة إلى مجموعة من الأشباح - أشباح مطيعة؛ أو معذبة على السواء.

إن العلم شكل إنساني جدا من أشكال المعرفة؛ فنحن دائما على حافة المعلوم. ونتحسس دوما قدما ما نأمل به؛ وكل حكم في العلم يقف على حافة الخطأ. وهو حكم شخصي. وما العلم إلا تقدير وثناء لما نستطيع أن نعرفه. علما بأننا لسنا معصومين عن الخطأ. وفي نهاية المطاف يمكن أن نتذكر عبارة قالها أوليفر كرومويل: «أتوسل إليكم واستحلفكم أن تفكروا أنكم يمكن أن تكونوا مخطثين».

أخيرا كتب زيلارد رسالة إلى الرئيس الأمريكي روزفلت, وقعها آينشتاين وأرسلها بتاريخ 2 آب (أغسطس) عام 1939.

البرت آينشتاين طريق أولد غرور - ناسو بوينت بيكونيك - لونغ أيلاند الثاني من آب - 1939

ف. د. روزفلت

رئيس الولايات المتحدة

البيت الأبيض - واشنطن. سيدي: ثمة أبحاث جديدة قام بها انريكو فرمي وليو زيلاردء نقلت إلي بخط اليد. تقودني إلى التوقع بان عنصر اليورانيوم يمكن أن يكون مصدرا جديدا وهاما للطاقة في المستقبل العاجل وقد برزت بعض مناحي هذا الوضع التي تتطلب الانتباه - وإذا اقتضى الأمر - العمل السريع من جانب الإدارة. ولذلك اعتقد أن من واجبي أن الفت انتباهكم إلى الحقائق والتوصيات التالية:

معرفه أم يقين؟

لقد أصبح خلال الشهور الأربعة المنصرمة من المحتمل - نتيجة لأبحاث جوليوكوري في فرنساء وفرمي وزيلارد في أمريكا - تحقيق تفاعل نووي متسلسل في كتلة كبيرة من اليورانيوم: الأمر الذي يؤدي إلى إطلاق كمية هائلة من الطاقة؛ وكذلك توليد كمية ضخمة من عناصر مشعة تشبه الراديوم. و يظهر مؤكدا الآن أن هذا الأمر يمكن تحقيقه في المستقبل العاجل.

ويمكن لهذه الظاهرة أيضا أن تؤدي إلى صناعة قنابل من المحتمل - ولكن ليس بالتأكيد - أن تكون ذات قوة هائلة. فقنبلة واحدة من هذا النوع. محمولة على زورق؛ يمكن إذا انفجرت في ميناء ما إن تدمر الميناء بأكمله بالإضافة إلى بعض المناطق المحيطة به. وعلى أية حال فقد تكون هذه القنبلة ثقيلة لدرجة لا يمكن معها حملها جوا.

إن لدى الولايات المتحدة كميات معتدلة من خام اليورانيوم الضعيف الجودة. وهنالك خامات جيدة في كندا وما كان يسمى تشيكوسلوفاكياء بينما توجد أغنى الخامات بهذا العنصر الهام في الكونغو البلجيكية.

وفي ضوء هذه الحال يحتمل أن تفكروا انه من المستحب إقامة اتصال دائم بين الإدارة الأمريكية من جهة؛ ومجموعة الفيزيائيين الذين يعملون في أبحاث التفاعل المتسلسل في أمريكا من جهة أخرى. وإحدى الطرق الممكنة لتحقيق ذلك يمكن أن يتم بان تعهدوا بهذه المهمة إلى شخص يتمتع بثقتكم ويمكن له أن يقوم بذلك بصورة غير رسمية. ويتضمن عمل هذا الشخص المهمات التالية: أ- لاتصال مع الدوائر الحكومية ذات العلاقة وابلغها بالتطورات اللاحقة في هذا الموضوع, والقيام بتقديم التوصيات لما يجب أن تقوم به الحكومة؛ مع إعطاء الاهتمام الخاص لتامين كميات خام اليورانيوم الضرورية للولايات المتحدة.

ب- الإسراع في العمل التجريبي؛ الذي ينفذ حاليا ضمن حدود موازنة مختبرات الجامعة وذلك عن طريق توفير التمويل؛ إذا تطلب الأمر ذلك. عبر اتصال هذا المشرف بالأشخاص المستعدين للمساهمة فى تحقيق هذا الهدف. وكذلك عن طريق تامين تعاون المختبرات الصناعية التى تملك الأجهزة اللازمة.

وكما فهمت فان ألمانيا قد أوقفت مبيع اليورانيوم من المناجم التشيكوسلوفاكية التي استولت عليهاء واتخاذها لهذا الإجراء المبكر لربما يمكن فهمه على أساس أن ابن وكيل وزارة الخارجية الألمانية. فون فايتزاكر مرتبط بمعهد فيلهم كاليزر في برلين؛ حيث تتم إعادة بعض التجارب التي أجريت في أمريكا حول اليورانيوم.

المخلص لكم البرت آينشتاين

ارتقاء الانسان

الهو امش

)١(‏ عامتعصتط وستمتععمت]

2514

جيل بعد جيل

واللغات وكانت مركزا شهيرا للموسيقى والأدب الشبهات فى :كيين المحافظة وبخاصة غلم الهياة: ولكن بشكل غير متوقع كانت النمسا أيضا مهدا لفكرة ثورية علمية (في مجال علم الحياة).

تفي جامعة فيينا القديمة تلقى مؤبسن عله الزراة وبالثاتق كل علوم الحياة السديفة ظليلا من من الصراع بين الطفيان. وحرية الفك روفي غام 8 وقبل مجيئه للجامعة بقليل نشر شابان في دن البعيدة بياقا باتلقة الآكاتية يبدا بالغيارة التالية: «الشبح يحوم حول أوربا» ذلك هو شبح الشيوعية.

وبالطبع لم يبدأ كارل ماركس وفريدريش انجلز الأوراك في آوريا بالبيان الشيوضي» ولكنهها اتعظيا الشوراف [السنيكة حيوك العضيان والقورة) ةا اجتاحت أوريا موجة من النقمة والسخط صد آل بوربون وآل هابسبرغ: والحكومات في كل مكان؛

ارتقاء الانسان

وعمت باريس الفوضى والاضطرابات في فبراير (شباط) 1848 وتبعتها فيينا وبرلين» وهكذا في ميدان الجامعة في فيينا وفي شهر آذار (مارس) احتج الطلاب وقاوموا رجال الشرطة؛ واهتزت الإمبراطورية النمساوية مثل غيرها. واستقال مترنيخ؛ وهرب إلى لندن وتنازل الإمبراطور عن عرشه.

إن الآباطرة يذهبون ولكن الإمبراطوريات تبقىء؛ وكان الإمبراطور الجديد للنمسا شابا يافعا في الثامنة عشرة من عمره يدعى فرانز جوزيف. حكم كديكتاتور من العصور الوسطى إلى أن تحطمت الإمبراطورية المنهارة أثتاء الحرب العالمية الأولىء. ولا أزال اذكر فرانز جوزيف عندما كنت طفلاء فككل آل هابسبرغ كانت له شفة سفلى طويلة وفم كبير ممتلنّ. وقد خلد تلك الصفة الفنان فيلاسكيز فى رسمه للملوك الأسبان وكانت تلك صفة وراثية سائدة لكل أل هابسبرغ.

وعندما اعتلى فرائز جوزيف العرش سكتت الخطب الوطنية: وكان الخضوع تاما للامبراطور الشاب وفي تلك الفترة انطلق ارتقاء الإنسان بهدوء في اتجاه جديد بوصول كريغور مندل إلى جامعة فيينا. وكان اسمه الأصلي يوهان مندلء وهو ابن مزارع وقد أطلق عليه اسم غر يغور. عندما وبقى مندل طول حياته يؤدي عمله كما يؤديه صبي مزرعة؛ وليس كما يؤديه أستاذ أو عالم طبيعي من علية القوم من معاصريه في إنجلتراء فقد كان عالما طبيعيا عمليا (كما لو كان يعمل في المطبخ والحديقة).

وقد انضم مندل للرهبنة كي يحصل على فرصة للتعلم: فقام رئيس ديره بإلحاقه بجامعة فيينا كي يحصل على شهادة رسمية ويصبح معلماء ولكنه كان عصبيا وطاليا غير لامع. وقد كتب عنه أستاذه الفاحص يقول: «انه ينقصه نفاذ البصيرة ويلزمه وضوح المعرفة». وأعطاه درجة الرسوب. ولم يكن أمام صبي المزرعة المتحول إلى الراهب من خيار إلا أن يترك الجامعة ويعود إلى عالم النسيان في دير الرهبان ببلدة برنوء في مورافيا التي هي الآن جزء من تشيكوسلوفاكيا.

وعندما عاد مندل خاتبا فاشلا من فيينا عام 1853 كان في الواحدة والثلاثين من عمره. وكان قد أرسل إلى فيينا من قبل الجماعة لأوغسطينية التابعة للقديس توماس في برنو. وهي جماعة تعمل بالتعليم: ذلك إن سياسة

250

الحكومة النمساوية كانت أن يعلم الرهبان أولاد الفلاحين النابهين» وكانت مكتبة ذلك الدير مكتبة تعليمية اكثر منها مكتبة ديرء لكن مندل فشل في أن يصبح مؤهلا للتعليم وبات عليه أن يقرر كيف يعيش بقية حياته معلما فاشلا أم ماذا؟ وقرر مندل أن يكون الصبي «هانسل» كما كانوا يسمونه في المزرعة وليس الراهب غريغور. وعاد بفكره إلى ما تعلمه وسحره في المزرعة: إلى النباتات.

وعندما كان مندل في فيينا تأثر بعالم الحياة الوحيد الذي كان قد قابله: فرائز أنغر وكان لأنغر وجهة نظر عملية محسوسة حيال أمور الوراثة تقوم على الاعتماد على الحقائق البحتة. إذ لم يكن يعتقد لا بقوى خفية ولا بعناصر روحية؛ وقرر مندل أن يكرس حياته للتجارب العلمية في علم الأحياء في ذلك الدير. وهي خطوة جريئة صامتة وسرية لان المطران في تلك المنطقة كان يرضى حتى السماح للرهبان بتعليم علم الحياة.

وبدأ مندل تجاربه بعد سنتين أو ثلاث سنوات من عودته من فييناء أي حوالي عام 1856 . ويقول في بحثه الذي كتبه بعد ذلك: إنه عمل مدة ثماني سنوات؛ والنبات الذي اختاره بكل عناية هو البازلاء واختار سبع خصائص في هذا النبات لمقارنة وراثتها: شكل البذرة... لونها الخ: وأخيرا طول الساق2"0. هذه الميزة الأخيرة هي التي اخترت إيضاحها الآن: طول الساق مقابل قصرها.

ونعمل التجربة بنفس الطريقة التي عملها بها مندل. إذ نبدأ بإنتاج هجين من الطويل والقصيرء ونختار النباتين الأبوين كما حدد ذلك مندل:

«في تجارب من هذا النوع؛ ولكي نكون قادرين على التمييز بيقين, أجرينا تهجينا لنبات البازلاء الذي يبلغ طول ساقه 6 - 7 أقدام مع نبات بازلاء آخر قصير يتراوح طول ساقه بين 0,75 وا. 5 قدم» ولكي نتأكد أن النبات قصير الساق لا يخصب نفسه فقد قطعنا أعضاء التذكير منه ثم لقحناه صناعيا من النبات الطويل الساق.

وتأخن عملية الإخصاب مجراها. فتنمو أنابيب حبيبات الطلع إلى البويضات وتنزل نوى حبيبات الطلع (الممائلة للحيوانات المنوية في الحيوانات) في أنابيبها إلى أن تصل البويضات كما تفعل في أية حبة بازلاء أخرى مخصبة وتبدأ قرون البازلاء بالتكون والنمو ولكنها بالطبع لا تبدي شكلها

257

ارتقاء الانسان

أو صفتها إلا فيما بعد.

بعد ذلك تزرع بذور البازلاء التي نحصل عيها من هذه القرون. ولا يلاحظ في بداية الأمر أي فرق بين تطور نموها وتطور نمو بذور أي نبات بازلاء مخصب طبيعياء ولكن رغم أن هذا هو الجيل الآول فقط من هذا الهجينء إلا أن مظهره الخارجي عندما يكتمل نموه سيكون اختبارا لوجهة النظر التقليدية حول الوراثة التي كان يعتنقها علماء النبات آنذاك؛: وظلوا عليها بعد مندل لفترة طويلة. وكانت وجهة النظر التقليدية هذه تقول بأن صفات النباتات الهجينة تقع وسطاً بين صفات الوالدين: وكانت وجهة نظر مندل مختلفة عن ذلك تماماء وقد زاد على ذلك انه تكهن بنظرية لتعليل ذلك.

فقد خمّن مندل أن أية صفة بسيطة يتحكم بها جسيمان (ندعوهما الآن عوامل الوراثة أو الجنات) ويساهم كل والد بأحد هذين الجسيمين؛ فإذا كان الجسيمان مختلفين فسيكون أحدهما مسيطرا والآخر كامنا أو مستترا . فأين نبات البازلاء الطويل الساق مع نبات قصير الساق هو الخطوة الأولى لمعرفة صحة ذلك. وانظر النتيجة! فالجيل الأول الناتج عن الذين؛ عندما يكتمل نموه؛ يتألف كله من نباتات طويلة الساق وبلغة علم الوراثة الحديث؛ فان صفة الطول سائدة ومسيطرة على صفة القصر إذن ليس صحيحاً أن الهجائن تكون وسطا بين طول الوالدين لأنها كلها تكون نباتات طويلة.

والآن إلى المرحلة الثانية وهي تكوين الجيل الثاني كما فعل مندل. فنخصب أفراد الجيل الأول المهجن فيما بينها إخصابا ذاتياء ونترك القرون تنمو ثم نزرع بذورهاء فيتكون لدينا الجيل الثاني وعندما ينمو هذا الجيل نجد انه ليس متجانساء فالأكثرية نباتات طويلة؛ ولكن عدداً منها لا بأس به قصير الساق. ويمكن حساب نسبة عدد النباتات القصيرة إلى المجموع من تخمين مندل حول الوراثة» فإذا كان مندل على صواب فان كل هجين من الجيل الأول يحمل عاملي وراثة للطول والقمر: أحدهما سائد والآخر كامن, ولذلك ضفي أي تزاوج من بين أربع مزاوجات بين أفراد الجيل الأول مجتمع مورثان كامنان معاء وتكون النتيجة أن نبتة واحدة يجب أن تكون قصيرة بين كل أربع نبتات. وهذا هو واقع الأمر إذ انه في الجيل الثاني توجد نبتة

قصيرة واحدة من كل أربع نباتات: وتكون الثلاث الباقية طويلة. وتلك هي النسبة الشهيرة «واحد من أربعة أو واحد إلى ثلاثة» التي ترتبط باسم مندل. وبحق كذلك. كما جاء في تقرير مندل:

دمن معن !نط كاكن الاق ملويلة كن 167 وقصيرة فى 397بذيا: أق وكبية 849 زات لدروالام أو عونا اكالم جدنيع التخاري اجون ميا النباتات ذات الصفات السائدة إلى النباتات ذات الصفات الكامنة تبلغ متوسطا قدره (2, 98) إلى )١(‏ أو 3 إلى .١‏ و يبدو واضحا الآن أن النباتات الهجينة تنتج بذورا لها صفة أو أخرى من صفتين مميزتين. وينتج من نصف هذه البذور نباتات هجينة مرة أخرىء بينما ينتج من النصف الآخر نباتات نقنية تبقى ثابتة إذ تأتيها الصفات السائدة أو الكامنة بأعداد متساوية».

ونشر مندل نتائجه عام 1866 في مجلة جمعية التاريخ الطبيعي في برنو. ولكن النتيجة كانت رأساً النسيان. فلم يأبه أحد (بما نشر) كما لم يفهم عمله أحد. وحتى عندما كتب إلى كارل نيغلي». وهو شخصية علمية مرموقة في هذا الميدان (رغم كونه متعجرفا). كان من الواضح أن نيغلي لم تكن لديه أية فكرة عما يتحدث عنه مندل. وبالطبع لو أن مندل كان عالما محترفاً لكافح من أجل التعريف بنتائج عمله ولكان نشرب حثه بصورة أوسع في بريطانيا أو فرنساء وفي مجلة يقرؤها علماء النبات وعلماء علم الحياة. وصحيح انه حاول إيصال نتائجه إلى بعض العلماء خارج بلاده بإرسال نسخ من بحثه هذاء ولكن ذلك كان عملية غير مضمونة النتائج نظراً لان البحث مجهول ومنشور في مجلة غير معروفة: على انه في عام ١8‏ أي بعد سنتين من نشر بحثه حصل لمندل شيء غير متوقع البتة. فقد انتخب رئيسا لدير الرهبان الذي يتبع له وقام مندل طوال بقية عمره بواجباته بحماس يشكر عليه واهتمام شديد بالتفاصيل: -

وقد أبلغ مندل العالم نيغلي أنه يأمل في الاستمرار في تجارب التهجين. لكن الشيء الوحيد الذي كان بوسع مندل أن يجري تجاربه عليه في ذلك الوقت كان النحل. وفي الواقع كان مندل تواقاً على الدوام إلى توسيع بحثه بحيث يشمل الحيوانات»؛ وبالطبع لآنه مندل فقد كان يتمتع بمزيج من ثروة فكرية رائعة. وحظ عملي عاثر! وهكذا قام مندل بتهجين سلالة من النحل

2560

ارتقاء الانسان

أنتجت عسلا ممتازاء لكنهاء ويا للأسفء كانت شرسة لدرجة أنها كانت تلدغ الناس على بعد أميال من الخلية! ولذاء كان لابد من إبادتها.

ويبدو أن مندل كان اكثر تمرسا فيما يطلب من الدير أن يدفعه من الضرائب من تمرسه في قيادته دينياء وفي هذا إشارة خفية إلى أن شرطة الإمبراطور السرية كانت تنظر إليه كأنه شخص لا يوثق به ولا يعتمد عليه. وان تحت جبين رئيس هذا الدير يكمن الكثير من الفكر الخاص.

إن شخصية مندل أحجية فكرية: إذ لا يمكن لإنسان أن يفكر في هذه التجارب إلا إذا كان الجواب الذي سيحصل عليه واضحا في عقله. وإنها تحالة شريرة يني القناع الرون عليها :

فأولا ثمة نقطة عملية. إذ أن مندل قد اختار في ذلك الوقت سبع صفات مختافة مميزة للبازلاء: مثل. الظول مقابل القضر إلى آخر الصفات السبع. وفي الواقع فان للبازلاء سبعة أزواج من الصبغيات أو الكروموسومات, ولذلك يمكن اختيار سبع صفات مختلفة في عوامل وراثية كل زوج منها على واحد من الكروموسومات. ولكن هذا الرقم أكبر عدد يمكن للمرء أن يختاره. إذ لا يمكن أن نفحص ثماني صفات دون أن يكون اثنان من العوامل الورائية على نفس الكروموسوم أو الصبغيء وبالتالي يكونان مرتبطين ولو بصورة جزئية. وفي ذلك الوقت؛ عندما كان مندل يقوم ببحثه؛ لم يكن أحد بعد قد سمع بالعوامل الوراثية وارتباطها. ولا بالصبغيات.

وبكل تآكيد يمكن أن يكون مندل قد أصبح رئيسا للدير بضربة قدر, ويمكن أن يكون الله قد اختار له كذلك؛ ولكن لا يمكن أن يكون له ذلك القدر من الحظء (في تخمينه لذلك العدد). ولابد أن مندل كان قد أجرى عددا وافرا من التجارب وقام بالكثير من المشاهدات قبل أن يقوم ببحثه رسمياء وذلك كي يستطلع الأمر ويقنع نفسه أن سبع خصائص فقط - لا أكثر - يمكنه متابعتها بنجاح. وهناك نلمح ذلك العقل الجبار الرائع المختبئ وراء وجه مندل الخفي المليء بالأسرارء وفوق ذلك البحر الفكري العميق يطفو بحث مندل ومنجزاته الرائعة. ونرى ذلك بكل وضوح.: نراه وراء ذلك البحث وذلك الإنجازء ونرى ذلك في كل صفحة من مخطوطته وفي كل رمز جبري وفي الإحصائيات ووضوح العرض وكل شيء في علم الوراثة الحديث كما يعمل اليوم؛ ولكنه كان قد عمله قبل مائة عام شخص

200

مجهول.

وقان شفل نؤلكف الإقننان اللجهول اند عمل كل :ذلك إثهام يان :انضفقات تنفصل - من جيل إلى جيل - بأسلوب يتمثل في أن يكون ذلك انفصالا كاملة أن لا بكرن .هناك اتمضبال. .وقد ادرف متدل ذللقا فى وكمتكان هيه ختماء الحياة منسروقها يداهية أن كف لذن تجخاكه ولا يوق قات الوالذيوو رولا نكاد كغتطيم الاتفراكن بان الصيفة القامفة زان :| اتسرة لا اكور ارداء وعرسما الفنميودياتنه كل هزنا لانفظا هبها العاساون اش

لوحة رقم (32) صورة بالميكروسكوب الإلكتروني لغبارة طلع نبتة البازلاء.

20١

ارتقاء الانسان

ميدان تربية الكائنات الحية ظهر ذلك في هجين أهمل وأسقط. لأنهم كانوا مقتنعين تماما أن الوراثة تعمل بالمتوسطات.

ويحق للمرء أن يتساءل من أين حصل مندل على ذلك النموذج الفكري بأن تكون الوراثة إما شاملة أو لا تكون ؟ بالطبع لا أستطيع أن أنظر داخل رأس مندل» ولكنني أعتقد أنني أعرف الجواب! ذلك أنه يوجد نموذج منذ بداية الحياة. ولكنه من الوضوح والجلاء بحث إن أحداً من العلماء لم يفكر به. ولا يمكن أن يفكر به سوى طفل أو رجل دين قسيس. ذلك النموذج هو الجنس. فمنذ ملايين السنين والحيوانات تتصل ببعضها جنسياً. ولم يحصل أن أدى اتصال ذكر وأنثى من أي نوع حيوانيء إلى إنتاج صفة وسطى بين الذكر والآنثى - الخنثى أو جنس غريب غير طبيعي. فهي تتكاثر منتجة إما ذكراً أو أنثى! وكذلك الأمر بالنسبة للإنسان الذي بدأ تكاثره منذ مليون سنة على الأقل فإذا نتج ولا يزال ينتج عن ذلك؟ إما رجال أو نساء. مثل هذا النموذج الواضح من الوراثة الشاملة أو عدمها متمثلة في انفصال الصفات انفصالا تاماً أو اختفائها يجب أن يكون قد خطر بذهن مندل؛: بحيث إن تجاربه والنتائج اللاحقة انبعث عن هذا التفكير منذ البداية

وبلورته. وأظن أن الرهبان الآخرين غركوا مااكان يعملة مثدل: وآاثهم لم يحيوا ذلك. كما أعتقد أن المطران - الذي وافق بعد تردد على تجارب مندل - لم

يعجبه ذلك أيضاً؛ ولم يرق لهم جميعاً اهتمام مندل بعلم الحياة الجديد «مثل أبحاث داروين التي قرأها مندل وأعجب بها. وعلى العكس من ذلك كان زملزؤ التشضيكيون: من الغوريين غير المهرة المحتركين الذين كان يؤويهم أحيانا في الدير مغرمين به حتى النهاية. وعندما مات مندل عام 1884: في الثانية والستين من عمره عزف المؤلف الموسيقي التشيكي العظيم ليوش يناتشك على الأورغن في جنازته. ولكن الرهبان انتخبوا رئيساً جديداً للدير. وكان من أوائل أعماله إحراق كل أوراق مندل الموجودة في ذلك الدير.

وهكذا ظلت تجربة مندل الرائعة في طي النسيان لأكثر من ثلاثين عاماً إلى أن أعاد بعثها عام ١900‏ عدة علماء بصورة مستقلة بعضهم عن بعض وعلى ذلك فإن اكتشافات مندل تنتمي عمليا إلى هذا القرن حين ازدهرت

202

دراسة علم الوراثة من مكتشفات مندل تلك. ودعنا نستهل الموضوع من بدايته فقد استمرت الحياة على الأرض منذ ثلاثة آلاف مليون عام أو يزيد . ولفترة تبلغ ثلثي تلك المدة تكاثرت الكائنات الحية عن طريق انقسام الخلية الثناكي. وكقاعدة أساسية يؤدي هذا الانقسام إلى إنتاج صغار تشبه تماماً الخلايا الأبوية التي تنقسم فتنتجهاء ولا تظهر أشكال جديدة إلا في حالات نادرة فقط. عن طريق الطفرة. لذلك كان التطور خلال كل تلك الفترة غاية في البطء. ويبدو الآن أن أول كائنات حية تكاثرت عن طريق الجنس نباتات قريبة من الطحالب الخضراء. وحدث ذلك قبل أقل من ألف مليون عام. وهناك بدأ التكاثر الجنسي أولا في النباتات ثم في الحيوانات. وبسبب نجاح أسلوب التكاثر الجنسي منذ ذلك الوقت صار هذا الأسلوب معياراً حيوياً بحيث إننا. أصبحنا - مثلا - تُعرف نوعين معينين بأنهما مختلفان إذا كان أفرادهما لا يستطيعون التكاثر بعضهم من بعض.

فالجنس ينتج التنوع والتغاير, والتنوع هو الذي يدفع التطور نحو الأمام. وتسارع التطور هو السبب في وجود ذلك التنوع المذهل الذي نلاحظه الآن في شكل الأنواع ولونها وسلوكها.. وعلينا أن نعتبره مسئولا أيضاً عن الاختلافات بين أغراد كل نوع. كلى ذلك أصبح ممكناً بنفضل ظهور الجنسين. وفي الواقع فإن انتشار الجنس في العالم الحيوي دليل - بحد ذاته - على أن الأنواع تتلاءم مع محيطها عن طريق الانتخاب والاختيار. ذلك أن الجنس لا يكون ضرورياً لو أن أغراد نوع ما أمكنهم أن يرثوا التغيرات المكتسبة التي يستطيعون بواسطتها التلاؤم مع البيئة بأنفسهم: وقد اقترح لامارك في نهاية القرن الثامن عشر ذلك الأسلوب الساذج من الوراثة الذي يعتمد على جنس واحد . ولكن لو كان ذلك موجوداً لكان من الممكن نقل الصفات ذاتها جاسلوب اكع مح طريق السام الخلية تايا اكير

إن العدد «اثنين» رقم سحري. وهذا هو السبب في أن الاختيار الجنسي والغزل التزاوجي عمليتان متطورتان إلى حد عال في الأنواع المختلفة وتأخذان أشكالاً رائعة. روعة الطاووس (وهذا هو السبب في أن السلوك الجنسي يتكيف بدقة مع بيئة الحيوان. فلو استطاع سمك الغرونيون" أن يكيف نفسه بدون عملية الانتخاب الطبيعي لما تكبد مشقة الرقص على شواطيى كاليفورنيا كي يتوافق دور حضانة بيضه مع دورة القمر. وعندها لا

10

ارتقاء الانسان

يكون الجنس ضرورياً لهذا السمك ولا لغيره من الأنواع غريبة التكيف. والجنس بحد ذاته أسلوب من أساليب اختيار الأنسب فذكور الأيائل لا تتعارك لتقتل بل لمجرد تأكيد حقها في اختيار الآنثى.

وينتج التنوع في الشكل واللون والسلوكء في الأفراد والأنواع» عن ازدواج المراكز الوراثية. كما خمن مندل. ومن ناحية آلية العملية (أو ميكانيكيتها) تصطف المراكز الوراثية على طول الكروموسومات أو الصبغيات, التي لا ترى بالمجهر إلا عند انقسام الخلية فقط. ولكن المسالة المهمة ليست: كيف تترتب المراكز الوراثية؟ بل كيف تعمل؟ وهذه المراكز الوراثية مكونة من أحماض نووية؛ وهنا يحدث الفعل.

وقد اكتشفت كيفية انتقال «رسالة الوراثة» من جيل إلى آخر عام 1953» وهي أروع قصة من قصص المغامرات العلمية في القرن العشرين. وأفترض أن اللحظة الدرامية في هذه القصة كانت في خريف عام :195١‏ عندما وصل إلى جامعة كامبردج شاب يافع في العشرينات من عمره هو جيمس واطسون. وبدأ بحثه العلمي مع فرانسيس كريكء الذي كان في الخامسة والثلاثين. وكان هدف بحثهما كشف سر تركيب الحمض الريبي النووي منقوص الآكسجين. الذي يدعى اختصارا مركب 22184. وهذه المادة حمض نووي؛ أي حمض موجود في الجزء المركزي أو أنوية الخلايا. وكان قد أصبح واضحاً في السنوات العشر الماضية أن هذه الأحماض النووية هي التي تحمل رسالة الوراثة من جيل إلى جيل. وحول هذه الأحماض واجه الباحثين في كامبردج - وفي مختبرات أخرى بعيدة بعد كاليفورنيا - سؤالان: ما هي كيمياء هذا المركب؟ وما هي هندسته التركيبية؟

إن السؤال الأول عن كيمياء المركب يعني البحث عن الأجزاء التي تؤلف هذا الحمض. والتي يمكن بتغيير مواضعها تكوين أشكال مختلفة من هذه المادة. لقد كان هذا الأمر معروفاً تماماً. كان من الواضح أن مركب 2204 يتألف من سكاكر ومركبات. فوسفاتية (يتحتم وجودها لآسباب تركيبية) وأربع جزيئات محددة صغيرة أو قواعد. اثنان من هذه القواعد صغيران جداً. وهما الثايمين والسيتوزين: و يتألفان من ذرات كربون ونيتروجين وأوكسبينء وهيدروجينء مرتبة وفق شكل هندسي سداسي. أما القاعدتان الأخريان الغوانين والأدنين فجزيء كل منهما أكبر نوعاً ماء وتنتظم الذرات

204

في كل منهما على شكل سداسي وخماسي متصلين معاً.

أما بالنسبة للهندسة التركيبية في جزيء مركب 2714 فهي تعني التساؤل عن كيفية ترتيب القواعد الأربع بحيث يصبح جزيء مركب قادراً على التعبير عن العديد من وسائل الوراثة المتباينة» فكما أن أي بناء ليس كومة من الأحجارء. كذلك فإن مركب 2714 ليس كومة من القواعد . فما الذي يعطي هذا المركب ذلك التركيب, وبالتالي تلك الوظيفة ؟ وكان من الواضح آنذاك أن جزيء 224 عبارة عن سلسلة طويلة ممتدة تتصف ببعض الصلابة - و بالأحرى نوع من البلورات العضوية. كما كان يبدو محتملا أن يكون هذا الجزيء ذا شكل لولبي. ولكن السؤال كان: كم عدد اللوالب الموجودة على التوازي؟ هل هو واحد أو اثنان أو ثلاثة أو أربعة؟ وانقسم الرأي في ذلك إلى معسكرين رئيسيين. الآول يقول بوجود لولبينء والثاني يقول بشلاثة لوالب؛ وعندئن في نهاية عام 1952 اقترح عبقري الكيمياء التركيبية لينوس بولنغ في كاليفورنيا نموذجاً ثلاثي اللوالب يكون العمود الفقري فيه مؤلفاً من السكر والفوسفات و يقع في المنتصف طولياً. أما القواعد فعلى جانبيه تمتد نحو الخارج في كل الاتجاهات.

ووصل بحث بولنغ إلى جامعة كامبردج في شباط (فبراير) من عام ومنن الوهلة الأولى اتضح لواطسون وكريك أن ثمة خطأ في هذا النموذج.

وعندها قرر واطسون أن يؤيد النموذج ذا اللولب المزدوج, ولا نعرف السبب في هذا القرار وقد يكون نتيجة شعوره يوجود شيء خاطىّ في نموذج بولنغ مما دفعه إلى إسقاط فكرة النموذج الثلاثي إلى الثنائي: كما قد يكون نتيجة عناد ورغبة في تجرية الفكرة الأخرى. ويقول واطسون بعد أن زار لندن وعاد إلى كامبردج:

«في الوقت الذي ركبت فيه دراجتي متوجهاً إلى الكلية. ودخلت من البوابة الخلفية؛ كنت قد قررت أن أبني نموذجاً من سلسلتين (لولبين). وعلى زميلي فرانسيس أن يوافق. فبالرغم من أنه فيزيائي إلا أنه يعرف أن الأشياء الحيوية الهامة تأتى مزدوجة».

وفعلا أخذ يبحث مع كريك عن تركيب يكون عموده الفقري ممتداً على الجانبين وليس في الوسط: أي كنوع من السلم اللولبيء الذي تربطه جزيئات

205

ارتقاء الانسان

السكر والفوسفات كحاجز مزدوج لسلم لولبي. وكان هناك الكثير من المعاناة والنصب في التجريب على نماذج تقطع وتشكل لكي يريا كيف يمكن للقواعد الأربع أن توضع بين الحاجزين بحيث تكون كدرجات السلم في ذلك النموذج. وأخيراً بعد خطأ كثير بدا الأمر واضحاً جلياً دفعة واحدة.

«رفعت نظري ورأيت أن الداخل لم يكن فرانسيسء وبدأت بتبديل مواضع القواعد. مدخلا ومخرجاً إياها في العديد من الاحتمالات الازدواجية. وفجأة أدركت أن الأدنين والثايمين مرتبطان معاً برابطتين هيدروجينيتين يكونان شكلا مطابقا تماما لشكل زوج الغوانين والسيتوزين».

وبالطبع يجب أن تكون على كل درجة من درجات السلم اللولبي قاعدة صغيرة وقاعدة كبيرة. ولكن بنظام محدد وليس كيفما اتفق. فالثايمين يتوافق مع الأدنين وإذا كان ثمة سيتوزين فيجب أن يتوافق مع الغوانين. فالقواعد تسير أزواجاً. وضي كل زوج يقرر أحد الزوجين الزوج الآخر.

وهكذا فإن نموذج 1214 سلم لولبي. وه ولولب يلتف للناحية اليمنى وكل درجاته متساوية الحجم, وعلى نفس بعد الواحدة عن الأخرىء كما تنعطف بنفس الزاوية: ست وثلاثين درجة زاوية بين درجات السلم المتعاقبة. وإذا كان جزيء السيتوزين في طرف إحدى درجات السلم فإن الغوانين يكون في الطرف الآخر. وكذلك الأمر بالنسبة لزوج القواعد الآخر. و يعني ذلك أن كل نصف من اللولب يحمل رسالة وراثية كاملة» وبذا يكون النصف الآخر على نحو ما زائدا وتكرارا.

إن الدرجات في السلم اللولبي هي (الشيفرة) التي ستوجه الخلية, خطوة خطوة في عملية صنع البروتينات الضرورية للحياة. وفي الثاني من إبريل (نيسان) من عام ١953‏ بعث واطسون وكريك ببحثهما للنشر في مجلة الطبيعة عدهلا ووصفا في ذلك البحث هذا التركيب لجزيء 274 الذي اشتغلا فيه لمدة عام ونصف. وقد جاء في تعقيب جاك مونوء. من معهد باستور ومعهد سالك على هذا البحث ما يلي:

«إن الثابت البيولوجي الأساسي هو مركب 288. ولهذا فان تعريف متدال كركز الوراقة (السين) بأنه الحامل الدائم للصفات الوراثية. وتعريف أيغرى بأنه كيميائي الطابع (وتوكيد هرشي لذلك) ثم إيضاح واطسون وكريك للأسس البنائية لكيفية قيام هذا المركب بنسخ نفسه دون تغييرء

200

تعتبر أعظم الاكتشافات التي تحققت في علم الأحياء. وبالطبع يجب أن يضاف إلى هذه الاكتشافات الرائعة نظرية الانتخاب أو الاختيار الطبيعي. التى أكدتها وأوضحت أهميتها الكاملة هذه الاكتشافات نفسها». ويناسب 7 مركب 2715 هذا عملية نسخ الصفات التي هي أساسية بالنسبة للحياة. حتى قبل الجنس. فعندما تنقسم الحية ينفصل اللولبان. وثثبت كل قاعدة مقابلها القاعدة الأخرى التي تترافق عادة معها. وهذا هو سبب التكرار الزائد في لولب 278 المزدوج: فلأن كل نصف يحمل رسالة الوراثة وتعليماتها بأجمعهاء فان مركز الوراثة نفسه يُكثر نفسه من جديد عندما تنقسم الحالية. فالرقم السحري «اثنان» هنا هو الوسيلة التي تنقل بواسطتها الخلية هويتها الوراثية عندما تنقسم.

إن لولب جزيء 224 ليس نصباً تذكارياً. إنه تعليمات حية متحركة تُبلغ الخلية كيفية القيام بالعمليات الحيوية خطوة خطوة فالحياة تسير وفق جدول زمنيء ودرجات لولب 284 هي التي تفسر شيفرة الوراثة وتأمر بالتتابع الذي يجب أن يسير وفقه هذا الجدول الزمني. وتقرأ آلية أو ميكانيكية الخلية رموز درجات السلم بالترتيب؛ واحدا بعد الآخر. فتتابع ثلاث درجات من لولب 214 يعمل كمؤشر للخلية كي تصنع حمضا أمينيا معيناء وعندما تتولد هذه الأحماض الأمينية بالترتيب تترتب وتترابط داخل الخلية مكونة البروتينات. وهذه البروتينات هى لَبّنات بناء الحياة فى الخلية.

فكل خلية في الجسم - عدا خلاذيا التحيوانات المثوية والبويضات - لديها الإمكانات الكاملة لتكوين حيوان كامل. ذلك أن الحيوان المنوي والبويضة ليسا كاملين: إذ هما - أساسا - نصفا خليتين: ويحمل كل منهما نصف غدد مراكز الوراثة الموجودة في الخلية العادية. وأهمية ذلك تكمن في أنه عندما يخصب الحيوان المنوي البويضة تجتمع مراكز الوراثة الآتية من كل منهماء أزواجاً كما تنبأ مندل؛ وهكذا يتشكل العدد الكلي من التعليمات مرة أخرى. فالبويضة الملقحة إذن خلية كاملة. وهي نموذج تُنسخ عنه كل خلية أخرى في الجسم. ذلك أن أية خلية في الجسم تتكون عن طريق انقسام بويضة ملقحة؛ وعلى ذلك فان كل خلية في الجسم تكون صورة طبق الأصل في تركيبها الوراثي للبويضة الملقحة.وكجنين الدجاج يحمل الحيوان تراث البويضة الملقحة طوال عمره.

207

خلايا الطحلب الأخضر في طور الاندماج. ولقد قدمت أسلاف هذه الفصيلة أول دليل على التحام الخلايا لتشكيل البيضات المخصبة.

وعندما يتطور الجنين وينمو لتتميز الخلايا وتتخصصء فعلى امتداد الخط الظهري البدائي يبدأ تكون الجهاز العصبي. وتشكل كتل من الخلايا على طرفي هذا الخط الظهري العمود الفقريء ثم تبدأ الخلايا بالتتخصص: خلايا عصبية. خلايا عضلية, خلايا النسيج الضام. خلايا دموية وأوعية دموية... الخ. ويحصل هذا التخصص لأن الخلايا قبلت تعليمات ال 4لاط التي تققضي بوجوب صنع البروتينات المناسبة لقيام تلك الخلية بوظيفتها دون غيرها. ذلك هو ال آلآ في عمله.

إن المولود الصغير فرد متميز منذ الولادة. فازدواج مراكز الوراثة من كلا الوالدين يثير مجموعة من التنوعات. ويرث الطفل المواهب من كلا الوالدين. كما تجمع الصدفة هذه المواهب في ترتيب فريد جديد . وليس الطفل أسير وراثته» فهو يحمل هذه الوراثة كخلق جديد سوف تكشف أعماله المستقبلة عنها.

إن الطفل فرد متميز. أما النحلة فليست كذلكء ذلك أن ذكر النحل واحد من سلسلة من النسخ المتماثئلة. وفي أية خلية نحل تكون الملكة هي الأنثى الوحيدة القادرة على الإنجاب. وعندما يلقحها الذكر وهما طائران في الهواء تختزن ما عنده من حيوانات منوية. ويموت هذا الذكر فإذا وضعت الملكة حيوانا منويا مع البويضة, أدى ذلك إلى تكون نحلة عاملة أنثى. أما إذا وضعت بويضة دون حيوان منوي تكون ذكر وهذا نوع من الولادة العذرية. إن هذا النظام فردوس دكتاتوري يسوده دوما الإخخلاص و يكون دوما جامدا ثابتا . ذلك أن هذا الفردوس أغلق على نفسه باب مغامرة التنوع والتباين التي تدفع وتُغير الحيوانات الأعلى والإنسان.

ويمكن خلق عالم غير مرن كعالم النحل؛ بين الحيوانات الأعلى. وحتى عند الإنسان. عن طريق التكاثر الخلوي غير الجنسي7. أي عن طريق إقامة مجتمع من الحيوانات المتمائثلة بدءا من خلايا مأخوذة من أحد الوالدين: لنبدأ مثلا من مجموعة مختلطة من البرمائيات مثل السمندر المكسيكيا/" ولنفترض أننا نريد تثبيت نوع واحد هو السمندر المرقط. فنأخن بعض البيض من أنثى رقطاءء وننمي جنينا مقدراً له أن يكون أرقط. ثم نستخلص بعد ذلك من هذا الجنين عددا من الخلايا. ومن أي جزء من الجنين نأخذها تكون هذه الخلايا متماثلة في تركيبها الوراثي: ولكل منها

200

ارتقاء الانسان

القدرة على النمو إلى حيوان كامل؛ وستبرهن طريقة عملنا على ذلك.

سنقوم بتجربة إكثار حيوانات متماثلة. واحدة من كل خلية. نحتاج أولا إلى حامل تنمو فيه الخلايا؛ وأي سمندر مكسيكي يمكنه القيام بذلك, ويمكن أن تكون أنثى السمندر البيضاءء فنأخذ بيضا غير مخصب من هذه الأنثى؛ ونستخرج النواة من كل بيضة. ثم تُدخل بعد ذلك في كل من هذه البيضات نواة خلية من خلايا الأب الأرقط المتماثلة. وتكون النتيجة أن تنمو هذه البيضات إلى مجموعة من السمندرات المرقطة المتمائلة تماما. وتنمو البيضات المتماثلة» المعالجة بهذه الطريقة؛ في نفس الوقت. وتنقسم كل بيضة في نفس اللحظة التي تنقسم فيها الآخريات مرة ومرتين وتستمر في الانقسام لتكوين الجنين. كل ذلك أمر طبيعي يتم تماما كما في كل بيضة في المرحلة التالية تصبح انقسامات الخلية الواحدة غير مرئية. و يتحول الجنين النامي إلى ما يشبه كرة المضرب الجوفاء وتبدأً بالانبعاج إلى الداخل. وتكون كل هذه العمليات متزامنة في كل الأجنة التي تكونت بهذه الطريقة.

وفي هذه المرحلة يتضح أن كل بيضة قد أصبحت جنيناً صغيرا وهكذا تفقس كل بيضة ويخرج منها سمندر صغيرء ويحدث ذلك أيضا في نفس الوقت. وهكذا يصبح لدينا مجتمع منتظم صارم عسكري الطابع تطيع فيه الوحدات الأوامر بشكل متماثل؛ وفي ذات اللحظة.

وهكذا حصلنا أخيرا على مستعمرة من السمندرات:؛ كل منها نسخة طبق الأصل عن والده؛ وكل منها أتى عن طريق ولادة عذرية (أي دون تلقيح جنسي) مثل ذكر النحل.

فهل يجب أن نصنع بشرا من هذا النوع 5 أي عن طريق التكاثر الخلوي نسخا متمائثلة من أم جميلة أو أب ذكي؟ كلا بالطبع. فأنا أعتقد أن التنوع والتباين هما أس الحياة. ويجب ألا نتخلى عن ذلك التنوع من أجل نوع أو شكل نجده جذابا ومغرياء حتى ولو كان جذابا من ناحية وراثية. فالتوالد بطريق التكاثر الخلوي تثبيت لشكل واحدء الأمر الذي يجرى ضد اتجاه تيار الخليقة بأجمعهاء وبخاصة وفوق كل شيء الخليقة البشرية. فالتطور أساسه التنوع ويؤدي إلى التغاير. والإنسان بالمقارنة مع جميع الحيوانات, هو المخلوق الأكثر إبداعا وابتكارا لآنه يحمل و يعبر عن أعظم مخزن للتنوع. وكل محاولة لجعلنا متمائلين؛ بيولوجياء أو عاطفياء أو فكريا إنما

210

هي خيانة لتيار التطور الذي يقف الإنسان على قمته.

ومن حسن الحظ أننا غير متجمدين في نسخ متطابقة متماثلة. والجنس في النوع البشري متطور إلى حد عال. فالآنثى تتقبله في كل وقت؛ ولها ثديان دائمان: كما أنها تلعب دورا فعالا في عملية الاختيار الجنسي.

ومن الواضح أن للجنس سمة مميز خاصة جدا بالنسبة للبشر وله سمة حيوية خاصة. ولبيان ذلك لنأخذن معيارا محسوسا بسيطا لذلك: فنحن النوع الوحيد الذي تحصل فيه الأنثى على النشوة الجنسية. وهذا أمر يثير الانتباه. ولكنه كذلك فعلا. وهو دلالة على الحقيقة الواقعة بأنه بشكل عام تكون الفروق بين المرأة والرجل (بالمعنيين البيولوجي والجنسسي؟ أقل بكثير مما هي عليه عند الأنواع الأخرى. و يبدو هذا قولا غريباً. ولكن الأمر واضح بالنسبة للغوريلا والشمبانزي حيث توجد فروق هائلة بين الذكر والأنثى. وبلغة علم الأحياء فان الاختلاف الشكلي بين الجنسين ضئيل في النوع البشري.

وهناك نقطة تقع على الحد بين علم الحياة والثقافة وهي فعلا مؤثر للتمائل في السلوك الجنسي بشكل بين واضح فنحن النوع الوحيد الذي يحدث فيه الاتصال الجنسي وجها لوجهء!"ا وهو أمر عام شامل في كل الحضارات. وهذا الأمر كما أرىء. تعبير عن مساواة عامة لعبت دورا هاما في تطور الإنسان: كما اعتقد؛ منذ عصر الحيوان الشبيه بالإنسان والعصر الحجري.

ولماذا أقول ذلك؟ لأن ثمة شيئًا يجب علينا تفسيره. إذ علينا أن نوضح سرعة التطور الإنساني الذي تم في فترة لا تزيد عن مليون أو ثلاثة ملايين أو خمسة ملايين عام على الأكثر وهو تطور سريع للغاية. فالانتخاب الطبيعي لا يعمل بمثل هذه السرعة في الأنواع الحيوانية. فنحن البشر وفرنا لأنفسنا شكلا من أشكال الانتخاب خاصا بنا وحدنا. ذلك هو الانتخاب أو الاختيار الجنسي. فثمة دليل الآن على أن النساء يتزوجن رجالا مشابهين فكريا لهن؛ كما أن الرجال بالمقابل يتزوجون نساء مشابهات لهم فكريا. وإذا كان هذا التفضيل يعود حقا إلى أكثر من مليون عام فإنه يعني أن الاختيار بسبب المهارات كان دوما ذا أهمية بالنسبة للجنسين.

وأعتقد أنه حالما بدأ أسلاف الإنسان يستعملون أيديهم بمهارة وحذق

27١

ارتقاء الانسان

في صنع أدوات: وحالما أصبحوا أذكياء بحيث خططت عقولهم لهذا العمل؛ أصبح الأذكياء والمهرة يتمتعون بميزة مختارة. فقد كان باستطاعتهم الزواج من عدد أكبر من أفراد الجنس الآخر وبالتالي إنجاب عدد من الأطفال أوفر من غيرهم وإطعامهم بصورة أفضل. فإذا كانت تصوراتي حول هذا الموضوع صحيحة استطعنا تفسير السبب في أن أصحاب الأنامل الماهرة الأشخاص السريعي البديهة. هم الذين سيطروا على التطور الحيوي (البيولوجي) للانسان: ودفعوه نحو الأمام بهذه ال .كما تبين هذه التصورات كيف أن الإنسان حتى في تطوره البيولوجي كان مستشارا ومدفوعا بالموهبة الثقافية والقدرة على صنع أدوات والتخطيط لمجتمعه. وأعتقد أن هذا الأمر لا يزال يعبر عنه في العناية التي يوليها الأهل والمجتمع في كل حضارات بني الإنسان لترتيب عمليات جمع شاب وفتاة متوافقين صفات وإمكانات في رباط الزوجية.

ومع ذلك فلو كان هذا الأمر هو العامل الانتخابي الوحيد لكنا - نحن البشر - أكثر تجانسا بالتأكيد مما نحن عليه الآن. فما الذي يحفظ التنوع والتباين حيا بين المخلوقات البشرية5 هذه نقطة حضارية. ويعود ذلك إلى أن في كل مجتمع ذي ثقافة تحوطات خاصة تحفظ بقاء هذا التنوع: وأبرز هذه الاحتياطات تحريم الزواج من المحارم (ذوي القربى الشديدة) في العالم كله (وكان التحريم قديما بالنسبة لرجل الشارع - ولم يكن ينطبق دائما على العائلات الملكية 0. ويكون لهذا التحريم معنى ضبط إذا كان القصد منه منع سيطرة الذكور الأكبر سنا على مجموعة من الإناث وهو الأمر الذي يحصل في مجموعات القردة مثلا

إن الانشغال في اختيار رفيق (أو رفيقة) الحياة من قبل الأنثى أو الذكر أمر اعتبره صدى مستمراً للقوة الانتخابية الرئيسية التي تطورنا عن طريقها . فكل ذلك التواد والتلاطف. وطول فترة الخطوبة: وكل التحضيرات والتمهيدات للزواج الموجودة في كل الثقافات. كل ذلك تعبير عن الأهمية التي نوليها للصفات الدفينة في رفيق المستقبل. والأمور العامة الشاملة إذا امتدت لتشمل كل الحضارات؛: تكون نادرة الحدوث؛ ولكنها دليل ناطق. فنوعنا البشري نوع ا ا أن عنايتنا الفريدة بالانتقاء الجنسي قد ساعدت على تشكيل ذلك

212

لود فيع بولتزمان مع زوجته هنرييتا عام 1075 جون فون نويمان وزوجته كلاراء عام 1954 .

الشاب نيلزبور مع خطيبته مرغريت. ماكس بورن مع زوجته هيدفيع وابنهما في عطلة على الشاطن؛ عام 1925.

اللوحة رقم 34

إداتمهال كلو اتابن التكراو الأشريس اسار الور يقر سدق مستمر للقوة الاصطفائية الرئيسية التي تطورنا بواسطتها.

215

ارتقاء الانسان

ماري كوري وزوجها بيير. لوي باستور يملى على زوجته ماريء أثناء عام 65 .

ألبرت آنشتاين عند وصوله إلى جيمس والزابيث واطسون في منزل المؤلف

نيويورك مع زوجته الثانية الزا عام في لايولا.كاليفورنياء وتلك قبل ثلاث ساعات 5 م. من زواجهما

214

إن معظم الأدب العالمي؛ ومعظم فن العالم منشغل بموضوع «الشاب والفتاة» وننزع عادة إلى الظن بأن هذا الأمر إنما هو انشغال بالجنس ولا يحتاج لأي تفسير ولكنني أعتقد أن ذلك خطا . فعلى النقيض من ذلك؛ يعبر ذلك عن حقيقة أعمقء وهي أننا حريصون بشكل غير طبيعي في اختيارنا لمن سننجب منه الأطفال. فالجنس أداة بيولوجية ابتدعتها الطحالب الخضراء. غير أن الجنس - كأداة أساسية لارتقاء البشرية وتطورها الحضاري - ابتدعه الإنسان نفسه. والحب الروحي والحب الجنسي لا ينفصلان. وليس ثمة تعبير عن ذلك أفضل من قصيدة للشاعر جون دون؛ سماها «الوجد». وأورد هنا ثمانية آأبيات من هذه القصيدة التي بلغت طوال النهاركانت جلستناذاتهاء ولم ننبس ببنت شف طوال النهار لكن ويا للأسفهلماذا نتحمل أن تبقى أجسادنا متباعدة؛ لهناالوقتالطويل» فهذا الوجد بسيط لا يربك ولا يحير بليخبرناعما نحب ونشتهي فغوامض الحب تنمو وتكبر في الروح والخيال بيدأنالجسد يبقى كتابهالمفتوح.

215

ارتقاء الانسان

الهو امش

)١(‏ بذور مستديرة في مقابل مجعدة عند نضجهاء بذور صفراء في مقابل خضراء في القرن الموشك على النضج. أغلفة رمادية في مقابل بيضاء وهذه مرتبطة بأزهار قرمزية في مقابل بيضاء؛ قرون منتفخة في مقابل قرون نحيلة مختنقة في الوسط؟ قرون لونها قبل النضج أخضر في مقابل أصفرء وأزهار في آباط الأوراق في مقابل أن تكون في نهاية الساقء ونباتات سوقها طويلة في مقابل قصيرة. ز. ك.

(2) وتلك الصفات السبع بالذات التي تتوزع عواملها الوراثية على الكروموسومات (الصبغيات) السبعة: صفة على كل كروموسوم .ز.ك.

(3) سمك فضي الجانبين يعيش في المحيط الهادي قرب شواطى كاليفورنيا ويخرج إلى الشاطىّ عند اكتمال القمر بدراً لوضع البيض وإخصابه. ز. ك.

(4) عصتدمكت

(5) غمامجم

(6) يشاركه في ذلك بعض أنواع الحيتان ز. ك

21

الطفولة الطويلة الأمد

استهل المقالة الأخيرة هذه في آيسلندا لأنها مهد أقدم ديمقراطية في شمال أوربا. ففي المدرج الطبيعي في ثنغ فيلير. وهو خال من أية أبنية. كان يجتمع كل السكان الذين ينحدرون من أصل نوردي - مرة كل عام - لسن القوانين وتلقيها . وقد بدا هذا التقليد حوالي عام 900 م؛ قبل وصول المسيحية إلى أيسلنداء وعندما كانت الصين إمبراطورية عظيمة؛ بينما كانت أوربا نهبا للأمراء والبارونات اللصوص . وكانت تلك البداية للديمقراطية ملفتة

بيد أن هناك شيئا أكثر غرابة حول هذا الموقع الكثير الضباب القاسي الطقس. فقد اختير هذا المكان لأن المزارع الذي كان يملكه قتل - لا مزارعا آخرء - بل أحد العبيدء واعتبر هذا المزارع خارجا على القانون. جرى ذلك في الوقت الذي ندرت فيه العدالة الحقة في الحضارات التي كان فيها الرق أمرا شائعاء ومع ذلك فان العدالة أمر شائع في كل الحضارات: فهي حبل مشدود يمش عليه الإنسان متأرجحا بين ركبته في تحقيق أمانيه من جهة واعترافه بالمسئولية الاجتماعية من جهة أخرى,

2277

ارتقاء الانسان

وليس ثمة حيوان تواجهه تلك المعضلة: إذ أن الحيوان إما أن يكون اجتماعيا أو فردياء أما الإنسان فانه الوحيد - من بين المخلوقات الحية - الذي يتطلع إلى أن تكون له هاتان الميزتان معاء أي أن يكون فرديا واجتماعيا في ذات الوقت. وبالنسبة لي تبدو هذه الصفة سمة بيولوجية فريدة؛ ذلك هو نوع الشكلة التى اهم بها فى دزاسقى لللخصوصية البشرية» والقى سأناقشها الآن. 000 0

إن من المذهل أن نفكر أن العدالة جزء من التركيب البيولوجي للانسان؛ ومع ذلك فان هذا التفكير ذاته هو الذي أخرجني من عالم الفيزياء إلى علم الحياة وعلمني منذ ذلك أن حياة الإنسان وبيته هما المكان الصحيح لدراسة تفرد الإنسان بميزاته البيولوجية.

ومن الطبيعي أن يكون العرف قد جرى على النظر إلى علم الأحياء على نحو مختلفء إذ يسود الاعتقاد بان أهم ما فيه هو التشابه بين الإنسان والحيوان» فمنذ القديم: وقبل عام 200 ق. م. درس جالينوس - أبو الطب القديم - ذراع الإنسان. وكيف فعل ذلك5 بتشريح ذراع قرد. هكذا يجب البدء بالاعتماد حتما على شواهد من عالم الحيوان: وحتى الآن لا يزال العمل الرائع الذي قام به كونراد لورنتز حول السلوك الحيواني يحثنا على البحث عن أوجه الشبه بين البطة والنمر والإنسان؛ و يأتي بذات الآهمية البحث النفسي الذي أجراه سكينر على الحمائم والفئران؛ فهذه الأبحاث تعطينا بعض المعلومات عن الإنسان؛ ولكنها لا تستطيع أن تخبرنا بكل شيء: إذ لابد أن ثمة شيئا فريدا مميزا في الإنسان: وإلا لكان البط يحاضر حول لورنتزء ولكتبت الفئران أبحاثا عن سكينر.

ولنطرق الموضوع مباشرة دون لف ودورانء: فبين الحصان والفارس العديد من الصفات التشريحية المشتركة. ولكن المخلوق البشري هو الذي يمتطي الحصانء وليس العكس. وراكب الحصان مثال ممتازء لأن الإنسان لم يخلق لامتطاء الحصان: فليس ثمة دورات كهربائية داخل الدماغ تجعلنا ركاب خيل. فركوب الحصان اختراع حديث نسبيا عمره أقل من خمسة آلاف عام؛ ورغم ذلك فقد كان له تأثير هائل على بنيتنا الاجتماعية مثلا. إن مرونة السلوك الإنساني هي التي تجعل هذا الآمر ممكناء وهذا ما يميزنا في مؤسساتنا الاجتماعية بالطبع: ولكنه قبل كل شيء - فيما أرى - يظهر

218

الطفوله الطويله الأمد

في الكتب. لأن هذه الكتب هي النتاج الدائم لمجموع اهتمامات العقل البشري, فأذكر هذه الكتب كما أذكر والدي. مثل ذلك اسحق نيوتن. ذلك الرجل العظيم الذي سيطر على الجمعية الملكية في مطلع القرن الثامن عشرء ووليام بليك كاتب «أغاني البراءة» في أواخر القرن الثامن عشر فهذان الشخصان منحيان للعقل الواحد وكلاهما يعبران عما يسميه علماء الحياة السلوكيون «مزايا النوع الخاصة».

كيف يمكن التعبير عن ذلك بشكل أبسط؟ لقد ألفت مؤخرا كتابا بعنوان «هوية الإنسان»'!" ولم أشاهد غلاف النسخة الإنجليزية إلى أن وصلني الكتاب مطبوعاء ومع ذلك أدرك الفنان ما كان يدور بخلدي تماماء إذ رحب على الغلاف صورة للدماغ ولوحة الموناليزاء الواحدة فوق الأخرى. وبين هذا العمل ما قاله الكتاب؛ فالإنسان ليس فريدا لأنه يحقق أعمالا فنية رائعة؛ بل لأن العلم والفن - على قدم المساواة - تعبيران عن مرونة عقله الرائعة. ولوحة الموناليزا ذاتها. مثال جيد جدا وذلك بسبب أن ما عمله ليوناردو دافنشي واهتم به طوال حياته كان رسم الصور التشريحية مثل لوحة «الطفل في الرحم» الموجودة ضمن المجموعة الملكية في وندسور, فعند الدماغ والطفل تماما تبدأ مرونة السلوك البشري.

وثمة شيء لدي عزيز المكانة: إنه قالب مصبوب لجمجمة طفل عمرها مليونا عام؛ هو طفل تونغ؛ وبالطبع فإنها ليست جمجمة بشرية بالضبط. فما الذي يميز دماغها الصغير عن دماغي؟ بكلمة بسيطة: الحجم - فدماغها لو كبرت ولم تمت طفلة لكان يزن ما يزيد قليلا عن رطل إنجليزي واحد (أي حوالي 452 غ). أما دماغي - أعني الدماغ العادي الآن - فيزن حوالي ثلاثة أرطال إنجليزية (أي حوالي 13500 غ).

لن أتحدث عن تركيبات الخلايا العصبية؛ ولا عن كيفية انتقال التيارات الكهروعصبية باتجاه واحد في الأنسجة العصبية ولا حتى عن الدماغ القديم والدماغ الجديد. ذلك أننا نشارك في هذه الأمور العديد من الحيوانات. بل سأقصر حديثي على الدماغ؛ باعتباره الدماغ الخاص بالمخلوق الإنساني.

والسؤّال الأول الذي نسأله هو: هل الدماغ البشري أفضل من حاسب إلكتروني (كمبيوتر)؟ أو هل هو أكثر تعقيدا من أي كمبيوتر؟ إن الفنانين

210

ارتقاء الانسان

بصورة خاصة يميلون إلى الظن بأن الدماغ كمبيوتر؟ لذلك نجد أن تيري درهام في لوحته «دكتور برونوفسكي» استعمل رموز الطيف والكمبيوتر, لأن تلك هي الكيفية التي يتصور بها الفنان دماغ العالم؛ وبالطبع فان ذلك التصور لا يمكن أن يكون صحيحا. إذ لو كان الدماغ عبارة عن كمبيوتر لكان باستطاعته أن يقوم بسلسلة من الأفعال المقررة مسبقا بتتابع ثابت غير مرن.

فعلى سبيل المثال» فكر في جزء جميل من سلوك الحيوان؛ وصفه صديقي دان ليرمان في بحثه عن تزاوج الحمام المطوق؛ فإذا هدل الذكر بالطريقة الصحيحة:؛ وإذا انحنى أمام الأنثى بالطريقة الصحيحة أيضاء عندئذ تتفجر الأنثى إثارة وحبورا وتتدفق هورموناتهاء وتقوم بسلسلة من الأفعال يكون أحدها بناء عش كامل. إن أفعال أنثى الحمام دقيقة في تفاصيلها وانتظام تتابعهاء ولكنها أفعال عفوية لم تتعلمها الأنثى من قبلء ولذلك فهي أفعال ثابتة لا تتغير ولا يقوم الحمام المطوق أبدا بتغييرها . فلم يقدم أحد للحمامة أية مجموعة من مكعبات الأطفال كي تتعلم بها بناء العشء. ولكنك لا تستطيع أن تجعل الإنسان يبني أي شيء إلا إذا تعلم وهو طفل أن يضع مجموعة من الأحجار والآجر أو المكعبات معا لتكون شكل بناء ما. تلك هي بداية البارثنون؛ وتاج محل؛ وقبة السلطانية: وأبراج واتس وماشوبكشو والبنتاغون.

فنحن لسنا عقلاً حاسباً إلكترونيا (كمبيوتر) يتبع برامج معينة وضعت فينا عند الولادة. وإذا فرض وكنا نوعا من الآلة فنحن آلة تتعلم: وتقوم بالتعلم مناطق محددة في الدماغ. وهكذا ترى أن هذا الدماغ لم يزدد حجمه إلى ضعف أو ثلاثة أضعاف حجمه الأصلي فقطء. بل نما أيضا في مناطق محددة تماما كالمنطقة التي تتحكم بحركة اليد مثلاء وفي منطقة التحكم بالكلام؛ وفي مراكز التحكم بالبصيرة والتخطيط. وسننظر تباعا في هذه الأمور.

لنتأمل اليد أولاء إن التطور الحديث للإنسان يبدأ - دون شك - مع تقدم تطور اليد. واختيار دماغ قادر بخاصة على استعمال اليد ببراعة. قفنحن نشعر بالسعادة عندما ننجز عملا دقيقا بوساطة اليد. وهكذا فإن اليد - بالنسبة للفنان - تظل شعارا رئيسيا: فيد بوذا مثلا تمنح البشرهبة الإنسانية بإيماءة هادئة. وكذلك هبة الشجاعة. وكذلك أيضا بالنسبة للعالم يكون

الطفولهة الطويله الأمد

رسم تخطيطي للشريط الحركي من قشرة الدماغ الإنساني يظهر كثرة المناطق المسؤولة عن تحريك اليدين ومنطقتي فيرنيكه وبروكا في الجانب الأيسر من الدماغ وهما مسؤولتان عن

الكلام.

ارتقاء الانسان

لليد معنى خاص: ذلك أننا نستطيع مقابلة الإبهام مع بقية أصابع اليد. حسناء ولك القرود تستطيع فعل ذلك أيضا. غير أن الإنسان هو الوحيد الذي يستطيع أن يقابل الإبهام - بدقة - مع السبابة. وتلك خاصة إنسانية فريدة يمكن القيام بها لأن هنالك منطقة خاصة في الدماغ البشري. هي من الكبر بحيث إن أفضل طريقة لوصف حجمها أن أقول: إن كمية المادة الرمادية الدماغية2) المخصصة للتحكم بالإبهام أكبر من تلك المخصصة للصدر والبطن معا.

وأذكر - عندما كنت أبا حديث العهد - كيف كنت أسير على أطراف أصابعي باتجاه مهد ابنتي الأولى عندما كان عمرها أربعة أو خمسة أيام: أفكر وأنا أنظر إلى أناملها الفضة الرائعة؛ وفى المفاصل الكاملة لتلك الأصابع. حتى الأظافر الناعمة: ولا يمك الاشتان «ههما كان ماوعا موقا - أن يصمم ذلك بتفاصيله؛ ولا في مدى مليون عام. ولكن ما استغرق مليون عام هو أن تصبح اليد قادرة على التأثير في الدماغ؛ بحيث إن الدماغ يعيد التعليمات إلى اليد ويحفزها للعمل؛ أي لتصل اليد إلى وضعها الحالي من التطور ويحدث هذا في مكان في الدماغ محدد بدقة. وفي الواقع فان اليد بكاملهاء تراقبها وتتحكم بها منطقة محددة من الدماغ تقع بالقرب من قمة الرأس.

لنأخن بعد ذلك جزءا خاصا آخر في الدماغ الإنساني غير موجود بتاتا لدى الحيوانات وهو الجزء الخاص بالكلام: ويوجد هذا الجزء في منطقتين متصلتين من الدماغ البشريء المنطقة الأولى قريبة من مركز السمع؛ بينما تققع الثانية في الأماكن الأمامية العلوية من الفصين الجبهتين: فهل هذه المناطق مبرمجة مسبقا بمفهوم معين؟ نعم. ذلك أنه لو لم تكن مراكز الكلام سليمة كاملة لما استطعنا الكلام على الإطلاق؛ ومع ذلك فهل الكلام شيء ينبغي تعلمه ؟ نعم بالطبع. فأنا أتكلم الإنجليزية التي تعلمتها ضفي سن الثالثة عشرة فقط. وما كنت لأتكلم الإنجليزية لو لم اكن تعلمت لغة من قبل. فلو تركنا الطفل دون تعلم أية لغة حتى سن الثالثة عشر لكان من المستحيل أن يتعلم أية لغة على الإطلاق. فأنا أتكلم الإنجليزية لأنني تعلمت اللغة البولندية في سن الثانية. ولقد نسيت كل كلمة بولندية تعلمتها ولكنني تعلمت (لغة): فهنا - وكما في الهبات الإنسانية الأخرى - نجد أن الدماغ

الطفوله الطويله الأمد

لوحة رقم 36 الإنسان فقط يستطيع مقابلة الإيهام بدقة مع السبابة. لوحة ذاتية للفنان البرشت دورر.

مبرمج ليكون قادرا على التعلم.

ومناطق الكلام في الدماغ غريبة جدا من ناحية أخرى خاصة ببني الإنسان وحدهم: ضمن المعلوم أن الدماغ الإنساتي ليمن غتناظر] في تصفيه: ودليل ذلك واضح في ملاحظة أن الإنسان على تقيض الحيوانات: يتميز بأنه أيمن أو أعسرء كما أن مركز التحكم في الكلام موجود في جانب واحد من الدماغوهذا حاتي لايظير كبواء كان الإفسان أعسر اليد أو اومتها

ارتقاء الانسان

فإن مركز الكلام بالتأكيد موجود في الجانب الأيسر غير أن هناك استثناءات, كما توجد استثناءات بالنسبة للقلب. حيث توجد بعض القلوب في الجهة اليمنى من الصدرء ولكن هذه الاستثناءات نادرة في الحالتين. أي إن مركز الكلام في النصف الأيسر من الدماغ بشكل عام. وماذا يقابل مركز الكلام في نصف الدماغ الأيمن ل؟ حتى الآنء لا نعرف بدقة ماهية عمل الجزء الأيمن من الدماغ المقابل لمنطقة الكلام الموجودة في الجزء الآيسر منه. ويظهر أن هذه المناطق اليمنى تأخذ ما يردها عن طريق العين - مخطط لعالم ذي بعدين على الشبكية - وتحوله أو ترتبه إلى صورة ثلاثية الأبعاد. غان صح ذلكء؛ عندئذ يكون من الواضح:؛ وفق وجهة نظريء أن الكلام أيضا وسيلة لتنظيم العالم في أجزائه المختلفة. ثم جمعها معا مرة أخرى كصور متحركة.

إن تنظيم التجربة والخبرة أمر بعيد النظر جدا في الإنسان: و يقع في منطقة دماغية ثالثة خاصة بالإنسان. والتنظيم الرئيسي في الدماغ موجود في الفصوص الجبهية والفصوص قبل الجبهية. فأناء مثل أي إنسان آخر مثقف ومفكر لأن الدماغ يدفع لذلك. وعلى النقيض من ذلك نجد أن جمجمة تونغ لا يمكن أن يظن أحد بأنها جمجمة طفل مات حديثاء وأخطأنا فاعتبرناها احفورة متحجرة. ذلك أن جبهة جمجمة تونغ منحدرة نوعا ما وليست قائمة (كما هي في الإنسان) .

مانفى مهمة القصوض اللوساقيره الجبيية الشكية بانضيظ امن لقتل أن تكون لها وظائف متعددة: بالتأكيد ورغم ذلك تؤدي مهمة خاصة شديدة الأهمية. فهي تمكن الإنسان من التفكير في أعمال مستقبلية؛ ثم الانتظار لنيل الجائزة وقد أجرى والترهنتر حوالي عام ١910‏ تجارب جميلة على هذا الموضوع الذي يطلق عليه عادة اسم الاستجابة المتأخرة؛ ثم أتى جاكوبسن وصقل هذه التجارب في الثلاثينات من هذا القرن: وكانت تجارب هنتر كما يلي: فقد كان يأخذ جائزة ما ويريها للحيوان ثم يخبئها. وبينت التجارب التي أجريت على الفئران (حيوانات التجارب المخبرية المثلى) أن النتائج نموذجية. فإذا أخذنا فأرا وأريناه الجائزة ثم خبأناها وأطلقناه في الحال فانه يذهب رأسا إلى الجائزة المخبأة. ولكن إذا احتفظنا بالفآر 585 دقائق فانه لا يعود قادرا على معرقفة المكان الذي يجب أن يذهب إليه لأخذ

2064

الطفوله الطويله الأمد

الجائزة.

ولكن الأطفال بالطبع يختلفون تماما عن الفثران في هذا المجال؛ فلقد أجرى هنتر نفس التجربة على الأطفال: ووجد أن بالإمكان الاحتفاظ بخمسة أو ستة أطفال منتظرين لمدة نصف ساعة وربما ساعة؛ والطريف في هذا الموضوع أنه كانت لدى هنتر فتاة صغيرة حاول أن يسليها ويحادثها بينما كانت تنتظر فما كان منها إلا أن قالت له في النهاية «لعلك تعلم أنني اعتقد أنك تحاول أن تجعلني أنسى!».

إن القدرة على تخطيط أعمال تكون الفائدة منها (الجائزة) بعيدة زمنيا عبارة عن تحوير للاستجابة المتأخرة» ويسمي علماء الاجتماع هذا الأمر «تأجيل الارتضاء». وهي ميزة أساسية للدماغ البشري لا يوجد ما يقابلها إلا بقلة قليلة جدا في أدمغة الحيوانات المتقدمة في سلم الرقي مثل القردة والقردة العلياء إن التطور الإنساني يعني أننا نهتم في التعليم المبكر اهتماما فعليا بعملية تأجيل اتخاذ القرارات؛ وهنا أقول شيعا يختلف عغما يقوله علماء الاجتماع. إذ أنه يجب علينا أن نؤّجل عملية اتخاذ القرار» حتى نجمع كمية كافية من المعرقة كتحضير وإعداد للمستقبل. ويبدو هذا القول شيئًا غير عادي. ولكن ذلك هو حقيقة مرحلة الطفولة. وكذلك مرحلة البلوغ, وأيضا مرحلة الشباب.

هنا أريد أن أؤكد على عملية إرجاء القرار تأكيدا دراماتيكيا - وأنا اقصد هذه الكلمة حرفيا بكل ما تعنيه؛ فما هي المسرحية الدرامية الكبرى في الأدب الإنجليزي ؟ إنها هاملت؛ وحول ماذا تدور أحداث هذه الدراما الشهيرة؟ حول شاب يافع - حول فتى - يواجه بأول قرار عظيم في حياته. وهو قرار بعيد عن متناول يديه: أن يقتل قاتل أبيه. وانه لمن العبث أن يستمر الشبح في هذه المسرحية في حث هذا الفتى على الانتقام. فحقيقة الآمرأن هاملت - كشاب لم ينضج بعد - لم يكن ناضجا للقيام بالعمل المطلوب منه لا فكريا ولا عاطفيا. والمسرحية بأكملها عبارة عن تأجيل لا نهاية له للقرارء بينما هو يصارع نفسه.

وتأتي ذروة الدراما في منتصف الفصل الثالث. إذ يرى هاملت الملك وهو يصليء و يبدو كما لوأن هاملت يسمع خلال صلاة الملك اعترافه باقتراف الجريمة؛ عندئذ يقول هاملت «الآن يمكنني أن أفعلها» ولكنه لا

ارتقاء الانسان

يفعلها! أو ببساطة ليس مهيئًا للقيام بعمل نن هذا الحجم وهو بعد صبي. ولذا يُغتال هاملت في نهاية المسرحية: لكن المأساة لا تكن في موت هاملت. بل في أنه يموت في الوقت الذي أصبح فيه مؤهلا كي يصبح ملكا عظيما . ففي الإنسان قبل أن يكون الدماغ أداة عمل يجب أن يكون أداة تحضير وإعداد . ولتحقيق ذلك تقوم مناطق عديدة في الدماغ بالتطورء فالفصوص الجبهية - على سبيل المثال - يجب أن تكون سليمة غير معطوية؛ ولكن الأهم من ذلك بكثير أن ذلك يعتمد على الإعداد الطويل السليم للطفل الإنساني. ويغباراك علمية تحتفظل نضفات جنيتية غندما تكير: يفغتى أثنا تولن من الرحم ونحن مازلنا أجنة. ويظهر أن هذا هو السبب في أن حضارتنا - التي هي حضارة علمية - تقدس فوق كل شيء آخر رمز الطفل منذ عصر النهضة؛ فهذا رافائيل يرسم المسيح طفلاء وهذا موتسارت الصغير وكذلك غاوسء وكذلك الآمر بالنسبة للأطفال في كتابات جان جاك روسو وروايات تشارلز ديكنز. ولم يخطر ببالي أن الحضارات الأخرى مختلفة إلا عندما أبحرت من كاليفورنيا جنوبا مسافة أربعة آلاف ميل إلى جزيرة الفصح.: هناك صدمت للفارق التاريخي بين حضارتنا وحضارتهم. وفي مرات متكررة عبر العصور يخترع أحد ذوي البصيرة والنظر الثاقب مكانا مثاليا جديدا: أفلاطون: توماس مورء ه. ج. ويلزء وتكون الفكرة دوما وراء ذلك: إن الصورة البطولية سوف تدوم ألف سنة كما قال هتلر. ولكن الصور البطولية تكون دائما شبيهة بوجود الآجداد في المشذبة والميتة في التماثيل الحجرية الموجودة في جزيرة الفصح. إن ذلك ليس خلاصة الشخصية الإنسانية؛ حتى بالمفهوم البيولوجيء فالإنسان - بيولوجيا - متغير حساسء قابل للتحول عن طريق الطفرات؛ متلائم مع العديد من البيئات المخخلفةومتحرك وليس ساكناء والرؤية الحقيقية للانسان يذل فى ذلك الطفل المعجزة والعذراء والعائلة المقدسة. ا وعندما كنت فتى في سن المراهقة؛ اعتدت أن أمشي بعد ظهر أيام السبت من الطرف الشرقي في لندن إلى المتحف البريطانيء كي انظر إلى ذلك التمثال الوحيد من جزيرة الفصح.: الذي لم يضهعوه داخل المتحف لسبب ما. وهكذا فإنني مغرم بوجوه السلف القديمة هذه. ولكن كل هذه التماثيل لا تساوي في النهاية وجه طفل غموز.

22

الطفوله الطويله الأمد

إذا كان الحماس قد أخذني بقولي ذلك عن جزيرة الفصح فذلك لسبب» ففكر في مقدار الاستثمار الذي استثمره التطور في دماغ الطفل. خدماغي عندما ولدت كان جسمي مجرد طرف مرتبط بالرأس.ء إذ لم يكن جسمي يزن أكثر من أريع أو خمس مرات وزن دماغي. وخلال أغلب فترات التاريخ تجاهلت الحضارات على اختلافها تلك الإمكانات الكامنة الهائلة. وضفى الواقع فإن أطول طفولة كانت طفولة الحضارة التي احتاجت وقتا طويلا لإدراك هذه الحقيقة.

ففي معظم فترات التاريخ كان يُطلب من الأطفال أن يتطابقوا مع صورة الكبار. لقد تنقلنا مع قبائل البختياري في إيران في هجرتهم الربيعية. وكما رأينا فان هؤلاء القوم قريبون» كقرب أي أناس في الحضارات الزائلة من حياة الإنسان المتنقل الذي عاش على الأرض قبل عشر آلاف سنة؛ وهم رغم أنهم يعيشون فعلاً الآن إلا أنهم في الطريق الإنسانية الزوال. ويرى المرء هذا الأمر واضحا بيبا فى كل تلك الطرق الحياتية القديمة:؛ أنها صورة الشخص البالغ الراشد تلتمع في أعين الصغار. فبنات البختيار أمهات صغيرات. في طريق التكون. أما الأولاد فرعاة صغار وهم يسلكون ويتصرفون مثل والديهم.

وبالطبع فإن التاريخ لم يقف جامدا بين مرحلة إلا الهائم المتنقل» ومرحلة عصر النهضة. فارتقاء إلا لم يتوقف أبداً. ولكن ارتقاء الصغار ارتقاء الموهوبين. وارتقاء أصحاب الخيال الواسع, هو الذي توقف عدة مرات بين هاتين المرحلتين.

وبالطبع كانت هنالك حضارات غابرة عظيمة؛ فمن أنا كي أقلل من شأن حضارات مصر والصين والهند» وحتى أوريا في العصور الوسطى؟ ولكن رغم عظمة هذه الحضارات فقد فشلت جميعا في اختبار واحد؛ ذلك أنها جميعا حدت من حرية الخيال عند الصغار إنها حضارات جامدة راكدة. حضارات الأقلية. وهي حضارات جامدة لان الابن كان يفعل ما كان يفعله أبوه. والأب كذلك فعل ما كان يفعله الجدء وهي حضارات الأقلية لأن جزءا ضئيلا فقط من كل تلك الموهبة التي أنتجتها البشرية استعمل بصورة فعلية. فالأقلية تعلمت القراءة والكتابة وتعلمت لغة أخرى. وصعدت ببطء

267

ارتقاء الانسان

شديد سلم الترقي.

ففي العصور الوسطى كان سلم الترقي من خلال الكنيسة: إذ لم يكن ثمة سبيل آخر أمام الصبي الفقير الذكي للصعود اجتماعياء وعند نهاية السلم كانت هنالك دوما تلك الأيقونة المقدسة التي تقول: «ها قد وصلت الآن الإنسانية الوصية العاشرة التي تقول: - عليك أن تكف عن التساؤل».

مثال ذلك أنه عندما أصبح إراسموس يتيما عام 1480 كان عليه أن يعد نفسه لمهنة كنسية. وكانت الطقوس الكنسية جميلة بالقدر التي هي عليه الآن» ويمكن أن يكون إراسموس قد اشترك في قداس التسبيح المثير في القرن الرابع عشر وقد سعت هذا القداس في كنيسة أقدم من تلك التي شارك إراسموس بالقداس فيهاء ولكن حياة الرهبان كانت بالنسبة لإراسموس بابا حديديا موصدا في وجه المعرفة؛ ولم يفتح العالم أبوابه لإراسموس إلا عندما قرأ الكعب الكلاسيكية لنفسه. متحديا بذلك أوامر الكنيسة. يقول إراسموس: «كتب هذه. الكتب وثني لوثني آخرء ومع ذلك ففيها العدل والقداسة والصدقء وكدت أفشل في منع نفسي من القول: أيها القديس سقراط؛ صل من أجلي».

اتخذ إراسموس من السير توماس مور في إنجلترا ويوهان فروبينيوس في سويسرا صديقين مدى الحياة. وحصل من مور ما حصلت عليه عندما أتيت إنجلترا أول مرة الشعور بالسرور برفقة العقول المتمدنة. أما من فروبينيوس فقد أخن معنى قوة الكتاب المطبوع. فقد كان فروبينيوس وعائلته أصحاب اكبر مطبعة للكتب الكلاسيكية بما في ذلك الكتب الكلاسيكية في الطبء في القرن السادس عشر وأعتقد أن النسخة التي طبعوها عن أعمال أبو قراط الطبية إحدى اجمل الكتب التي طبعت على الإطلاق. ففي هذا الكغانب فلميين انكو |السفاوة الى الما حم محفون| قل ضفحات العكان بذات قوة المعلومات التي يحويها بين دفتيه.

ما هو المغزى من هؤلاء الأشخاص الثلاثة وكتبهم - أعمال أبو قراط الطبية؛ و«المجتمع الأمثل» لتوماس مورء و«دمدح الحماقة» لإراسموس 5 أعتقد أن هذه هي ديموقراطية الفكر وهذا هو السبب في أن إراسموس وفروبينيوس ومور راسخون في مخيلتي شواهد شامخة مميز لعصرهم. إن ديموقراطية الفكر تأتي من الكتاب المطبوع؛ والمشكلات التي أثارتها هذه

الطفوله الطويله الأمد

الديموقراطية منذ عام ١500‏ استمرت حتى مظاهرات الطلاب في عصرنا الحاضر. وما هو سبب موت السير توماس مور؟ة لقد مات لأن مليكه اعتقد بأنه يريد التحكم بالسلطة. وكل ما أراده مور وما أراده إراسموسء وما يريده كل مفكر مثقفء. هو أن يكون حارسا للاستقامة والنزاهة.

وثمة صراع أزلي بين القيادة الفكرية وبين السلطة المدنية. وفد تفهمت كم هو قديم وكم هو مرير هذا الصراع عندما لاحت لي القدس في الأفق, وأنا في طريقي إليها من أريحاء وهو نفس الطريق الذي سلكه المسيح في رحلته الأخيرة؟ ذلك أن المسيح عيسى بن مريم كان عندئن القائد الفكري والأخلاقي لشعبه؛ ولكنه كان يواجه مؤسسة: الدين فيها مجرد فرع من الحكومة. تلك مأساة الاختيار التي واجهها كثير من القادة مرات ومرات: سقراط في أثينا.ء جوناثان سويفت في ايرلندا موزعا بين الشفقة والطموح, المهاتا غاندي في الهند وألبرت آينشتاين عندما رفض رئاسة إسرائيل.

وقد ذكرت اسم آينشتاين هنا عن قصد., لأنه كان عالماء والقيادة الفكرية في القرن العشرين معقودة للعلماء. وهذا الأمر يضعنا أمام مشكلة خطيرة: لآن العلم أيضا مصدر من مصادر القوة؛ يسير بالقرب من الحكومة: التي تريد - من جانبها - أن تخضعه لسيطرتها.

ولكن إذا سمح العلم لنفسه أن يسلك ذلك السبيل؛ فإن معتقدات القرن العشرين ستنهار إلى الأنانية. وسنصبح بدون معتقد .. لأنه لا يمكن إقامة أية معتقدات في هذا القرن؛ إذا لم يكن أساسها العلم باعتباره اعترافاً بتميز الإنسان وفخراً بمواهبه وإنجازاته. ولا يهم العلم أن يرث الأرض, ولكن يهمه أن يرث الخيال الأخلاقي.. فبدون ذلك سيندثر الإنسان والمعتقدات والعلم جميعاً.

26#

ارتقاء الانسان

ليهو امش

)١(‏ صدالة قمعل1 ع1 (2) الخلايا العصبية في الدماغ

220

المؤلف في سطور:

د. جاكوب برونوفسكي

* ولد في بولندا عام 1908 لكنه انتقل مع أسرته إلى بريطانيا حيث استقر فيها وتعلم في مدارسها ومعاهدها إلى أن تخرج في جامعة كامبردج متخصصا في الرياضيات. وقد ركز اهتمامه فيما بعد على العلوم وبخاصة علم الأحياء.

* يعد أحد الباحثين الموسوعيين القلائل» فقد ألف بالإضافة إلى الرياضيات والعلوم في مجال الفنون والانثروبولوجياء وله في ذلك الكثير من الكتب والدراسات والأحاديث والحلقات التليفزيونية والإذاعية. هذاء فضلا عن كونه أحد علماء البيولوجيا البارزين.

* كان عضوا في عدة جمعيات علمية وزميلا فخريا في كلية يسوع بجامعة كامبردج.

* عمل في أمريكا منذ عام 1964 كزميل أول ومدير لمجلس جمعية علم الأحياء في الشئون الإنسانية. وهو مجلس منبثق عن مؤسسة سالك للدراضات السيوية.

* من مؤلفاته: دفاع الشاعر- وليام بليك وعصر الثورة-العلم والقيم الإنسانية-حوار جديد حول أنظمة الكون.

* توفى عام 1974 .

المترجم في سطور: * ولد في دمشق عام 1932.

* تخرج في كلية العلوم | الرواية الروسية ‏ جامفة دمشق؛ في القرن التاسع عشر 7 حصل عنككىئ د رحهة الدكتوراه في الكيمياء من تأليف: مكارم الغمري

الولايات المتحدة عام 1965.

20١

* خلال الفترة من عام 1972 حتى عام ١976‏ أعير من جامعة دمشق لجامعة الكويت حيث عمل أستاذا لمادة الكيمياء لكلية العلوم.

* حصل على درجة الدكتوراه فى الكيمياء من الولايات المتحدة الأمريكية عام 1965.

* شارك في الكثير من المؤتمرات الدولية والإقليمية في مجال العلوم والكيمياء التي عقدت داخل الجمهورية العربية السورية وخارجها.

* ترجم وألف العديد من الأبحاث في مجال العلوم بوجه عام والكيمياء بوجه خاصء وقد نشر معظمها في كبريات الدوريات والصحف العربية المتخصصة.

المراجع في سطور:

زهير محمود الكرمي

* من مواليد عام 1922 ودرس في الجامعة الأمريكية في بيروت والكلية الإمبراطورية للعلم والتكنولوجيا في لندن.

* عمل بعد تخرجه في التربية والتعليم وتدرج فيها حتى منصب الموجه العام للعلوم.

* استقال من عمله في التربية ليعمل في قطاع الصناعة التكنولوجي مديراً عاما ومستشاراً.

* أشرف على تطوير مناهج العلوم أكثر من مرة وشارك في مؤتمرات دولية عديدة في مجال تعليم العلوم وإدخال التكنولوجيا للمجتمعات النامية.

* ألف مع آخرين أكثر من 55 كتاباً علمياً لمدارس التعليم العام ومعاهد برنامج العلم والحياة الذي يبث في أكثر من قطر عربي. وراجع كتاب «الكون والثقوب السوداء» وعمل مقرراً للجنة العلمية في فريق المستقبليين في الكويت؛ وله ثلاثة أبحاث منشورة في هذا المجال.

202